الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
أكاذيب وشائعات ودول على حافة الخطر!

أكاذيب وشائعات ودول على حافة الخطر!

زارنى صديق، قبل أيام، بدا قلقا مضطربا مرتبكا، حاولت أن أخفف عنه وقلت له ضاحكا: ما بالك مثل جحا شائل طاجن ستك على رأسك وزاعق!



زغر ناحيتى موجها شرارات عينيه: ألا تحس ما نحن فيه من خنقة وأزمات؟

احتفظت بابتسامتى قائلا: قطعا لا أنكر أننا نعانى أزمة كبيرة، لكن الكرة الأرضية كلها مأزومة، ابنتى عائدة من ألمانيا من شهور وحدثتنى عن أزمات فى السلع وارتفاع فى أسعارها، وأقرأ يوميا تقارير تعيسة عن الاقتصاد البريطانى وأحوال المعيشة، ورأيت فيديو على اليوتيوب لأم أوروبية وهى تذرف الدمع حائرة بين الاختيار بين قطع الكهرباء والاستغناء عن غاز التدفئة بعد غلو أسعارهما، فانحازت إلى الكهرباء من أجل طهى طعام أطفالها على بوتاجاز كهربائى.. لا يوجد تقرير من مؤسسة مالية أو اقتصادية محترمة لا يتحدث عن أزمة اقتصادية بالغة تضرب العالم بأسره..وبالطبع لسنا استثناء.

 

تكور الغضب على وجهه وأمسك بتلابيبه، وصرخ: نحن أسوأ، نحن أكثر دول العالم ديونا، وراح يردد عشرات الشائعات التى تطلقها الكتائب المعادية لمصر وعلى رأسها الإخوان.

فقلت له: من فضلك لا تردد أكاذيب إخوانية وجهات أجنبية.

قال: أقسم لك لا أتفرج على قنوات الإخوان..هذه معلومات مؤكدة.

حاولت أن أخفف من حدته، وقلت ضاحكا: إذن أنت نسيت أن شغلى طول حياتى قائم على المعلومات، وتعلمت التفرقة بين المعلومات الصححية وغير الصحيحة حين أقرأها على مواقع إخبارية موجهة أو لها موقف مضاد أو على شبكات التواصل الاجتماعى، ويبدو أنك تشكك فى مهنيتى.

تراجع قليلا.. أكملت كلامى: قنوات الإخوان ما هى إلا «آلات شر» لصناعة هياكل الأكاذيب التى تُدخل فيها خبرا أو معلومة صحيحة، حتى يبدو الهيكل قابلا للاستخدام الآدمى، ثم تلتقط كتائب إلكترونية وهى بالمئات على شبكات التواصل الاجتماعى هذه الهياكل، وتجزئها إلى شرائح، على الفيسبوك، وتويتر، وإنستجرام ويوتيوب.. إلخ، ودائما هناك جملة استهلالية أنا مش إخوان ولكن، وينقلها عنهم أصحاب الصفحات بالمشاركة والتعليق سواء عن جهل أو غضب، ويصدقها واحد «زى حالتك»، بعد اختفاء مصدر الشر الأصلى خلف سلسلة التداول!

لم يقتنع صديقى وهو محدود الثقافة عرفته حين كنا صغارا فى شبرا، ولم تنقطع علاقتنا، وإن باعدت بيننا الأيام ومشاغل الدنيا، فنتقابل حين ميسرة كل بضعة أشهر.

وعاد يردد أشياء عن الاقتصاد والدولار والتنمية ومياه النيل.

قاطعته بهدوء: كل ما ما تتحدث عنه مسائل لها معايير وقياسات ومؤشرات، ولا يصلح فيها أن نطلق الكلام على عواهنه، هذه معارف لها أصول معرفية وليست مجرد آراء وانطباعات.. وأخرجت مذكرتى الخاصة، وقلت له بعض الأرقام عن مجمل ديون العالم 300 تريليون دولار، مصر رقم 53، وهى الـ14 على العالم فى عدد السكان، وأمريكا هى أكثر دولة مدينة فى العالم، صحيح أنها أكثر دول العالم إنتاجا للسلع والخدمات وإجمالى الناتج القومى لها يقترب من 22 تريليون دولار، إذن نحن نتحدث عن حجم ديون مقارنة بإجمالى الناتج القومى، وليس بشكل مطلق، ومع هذا لا يوجد فى مصر من يحبذ ديونا، فنحن لنا تجربة مريرة معها فى القرن التاسع عشر، وهنا يأتى دورنا، أقصد دولة ومجتمعا فى التفكير السليم فى انتهاز فرصة الأزمة، ونعيد بنايات الاقتصاد المصرى، لنرفع قدراته على إنتاج السلع والخدمات ونقلل استيرادهما من الخارج.. لم تعد الصناعة وتوطينها بجدية ترفا فى بلادنا، نريد أن يقترب من 40 ٪ من الناتج القومى المصرى فى سنوات قليلة قفز إلى معدلات أكبر، بدلا من الـ17 ٪ الحالية، ولن يحدث إلا بتوطين صناعات بعينها لنا فيها ميزات نسبية خاصة فى المواد الخام كالرمال النقى وكربونات البوتاسيوم والشمس والجرانيت والرخام والبحار والبحيرات وغيرها من الخامات، صحيح أن الحكومة حاليا تعمل على ذلك، لكن وحدها لا تستطيع، خاصة فى ظل عراقيل وجماعات قوية تستميت فى الدفاع عن الاستيراد والاحتكار، وعليها أن تضع السياسات والخطط التى تفتح الطريق وتمهده أمام القطاع الصناعى الخاص ليتوسع بقدر ما يستطيع، فتحل مشكلاته بفاعلية، خاصة فى ديونه وفوائدها، وتمنحه قدرا من المغريات، حتى يمكن أن تضيق مساحة استيراد السلع تامة الصنع تدريجيا، طبعا لا يوجد دولة فى العالم تستغنى عن استيراد احتياجات متزايدة لها من الخارج، ولا تستطيع لو أرادت، لكن الدولة التى تسعى إلى تنمية مستدامة وتطوير إمكاناتها هى التى توازن بين وارداتها وصادراتها، لا تبيع موادها الخام وإنما تستغلها صناعيا فتتضاعف قيمتها مئة مرة على الأقل، وتحقق فائضا نسبيا لمصلحة الصادرات، فلا تعيش عالة على المستورد، وتعرض نفسها لمخاطر وديون مع أى هزة ولو طفيفة فى الأسواق العالمية.

