نظرية المؤامرة.. الشماعة وحائط الصد!

كان السؤال غريبا وليس مفاجئا: هل يمكن أن تشتعل حرب نووية من جراء الصراع الروسى الغربى فى أوكرانيا؟

قلت ببساطة: فى حالة  وحيدة   فقط، لو  تعرضت روسيا لخسارة مذلة للحرب فى أوكرانيا، وهذا ما قاله صراحة البروفيسور الروسى الشهير ألكسندر دوجين على شاشات التليفزيون فى أكثر من حوار معه، وهو الملقب بعقل بوتين، والذى اغتيلت ابنته قبل شهرين فى عملية تفجير لسيارتها.

كنا مجموعة من صحفيين وأصدقاء مهنيين جلوسا  فى كافيه على البحر بالإسكندرية نحتفل بعيد ميلاد صديق سكندرى طبيب عيون، وجرفتنا الأحداث  من بهجة الحفل والمرح إلى كآبة السياسة والأحوال المضطربة.

ضحك الطبيب: يعنى كلها كام شهر والعالم ينتهى، معقول أن يصل الغباء بالعالم إلى هذه الدرجة، يبدو أن البشرية تتآمر على نفسها!

رد أستاذ جامعي: مرة ثانية نظرية المؤامرة، كنا صدقنا أننا تخلصنا منها، هل يعقل فى كل حدث وكل فعل أن نرفع يافطة إلحق مؤامرة؟، يبدو أننا نحب نظرية المؤامرة لندفن فيها خيبة المنطقة العربية وفشلها فى تأسيس حياة عصرية لدولها وأهلها.

قلت: يا دكتور.. إذا لم تكن هناك مؤامرات، فما الذى تفعله أجهزة المخابرات فى أربعة أجزاء المعمورة، هل هى مكاتب سياحة وجمع معلومات؟، المؤامرة جزء من إدارة الصراعات على الأرض منذ بدء الخليقة، فرديا وجماعيا، لا تخلو حضارة إنسانية من مؤامرة داخلها أو من خارجها، «المصريين القدماء والإغريق والرومان والفرس والعرب والعثمانيين واليابانيين والغربيين».. إلخ، فالصراع دوما على الموارد الطبيعية والنفوذ والسيطرة، وهى أهم أدوات صناعة الثروة والسلطة والتقدم، هل كان يمكن للإغريق أن يصنعوا هذا المجد من مجموعة جزر صخرية محدودة الموارد فى البحر المتوسط دون غزو العالم، هل كان يمكن أن يستمر حكمهم له دون تخطيط وتدابير ضد شعوبه؟، هل كان يمكن أن يرتفع الرومان إلى هذه الدرجات العظيمة من الرقى وهم يسكنون أرضا تشبه حذاء سيدة بكعب عال تضربها البراكين أحيانا؟!، هل كان يمكن للعرب أن يسودوا الدنيا ما يزيد على سبعة قرون وهم فى الصحراء الفارغة؟.. إلخ، أطماع الثروة والسلطة لا تهدأ ولا تشبع، وبالتالى يستحيل أن تتوقف المؤامرة أو تأخذ هدنة، لا على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الدول.

ضحك صديقى الطبيب قائلا: كنت أتصور أن المؤامرة مرض عقلى عربى بحت!

قلت: لا يا صديقى..  نظرية المؤامرة من الناحية العلمية اختراع غربى مئة فى المئة، وظهرت أول مرة فى عام 1909 فى الولايات المتحدة، واستخدمت على نطاق واسع أخذ يتسع تدريجيا فى محاولات فهم أحداث كبرى مؤثرة تبدو غامضة فى أسبابها ودوافعها، ثم صارت نظرية شائعة بعد مقتل الرئيس الأمريكى جون كنيدى فى 22 نوفمبر عام 1963، فالرئيس الخامس والثلاثون للولايات المتحدة لقى مصرعه على الهواء وأمام عشرات الملايين من المشاهدين ووسط حراسة كثيفة فى مدينة دالاس بولاية تكساس، ولم يٌعرف حتى هذه اللحظة ماذا حدث.

كما أن مصطلح نظرية المؤامرة شق طريقه إلى قاموس أكسفورد الشهير، وبدأت تتأصل ويكون لها جسم وأذرع وأقدام سواء بالتشكيك فيها أو بتأكيدها حسب نوع العلم الذى يتناولها، فعلم السياسة تحدث وتوسع فى التفسير المريب لها وجنوحها إلى الخيال، فالمؤامرة عمل سرى فيه اتفاق بين أطراف على عمل مخالف للقانون وقد يأخذ شكلا قانونيا، ويحدث بشكل جماعى متسق مع بعضه، بينما علم الاجتماع مال إلى تأكيد واقعيتها، مبرهنا عليها «بوقائع ونتائج» لها وجود مادى وغير قابلة للتفسير المنطقى.

المدهش أن الأوربيين يصفون الولايات المتحدة بأنها موطن نظرية المؤامرة وسر انتشارها، ولا يميلون إلى تصديقها.

وانقلب الحديث من أوكرانيا والحرب العالمية إلى نظرية المؤامرة علينا وفساد عقولنا وأسباب تخلفنا.. الخ. ضحكت  مشيرا إلى البحر الذى بدا هادئا كما لو أن أمواجه قد تعبت مع نهاية الصيف وركنت إلى راحة إجبارية قبل أن تشتد مع الشتاء، وقلت: خسارة أن نُضَيع على أنفسنا المشهد الساحر فى كلام عن الحرب والمؤامرات والأزمات والأسعار.

