السبت 4 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
زيارة جديدة لأيام المجد والكبرياء هيكل والسادات ومعركة أكتوبر

زيارة جديدة لأيام المجد والكبرياء هيكل والسادات ومعركة أكتوبر

«ليس هناك عمل عظيم يقفز من الفراغ فجأة، وليس هناك «ثمر» بغير أشجار، ولا أشجار بغير «بذور»، ومع ذلك فإن العبرة ليست بالخطط.. وإنما العبرة بالقرار السياسى الذى يضع هذه الخطط موضع التنفيذ، ولا يمكن قوة على الأراض أن تنسب قرار «أكتوبر» العظيم إلى أحد غير صانعه، وهو «أنور السادات».. ذلك قرار سوف يظل مجدًا مقيمًا له، ومجدًا مقيمًا لمصر، ومجدًا مقيمًا للعرب. 



ولقد كنت بنفسى أول من أطلق على أنور السادات وصف «صاحب قرار أكتوبر»، ولا أظن أن «أنور السادات» يريد مدخلا إلى التاريخ كونه فعلاً «صاحب قرار أكتوبر العظيم»

 

هكذا كتب واعترف الأستاذ الكبير «محمد حسنين هيكل» فى مقدمة كتابه «الطريق إلى رمضان»، تلك المقدمة التى كتبها خصيصًا للطبعة العربية من كتابه بعد حدوث ضجة هائلة بعد نشر فصول من كتابه فى صحيفة النهار البيروتية، ثم صدر عن دار النهار سنة 1975 ترجمة «يوسف صباغ».

إن قصة الأستاذ «هيكل» وكتاباته – مقال وكتب – عن حرب أكتوبر سنة 1973 وبطلها أنور السادات تستحق زيارة جديدة لكل أو معظم ما كتبه «هيكل» سواء وقت المعركة أو بعدها أو حتى بعد رحيل السادات فى 6 أكتوبر عام 1981 وخاصة فى كتابه «طريق الغضب»!

بعد مرور ستة أيام كتب هيكل فى مقاله بصراحة «12 أكتوبر 1973» وتحت عنوان «محاولة تصور للموقف» وفى مقاله تساءل، ما الذى حققناه حتى الآن فعلا ؟ والرد عليه كما يلى : 

حققنا «القرار» بقبول التحدى، و«القرار» هنا مرادف دقيق لمعنى «الإرادة»، ولكن القرار لم يكن سهلا، أى أنه بالنسبة لأنور السادات فإن القرار كان مصيريًا وفى الوقت نفسه فقد كان عليه أن يتخذه وحده، وربما كان من حقه وواجبه أن يسمع ويناقش، لكنه فى النهاية كان مطالبًا بأن يكون وحده عقلاً وقلبًا وضميرًا ثم يصل إلى القرار ويتحمل تاريخيًا مسئوليته. 

ويضيف الأستاذ هيكل هذه الواقعة ذات الدلالة البالغة الأهمية : 

«أتذكر حوارًا مع «أنور السادات» جرى فى مساء يوم الجمعة 21 سبتمبر الماضى فى شرفة استراحة برج العرب المطلة على البحر، كان جالساًَ فى صمت لبعض الوقت، وكان فيما بدا يتأمل منظر غروب الشمس فى هذه البقعة الجميلة من شاطئ مصر الغربى، لكنه فجأة شد نظره عن مشهد الطبيعة ليقول لى:

إن القرار بالنسبة لغيرى تعامل مع الأفكار «والتقديرات» والاحتمالات وأما بالنسبة لى فإن القرار تعامل مع الحياة والموت، والمسألة لا تتعلق بشخص فقد عرفت الحياة وواجهت الموت، ولكنها تتعلق بألوف.. مئات الألوف من الرجال سوف يأخذون الكلمة منى وفوق ذلك هناك كرامة ومستقبل وحياة أمة فى الميزان». 

ولم أشعر – الكلام لهيكل – أننى أحس بأزمة «الاختيار الإنسانى، كما أحسست بها فى تلك اللحظة، لكن ذلك كان دوره وكان قدره كما قال هو أكثر من مرة. 

 كان اختياره هو «القرار» وكان «القرار» هو التعبير عن الإرادة «الوطنية والقومية».