هز صديقى رأسه وقال: أتمنى أن أكون مخطئا!

قلت: التمنيات لا تصنع حقائق أو تغير واقعا، هناك مؤشرات لمختلف أوجه النشاط السياسى والاقتصادى والاجتماعى مثل مؤشر الإرهاب ومؤشر الأمن ومؤشر التسليح ومؤشر السعادة ومؤشر حرية الإعلام، هل سمعت عن مؤشر الدول الهشة وهو مؤشر ينظمه صندوق السلام وتنشره مجلة فورين بوليسى سنويا عن ترتيب الدول حسب التهديدات والمشكلات والأزمات التى تعيشها.

قال: لم أسمع عنه، لكن هل ما تعلنه من نتائج موثوق فيها؟

قلت: قد نختلف أو نتفق معها، لكنها عبارة عن إحصاءات وأرقام ومعدلات، وكلها علامات مهمة على ما يحدث على كوكب الأرض من صراعات وعلاقات وأحوال بشر، وهو يصنف الدول حسب عناصر التهديد الأعلى نزولا إلى تراجع هذه التهديدات وانحسارها. سأل: وكيف يحسب؟

أجبت: يتكون المؤشر من 90 عنصرا، تتشكل فى 12 وصفا اجتماعيا وسياسيا وعسكريا واقتصاديا، لا يترك صغيرة ولا كبيرة فى الدولة دون قياسها مثل النمو السكانى، البيئة، التلوث، العنصرية، الصراعات العرقية والدينية، الصحة العامة، الطرق، البنية الأساسية، معدل الجريمة، الفساد، البطالة، توظيف الشباب، العجز الاقتصادى، رأس المال البشرى، التعليم، التدخل الأجنبى فى الشئون الداخلية، المساعدات الخارجية، باختصار لا يترك شاردة ولا واردة دون أن يقيسها، وقطعا هناك هامش للأخطاء، فالمؤشرات ليست فى النهاية عمل رياضى بحت، حتى لو جمعت ما بين تقنيات العلوم الاجتماعية وتقنيات المعرفة.

وماذا يقول المؤشر؟

أجبت بسؤال: ما هى فى رأيك أكثر دولة استقرارا فى العالم؟، لا تتعب نفسك، لن تخطر على بالك، لا هى الولايات المتحدة ولا اليابان، حسب آخر مؤشر صادر فى يوليو هى فنلندا فى المركز الأخير بنسبة مخاطر 15.1 يتبعها بقية الدول الاسكندنافية، مقابل اليمن الأشد هشاشة فى المركز الأول بنسبة مخاطر 111.7، وبالمناسبة إثيوبيا فى المركز الرابع عشر ومخاطرها 99.3، أما مصر فقد جاءت فى المركز الخمسين بـ74 نقطة، مثلا تركيا فى المركز 63، والبرازيل فى المركز 72، والفارق فى عدد النقاط ليس شاسعا،، لكن الأهم أن مصر قلت فيها المخاطر خلال السنوات الخمس الأخيرة 15 مركزا.

بالطبع اقتربت دول إفريقية وإسلامية وعربية من الحصول على درجة جيد جدا فى التهديدات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية كالصومال وجنوب السودان وإفريقيا الوسطى والكونغو الديمقراطية وأفغانستان وسوريا والعراق ونيجيريا، وهو أمر منطقى فما زالت هذه الدول وغيرها تعانى من اضطرابات وقلاقل.

لكن الغريب حقا أن تحصل الولايات المتحدة على نقاط مرتفعة فى عنصر «إحساس المواطنين بالعدالة»، أى هبوط شعورهم بالعدالة، وهو أمر ليس غريبا فى مجتمع تنشب فيه مصادمات عنصرية عنيفة من آن لآخر وينمو فيها التعصب بدرجة كبيرة حتى أن التنظيمات المتطرقة اقتحمت مبنى الكابيتول فى يناير 2021 اعتراضا على سقوط دونالد ترامب ورفضها تسليم السلطة إلى الرئيس المنتخب جو بايدن، وبالمناسبة الولايات المتحدة فى المركز 141 بـ 46.7 نقطة.

ويركز التقرير بصفة أساسية على أوكرانيا، باعتبارها من الدول التى هبطت إلى الهشاشة بدرجة كبيرة، بعد الحرب الروسية، وفرار ملايين اللاجئين منها.

ما أود أن أقوله لك: عندنا مشكلات نعم، عندنا أخطاء نعم، لكن مثلنا مثل غيرنا من دول العالم، لكن الشائعات والأكاذيب هى أخطر ما نواجه، فهى تعمل على أن نيأس، ونفقد الثقة فى أنفسنا وبلادنا، واليأس قرين الموت، والحياة أن نحلم ونطلب ونطالب ونشتغل وتعلو أصواتنا ونصحح ونجتهد ونتحرك دوما.