الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
حدث فى قطار أبو قير!

حدث فى قطار أبو قير!

مثل طائر مهاجر من بلاد شتوية بعيدة جَلَسَت أمامى داخل عربة قطار أبو قير بصحبة رجل يبدو زوجها، ركبا سويا من محطة المندرة، بشرة بيضاء ضربها الاحمرار بخفة أضفى رونقا فبدت أصغر من سنها، الذى يقترب من الستين، لبسها كلاسيكى أوروبى الذوق يناسب النمش المتسلل إلى وجهها، قميص وردى لامع وبلوفر أبيض على بنطلون بيج واسع، منديل مزخرف بألوان مبهجة حول الرقبة ربما يخفى تجاعيد هلت دون استئذان.



 

رحت أخمن جنسيتها، إيطالية أم يونانية، ملت إلى أنها يونانية دون سبب، ولها تاريخ مع المدينة ومعرفة وثيقة بها، وإلا ما ركبت قطار أبو قير الشعبى جدا، الزوج قمحى مصرى فى الستين، ملابسه عادية، يبدو أنه كان رياضيا فى شبابه.وتساءلت مع نفسي: لماذا ركبت أجنبية قطار أبو قير المتواضع جدا؟، كل ما فى القطار متهالك أو مُتْعب أو انتهى عمره الافتراضى،ولا ينتمى لزمنه إلا التليفونات المحمولة التى انكب عليها الركاب كما لو أنهم يلقون بهمومهم فى الواقع الافتراضى،إلا قلة منهم دخلوا فى حوارات جانبية، بعضها همسا. 

رحت أقلب الفكرة فى عقلى،وجدت أسبابا منطقية جدا لاختيارها وزوجها القطار، قطار أبو قير أسرع مواصلة بين شرق المدينة ومحطة سيدى جابر، صحيح أنه يتقاطر كل عشرين دقيقة على الأقل وهى مدة طويلة جدا، لكنه أرحم من أى سيارة تتحرك فى شارع جمال عبد الناصر أو شارع الكورنيش، سائقو الميكروباص جعلوا الشارعين جحيما، لا يمكن أن يتحرك الميكروباص أكثر من مئة أو مئة وخمسين مترا دون أن يقف، ينزل راكب أو يصعد آخر، وقد يتمهل انتظارا لثالث يعبر الشارع، وهو ما تفعله الأتوبيسات العامة التى لم تعد تعترف بمحطات الركاب، ويبدو أن تلك المحطات القديمة صارت شواهد قبور على نظام كان، ناهيك عن مشاة يفضلون العبور عشوائيا، فى مناطق بها إشارات مرور إلكترونية للمارة، وهو ما يبطئ من الحركة إلى حد ما. ذات مرة أخذت ميكروباصا من المندرة إلى سيدى جابر قبل ميعاد قطار القاهرة بساعة، والمسافة بينهما لا تزيد على عشرة كيلومترات إلا بمئتى متر، وصلت بالكاد قبل أن ينطلق القطار بدقيقتين، بسبب الزحام الشديد وكثرة التوقف، أما قطار أبوقير فهو يقطع المسافة فى ثلث ساعة.

إذن طبيعى جدا أن تتحمل السيدة الأجنبية الأنيقة هذه الدقائق، أرحم من أى مواصلات أخرى فى مدينة نحيفة على ساحل البحر، شريط مزدحم أدمن سكانه الجدد العشوائيات لأكثر من ربع قرن.

لفتت السيدة  أنظار أغلب الركاب، تناوبوا   تصويب عيونهم المتسائلة المندهشة عليها، بالرغم من أن أهل الإسكندرية معتادون على الخواجات من قديم الأزل، تجارة وزيارة بحكم موقع المدينة المطلة على بحر يربطها بأوروبا، ثم صداقة وجيرة ومعيشة مباشرة لعشرات السنين مع مهاجرين من اليونان وأرمينيا وقبرص وإيطاليا وكريت ومالطة وفرنسا..الخ.

طبعا كانت إنسانا غريبا فى القطار، شعرها بنى مالت بعض خصلاته إلى الأصفر الغامق، بينما معظم الراكبات محجبات وبعضهن منقبات، لم تبد أى رد فعل على النظرات المحدقة، يبدو أنها تعودت عليها، فقط مالت إلى جارها وهمست فى أذنه ببعض كلمات، فضحك وطبطب على يدها..

كانت خناقة خفيفة قد نشبت بين كمسارى القطار وثلاثة من الشباب، بدوا صنايعية، ركبوا القطار دون تذكرة، قال واحد منهم للكمساري: إحنا مجهدين جدا، كنا شغالين طول النهار، ويادوب لحقنا القطر فى آخر لحظة وهو طالع؟

رد الكمسارى: «مش شغلى.. الغرامة 50 جنيه».

رد الشاب: «هو أنا اشتغلت بكام عشان أدفع منها 50 جنيه، معقول تذكرة بـ3 جنيه، ادفع فيها 50 جنيه»؟

 تعالت الأصوات، كاد يقع اشتباك، تضامن ركاب مع الشبان الثلاثة، لم يقدر الكمسارى على إجبارهم على دفع الغرامة، فنزلوا فى المحطة التالية.