هذا المقال وغيره من المقالات التى كتبها الأستاذ هيكل ذكرها كاملة فى كتابه «عند مفترق الطرق حرب أكتوبر ماذا حدث فيها ماذا حدث بعدها» بعد رحيل الرئيس السادات بعامين وفى المقدمة الطويلة أتوقف عند سطوره التى يقول فيها: 

«فى بداية خريف سنة 1973 أصبح واضحا أن المعركة لم يعد ممكنا تأخيرها، ولسوف أظل إلى آخر العمر مدينا لأنور السادات بأنه أشركنى فى عملية الإعداد السياسى والإعلامى لها، وهكذا فإن منذ أوائل سبتمبر 1973 وحتى بدأت المعارك واحتدمت فى أكتوبر وجدتنى أقرب الناس إليه، وكان يستطيع تجنبى لو أنه شاء، ولم يكن فى مقدورى أن أفرض نفسى عليه !

ولقد كنت طرفا محاورا – بتجرد وإخلاص – معه طوال أيام الأمل وأيام القلق.. أيام التخطيط وأيام التنفيذ – وكنت شبه مقيم فى بيته أو فى قصر الطاهرة الذى انتقل إليه – كمقر قيادة له- قبل بدء العمليات بيومين. 

ويضيف الأستاذ «هيكل» إلى هذه الدرجة كان قربنا فى تلك الظروف وأستأذن أن اقول مع ما فى القول من تجاسر أعتذر عنه مقدما – أننى على نحو أو آخر كنت أشعر فى أعماقى أن وجودى فى أجواء المعركة مهمة مقدسة.. هناك بالطبع قداسة الواجب الوطنى لأى إنسان تواتيه الظروف.. وكان هناك أيضًا نوع من «القداسة العاطفية» بشكل ما وعلى نحو ما فقد كنت أشعر أن «جمال عبدالناصر» ربما يرضيه حيث هو فى رحاب الله أن واحدًا من أصدقائه لا يزال قريبا من وقائع حدث تاريخى عظيم أعد له ونذر نفسه لتحقيقه وعاش من أجله ورحل قبل أن يحين أوانه. 

ولست أنكر أن تلك كانت أكثر فترة أعطيت فيها من نفسى لأنور السادات، فقد بدا لى فى تلك الأيام بصرف النظر عن كل شىء وأى شىء حامل علم تنبض مع خفقاته كل رموز الحياة والإرادة – كأن التاريخ تجمع كله فى لحظة مجد شامخة».

ومن وسط عشرات ومئات الحكايات التى انفرد الأستاذ «هيكل» بروايتها بأسلوبه الساحر وملاحظاته الذكية، يروى فى كتابه «الطريق إلى رمضان» هذه الواقعة أو الحكاية فيقول : 

وفى يوم الاثنين 8 أكتوبر – تشرين الأول – وكعادتى اليومية فى تلك الفترة، فإنى توجهت مغرب اليوم إلى مقابلة الرئيس فى قصر الطاهرة، وكان سعيدًا وفى حالة معنوية طيبة، وصعدت معه إلى الطابق الثانى حيث خلع بدلته العسكرية وارتدى البيجاما والروب دى شامبر قبل أن يجلس لتناول طعام الإفطار – شهر رمضان – ورن جرس التليفون قبل أن نبدأ الأكل، وكان السفير السوفييتى على الخط يبلغ الرئيس بالجسر الجوى للسلاح الذى يتوقع أن يبدأ قريبًا.

أذكر أن الرئيس قال لفينوجرادوف«بالإنجليزية التى يتقنها فينوجرادوف تماما»: حسنا حسنا.. بديع بديع ! قل للرفيق «بريجينيف أنى أشعر بالامتنان له من أعماق قلبى.. قل لبريجنيف أن الأسلحة السوفييتية هى التى حققت معجزة العبور»!

وعندما انتهت المحادثة سألته عن رأيه فى حقيقة موقف السوفييت ؟

فقال أنه يعتقد أنه تبين لهم أن الحالة تمضى فى اتجاه مرضِ جدا، وأنهم يرون فى ذلك فرصتهم لاستعادة معظم أو كل هيبتهم فى الشرق الأوسط وقال – السادات – لا أظنهم سيضيعون هذه الفرصة !

