الأحد 10 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
التلقين.. التلقين

التلقين.. التلقين

 التلقين.. التلقين.. التلقين، إنه آفة الآفات.. وجوهر كارثة التعليم وتردّيه وسر أزمته المتلاحقة.. ومشاكله المتعددة فى بلادنا لعقود طويلة ربما تمتد منذ أن أثارها عميد الأدب العربى «طه حسين» فى كتابه المهم «مستقبل الثقافة فى مصر» ونبّه إلى خطورتها وحذّر من تداعياتها.



أتذكر أننى حينما كنت طالبًا بكلية الفنون التطبيقية منذ أكثر من أربعين عامًا ويُدَرّس لنا فنانُ المونتاچ الكبير «سعيد الشيخ» تلك المادة الإبداعية أن ردد فى إحدى المحاضرات ساخرًا ومحورًا لعبارة «الدَّيْن هَمٌ بالليل ومذلة بالنهار».. واستبدل هازلًا كلمة الدَّيْن بكلمة المونتاچ، مُعَبرًا عن مَتاعب المهنة ومشاقها.. وبعد عدة محاضرات أراد أن يختبرنا متسائلًا: «ماهو تعريف المونتاچ.. وإذا بطالبة تجلس دائمًا فى الصف الأول وتواظب على كتابة كل ما يتفوّه به الأساتذة وتحصل على أعلى الدرجات فى المواد النظرية تهتف فى ثقة «المونتاچ هَمٌ بالليل ومذلة بالنهار».

ويدور الزمن دورته.. والأوضاع لا تتغير.. ففى أثناء وزارة «د.طارق شوقى» تصرخ طالبة باكية منتحبة بعد خروجها من لجنة أحد الامتحانات «احنا ماتفقناش على كده.. الأسئلة محتاجة تفكير».. وتقصد بالعبارة إدانة واستنكار موقف واضعى امتحانات الثانوية العامة ومسئولى وزارة التربية والتعليم لحنثهم بالوعد وخداع الطلبة من خلال تصريحاتهم الدائمة فى وسائل الإعلام المختلفة التى تشير بامتحانات سهلة أسئلة لا تخرج عن المقرّرات ولا نماذج الإجابات وتتسم بالنقل والمباشرة وتتماشَى مع طرُق التدريس التى تعتمد على التلقين والنقل والحفظ.. وتتسق مع خطة الوزارة الاستراتيچية التى تعلنها دومًا بزهو وفخر بحرصهم على أن تكون أسئلة الامتحانات فى مستوى الطالب المتوسط مكافأة له على التزامه المحمود بسياسة الوزارة بإلغاء ومحو التفكير وإعمال العقل.. وفى إطار الخطة الجهنمية لتطوير التعليم بمحاولة تدعيم المناهج المتخلفة والتراثية المتحجرة التى لا تتناسب مع العصر.. والمحافظة القدسية على الحفظ والصم واجترار سطور الكتب.. تتوالد أجيال أولئك الذين يجتازون مرحلة الثانوية العامة.. ويدخلون إلى الجامعات والمعاهد مما تربوا على القبوع فى خنادق ازدراء التفكير ونبذ المعرفة والوعى ويعنون بإقصاء العقل باعتباره من المحرمات.. واختفت تلك الأسئلة السخيفة من نوعية: حلل – ناقش – وضّح – اشرح بأسلوبك – قارن – عبّر عن وجهة نظرك – استنتج – برهن – أثبت – دلل – علّل.. ومن هنا فقد تفشّت تلك الظاهرة المخزية المتصلة بسيطرة ديناصورات السناتر وتفاقمها السرطانى والتى أصبحت بديلًا تجاريًا مزريًا للمدارس الحكومية ورضخ لها جموع من أهالى الطلبة الذين يثورون من شكاوَى أبنائهم من صعوبة الأسئلة التى يعتبرونها خارج المنهج لمجرد أنها تتسم بعدم المباشرة.. وكنت أتصور أنه بدلًا من المصالحة والمشاركة مع أباطرة مافيا السناتر والدروس الخصوصية، وفى إطار فشل المسئولين عن التعليم فى السيطرة عليهم أن يتجهوا إلى الإصلاح الحقيقى الذى ينبذ ثقافة النقل والحفظ والتلقين.

وفى يقينى أن تلك السناتر- فى هذه الحالة- سوف تغلق أبوابَها من تلقاء نفسها.. دون مطاردات أمنية وتختفى أيضًا بالتبعية ظاهرة الغش الفردى والجماعى المستعصية.