قال صحفى مخضرم: كل شيء مضطرب مرتبك، كما لو أن موجة من الجنون ضربت الكرة الأرضية، نشرات الأخبار كلها مصائب، ما بين حرائق وجفاف، وحروب ومناخ ملوث وجرائم غريبة، الناس باتت فى خوف شديد بسبب الأزمة الاقتصادية وتداعياتها على حياتهم، حتى وهم يضحكون ويلعبون ويصفقون ويقفزون، الكل مهموم بالغد وما يحمله لهم ، لا أحد يعلم متى أو كيف تنتهى هذه الحرب الروسية الأوكرانية ويرحل شبح الحرب النووية، ما تداعيات نقص السلع وإمدادات الطاقة، ولو نظرنا داخلنا هل يمكن للمؤتمر الاقتصادى الكبير القادم أن يضع لنا خريطة طريق تخرج بنا إلى حالة انتعاش؟

علق الأستاذ الجامعى ضاحكا: خلاص.. عثرتم على شماعة لكل مشاكلنا ومشاكل العالم.

قلت: صحيح المؤامرة خبز يومى فى الصراعات تتعاظم كلما كانت الغنائم شهية، لكن الخائبين فقط هم الذين يتعللون بها فى فشلهم، فإذا كانت المؤامرة تخطيطًا لا انطباعات، فهزيمتها تخطيط لا انفعالات أيضا، ولنأخذ عبرة بأحداث الربيع العربى،أفشلنا  المؤامرة علينا بعقولنا وتكاتفنا وأعمالنا، بالرغم من إمكانات المتآمرين الهائلة ماليا وإعلاميا وإرهابا، وقدرتهم على تجنيد جماعات وظيفية داخل جسم المجتمع مثل الفيروسات تهدم من الداخل تحت ذرائع لها بريق وطنى أو سياسى أو اجتماعى أو إنسانى.

نعم الأغبياء فقط هم الذين يجلسون القرفصاء يولولون ويلطمون خدودهم، ويلصقون بها كل أزمة لا يستطيعون حلها، لكن الأقوياء يصدونها بوعى وفهم ونظام دفاعى رادع اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا وإعلاميا، والنهوض من الأزمات الطارئة أو حتى الطويلة لا يلزمه فقط عناصر معنوية لشحذ الهمم والطاقات والتكاتف صفا واحدا، وهذا مهم جدا، لكن الأهم هو صناعة نظام عمل قادر على تجميع قوى المجتمع الشاملة، تشده إلى الأمام وتصل به إلى ما يريد.

قال صديقى طبيب العيون: ماذا تعنى بالضبط؟

قلت: لا مؤامرة ناجحة دون عقل منظم وجهد متواصل.. ولا يمكن كسرها دون عقل علمى منظم وجهد منتظم، والتفوق مفتاحه التفكير العلمى وطرح أسئلة صحيحة خارج المؤامرة والمتأمرين، وإجابتها هى أعظم حائط ضدها، أسئلة تبحث عن أسباب التقدم والانتقال من حالة مأزومة إلى حالة أفضل.

وهو ما أجبنا عليه بعد 5 يونيو 1967، فحققنا معجزة 6 أكتوبر 1973، بإمكاناتنا الذاتية موارد وبشرا.

فى حرب أكتوبر عملنا على نساقين: تخطيط عاجل وتخطيط طويل الأجل، وتحكم فيهما التفكير العلمى المنظم، وفرقنا بين عالمين.. 

عالم السياسة والجماهير وعالم الإدارة والأعمال، عالم السياسة رؤى متنوعة ومتجددة، وهذه الرؤى تسمح بالاختلاف والقرارات المتغيرة والحوار والأخذ والرد طول الوقت، وفيه قدر من الحرية والمرونة واسع بطبعه، خاصة أن نتائج السياسة تأخذ وقتا نسبيا قبل أن يظهر تأثيرها على حركة المجتمع كله.

عالم الإدارة والأعمال أكثر صرامة وحزما فى السياسات التى يتبعها القادة المحترفون فى إدارة المؤسسات والمشروعات، والنتائج فيها سريعة الظهور والوضوح، ويمكن قياسها العلمى شهريا أو كل ثلاثة شهور فى مشروع.

وعموما أهم عنصر فى كفاءة المجتمع هو قدرة السياسة على استخراج أفضل المهارات والطاقات الكامنة من أفراد هذا المجتمع، بإزالة أى إحباطات أو عوائق تقلل من جهدهم وإبداعاتهم، ثم استثمار موارد هذا المجتمع الطبيعية بطريقة صحيحة، تحقق أكبر عوائد ممكنة، على أن توزيع هذه العوائد على قطاعات المجتمع بطريقة أقرب للعدالة، لأن العدالة المطلقة لا وجود لها فى الحياة، طبقا لجهد ومهارات وطاقة الأفراد.

هذا هو نظام العمل القادر على مواجهة أى مؤامرة، أى صناعة واقع حائط صد يعيش أفراده فى جودة معيشة معقولة .

رفع الأستاذ الجامعى يده محتجا: العودة إلى البحر أحسن من وجع الدماغ، هذا كلام ثقيل وقابل للجدل. قال طبيب العيون: على رأى المثل رميت فى البحر همومى طلع السمك يشتكي!

فغرقنا فى الضحك وكلنا أمل فى غد أفضل.