ويكمل الأستاذ «هيكل»: وبقيت مع الرئيس حتى ساعة متأخرة من الليل فقد كان يشعر بعدم القدرة على النوم، وطلب أن يشاهد فيلما، واقترح أن يكون فيلمًا من أفلام رعاة البقر، كما طلب إلى أن اشاهد الفيلم معه، لكننى كنت أحس بإرهاق شديد وأكاد لا أقدر على أن أفتح عينى، وقد ضحك وهو يقول لى: طيب اذهب لتنام!

مررت بمكتبى فى «الأهرام» قبل أن أعود إلى منزلى لأرى إن كانت هناك أنباء جديدة، وعرفت أن الرئيس الأمريكى – نيكسون – قد طلب عقد اجتماع لمجلس الأمن القومى، وطلبت الرئيس بالتليفون لأبلغه النبأ، وكان ساعتها لا يزال يشاهد الفيلم، وسألنى عما إذا كنت أرى فى ذلك ما يعنى أن نيكسون قد يبدأ اتخاذ إجراء قوى ضد العرب ؟ فقلت: لا أظن ذلك، لأنه لو كان يريد حقيقة أن يتخذ منا موقف الشدة لما لجأ إلى مجلس الأمن وهو يعرف أنه عرضة لمواجهة «فيتو» من الاتحاد السوفييتى أو الصين يقيد يديه تمامًا «وبدا أن الرئيس اقتنع بهذا التفسير».

وفى ليلة التاسع من أكتوبر يروى هيكل قائلاً: 

«ذهبت إلى قصر الطاهرة وكان موعد الإفطار يقترب، ولاحظت لمجرد أن دخل الرئيس أن ثمة ما ضايقه، وسألته فذكر لى تفاصيل اجتماعه بالسفير السوفييتى وأطلعنى على مسودة خطاب يفكر فى أن يوجهه إلى الشعب عن طريق الإذاعة والتليفزيون وقال أنه كان يفكر فى إلغائه بعدما بدأ القتال، ثم رأى أن يؤخره إلى أن يتأكد من سير المعركة، لكن بداية الخطاب الذى طلب منى أن أقرأه بصوت عالٍ بدت غير مناسبة، فقد كانت تقول: «يسعدنى أن أكون معكم جميعا فى هذه الساعة المجيدة من تاريخنا».. 

ولم أكمل فقد قاطعنى الرئيس ليقول: الحقيقة أنها ساعة صعبة أن الجبهة السورية تتعرض لضغط شديد!

وكان يتمشى – السادات- فى القاعة ذهابا وجيئة ثم قال : لابد من تغييره – أى الخطاب – ولنذهب إلى الشعب ونقول له أننا سنقاتل إلى النهاية، وفى استطاعتى أن أخاطبه كما خاطب «تشرشل» الشعب البريطانى فى العام 1940 ثم أمسك بسماعة التليفون وطلب إلى الفريق.. «أحمد إسماعيل» – وزير الحربية – أن يحضر إلى القصر.

وينتقل بنا الأستاذ «هيكل» إلى ما جرى بعد ظهر يوم 11 أكتوبر فيقول: كنت فى قصر الطاهرة فى انتظار لقاء الرئيس حين دخلت السيدة قرينته، إن هذه السيدة قامت خلال الحرب بدور شهم، كانت دائمًا مع الجنود فى المستشفيات تحمل إلى الرئيس خطاباتهم ورسائلهم المرحة التى كان لها تأثير كبير فى تشجيعه. 

وفى أثناء ذلك استدعيت لمقابلة الرئيس فدخلت مكتبه، ووجدته متعبًا يخلع بدلته العسكرية ويرتدى بيجاما رمادية اللون مخططة. قال أنه يعتقد أن الموقف على الجبهة السورية بدأ يتحسن.. و.. و.. و.. 

وكان من بين الأنباء الطيبة التى وردت فى تلك اللحظة أيضا أن الشيخ «زايد بن سلطان» حاكم أبوظبى – ورئيس دولة الإمارات - الذى كان فى لندن فى ذلك الوقت، قد حّول إلى مصر مبلغ 100 «مائة» مليون دولار.