فعلا..كيف تتوحش غرامة تذكرة ركوب بثلاثة جنيهات إلى خمسين جنيها؟، من الذى حددها؟، كيف حسبها؟، ولماذا اختار هذا المبلغ الفاحش؟، وأصلا من سيدفعه فى أرخص مواصلة عابرة لأحياء شعبية فى مدينة الإسكندرية؟، هل يعلم صاحب الغرامة أن فلسفة أى قانون أو إجراء له علاقة بالناس هى قدرة الناس على تنفيذه بسهولة؟، فالقانون ليس فخا أو كمينا، وما قيمته إن لم يستطع الناس الانصياع له بإرادتهم الحرة؟، ألم يكن ممكنا أن تكون التذكرة داخل القطار بخمسة جنيهات أو سبعة على الأكثر، على أن تحدد حوافز للكمسارية على «حصيلة اليوم» حتى لا يسهون عن عملهم؟

لم أفهم من طبطبة زوجها على يدها هل كان يشرح لها ما حدث أم لا، وقبل أن يأخذنى التخمين إلى غايته، نزلت وزوجها فى محطة النقراشى باشا أو فيكتوريا، فقال شاب ملتح لصاحبه بعد أن تحرك القطار: مؤكد فى النار..زوجها لا يقدر على تحجيبها، حماية أجنبية.

حمدت الله أنها نزلت قبل هذه العبارة، والأهم أنها لم تر ولم تشم روائح القمامة التى لاحقتنا من النقراشى إلى سيدى جابر، ولو كنت جربتها ما عرفت سكة القطار مرة ثانية.

لأسباب قد يعلمها السكان على امتداد سكك حديد أبو قير، وأشك أن يعلمها السيد محافظ الإسكندرية، أو رؤساء الأحياء التى يمر بها القطار، وهى الرمل، وغبريال، والسوق «باكوس»، الظاهرية ثم سيدى جابر، المحطة التى صارت نهاية الخط، بدلا من محطة مصر التى أُغلقت فى وجه قطار أبو قير، وقيل لتجديدات، انتهت فعلا، لكن القطار ظل فى سيدى جابر، ربما لتوفير تكاليف المسافة وتقليل الخسائر، سولارا ووقتا.

 على جانبى حرم المسافة بين هذه المحطات تنتشر سلاسل من مقالب الزبالة بالمعنى الحرفى، البعض يراها من الشباك القريب، لكن الجميع يقع بالإكراه فى قبضة رائحتها النفاذة الكريهة،  شىء مقزز حقا، وإذا استفزتك الروائح ونظرت عبر الأبواب العارية، فسوف يصدمك حجمها، تلال وراء تلال يلتف حولها جامعو قمامة ينقبون فيها عن أشياء بعينها، أو يلقون عليها ما جمعوه..بضعة كيلومترات كاملة يتحرك فيها القطار وسط تلك التلال، خاصة إذا كنت راكبا فى نهاية نهار أو فى الليل،  شيء صعب وغير إنساني!

لا تسل أين رؤساء هذه الأحياء؟، لا تسل عن هيئة النظافة فى الإسكندرية؟ لا تسل عن محافظ المدينة أو مساعديه؟، لا تسل عن نواب البرلمان عن المدينة أو عن الدوائر التى تقع فيها هذه الأحياء؟، فالسؤال لن يجدى، وإلا ما تكومت القمامة بهذه الكيفية المهينة..مؤكد هم فى عالم آخر، لهم اهتمامات مختلفة، وسيقولون لك مشكلاتنا كثيرة وعصية على الحل.

لكن السؤال الأهم: أين وزارة النقل؟، أين هيئة السكك الحديدية..إلخ؟

قطعا لا تقع نظافة حرم السكك الحديدية فى معية وزير النقل أو مسئولية رئيس الهيئة أو مدير حركة القطارات بالرغم من ملكية الهيئة له، لكن حماية الحرم والعمل على راحة الركاب من صميم واجباتهم، وكان يجب أن يضغطوا دوما على المحافظ وإداراته أن يجدوا حلا لهذه المشكلة.

المهم وصلت إلى سيدى جابر، أخذت قطار القاهرة، وسعدت أننى تخلصت من تلك القمامة، لكننى كنت ساذجا، جلس بجوارى شاب ملامحه غربية على شرقية، وكعادة المسافرين الغرباء انخرطنا فى حديث نقطع به ساعات السفر الثلاث، بدأ بسؤال عن معانى كلمات عربية بالإنجليزية، هو مهندس روسى،دبرت له أمه ثمن أرخص تذكرة طيران من موسكو، فكانت إلى الغردقة، حتى يتجنب التجنيد والحرب الأوكرانية التى طالت أكثر مما توقع الروس، ويبدو أنه يبحث عن عمل فتحرك بين المدن، وطار الحديث بيننا فى فضاءات واسعة بين روسيا وأوروبا والرئيس بوتين، ثم فاجأء سألنى: ما سبب كل هذه القمامة على جانبى طريق القطار؟

 التفتُ إلى الناحية الأخرى كأننى لم أفهم سؤاله!