وكان الرئيس فى حالة نفسية طيبة، قال لى أنه سيصلى الجمعة فى مسجد صغير كان صلى فيه وهو فى الرابعة من عمره عندما جاء إلى القاهرة مع والده لأول مرة، وقال أنه صلى فى ذلك المسجد فى الأسبوع الماضى من دون أن يلحظه أحد، وقال: إن المسجد لا يزال كما كان عليه تماما منذ خمسين عاما باستثناء أنه كان عند ذاك يضاء بالشموع أما الآن فهو يضاء بالكهرباء».

وكان الجو فى قصر الطاهرة يتسم بالتفاؤل الشديد، وراح الحديث يدور حول ما سنفعله بعد انتهاء المعركة.

وفى كتابه «وقائع تحقيق سياسى أمام المدعى الاشتراكى» يقول: 

«كان رأيى طوال الوقت بعد 67 أنه ليس هناك سبيل أمامنا إلا سبيل المعركة، وقد أبديت رأيى فى كل ما كتبت، وتعرضت لمشاكل بسببه من بعض المسؤولين فى الاتحاد الاشتراكى والصحف، وكانوا عاجزين عن الفهم، لذا ركزت على شرح نظرية الحرب المحدودة، أى استعمال القوى المسلحة فى لحظة مناسبة فى إطار عمل سياسى شامل يستهدف طول الوقت تغيير موازين القوة!

ويضيف: ومما يشرفنى أننى كنت قريبًا إلى أبعد حد من الرئيس «السادات» فى مراحل التحضير السياسى والعسكرى لحرب أكتوبر، وأبرز ما أعتز به فى تلك الفترة هو أن الرئيس السادات كلفنى بكتابة توجيهه السياسى والاستراتيجى إلى المشير «أحمد إسماعيل علي» فى أكتوبر 1973 بتحديد هدف الحرب، وكان تاريخ هذا التوجيه هو الأول من أكتوبر 1973 وهذا التوجيه الاستراتيجى منشور بنصه فى مذكرات الرئيس السادات «البحث عن الذات».. وإذن كما قلت فإن قناعاتى كاملة بما كتبت.. وكانت ثقة الرئيس السادات وهو قائد هذه المعركة واضحة فى هذا التكليف.. إلى جانب أننى كنت زائرًا شبه مقيم فى قصر الطاهرة مقر قيادته فى ذلك الوقت. 

ليس ذلك فقط بل إن الرئيس السادات كلفنى أيضا بكتابة خطابه لمجلس الشعب فى يوم 16 أكتوبر والذى حوى شروطه من أجل وقف إطلاق النار». «ص61».

وفى موضع آخر يقول الأستاذ – هيكل: 

«إن دورى فى حرب أكتوبر فى الناحية السياسية والإعلامية من الإعداد للحرب وهو دور لم أعطه لنفسى وإنما أعطاه لى الرئيس السادات، يشهد لى قطعًا، وإذن فسواء فى قضية الحرب أو جهود الحل كان موقفى فى منتهى الوضوح، ولكنى أحب أن أوضح مسألة مهمة تتعلق بدورى أو دور أى صحفىى، وهى أن القرار له سلطة شرعية واحدة، وأن هدفنا جميعًا لا يمكن أن يكون إلا إدارة حوار يقصد منه توسيع دائرة الاختيار»

والآن إلى واحد من أهم كتب الأستاذ هيكل وهو «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» الذى صدر عام 1993 وهو الكتاب الرابع فى مجموعة «حرب الثلاثين سنة»، وكان الكتاب الأول «ملفات السويس» وصدر 1986، والكتاب الثانى «سنوات الغليان» وصدر 1988، والكتاب الثالث «الانفجار1967»، وصدر 1990.

كتاب «أكتوبر 1973 السلاح والسياسة» صدر بعد مرور 15 سنة على صدور كتابه «الطريق إلى رمضان» وكان الرئيس السادات مازال على قيد الحياة، ومرور تسع سنوات على رحيل السادات. 

 الكتاب يقع فى 763 صفحة و147 صفحة شملت الوثائق التى استعان بها الأستاذ «هيكل».

فى مقدمة الكتاب يشير الأستاذ هيكل إلى توضيح مهم يقول فيه: 

«وربما قيل – والقول صحيح- أن الفكرة والحلم الذى تمثله مرجعية «جمال عبدالناصر» تختلف عن الفكرة والحلم الذى مثلته مرجعية «أنور السادات» فكيف تأتى أن أكون قريبًا من الاثنين؟ والذى حدث هو أننى ظللت قريبا من «جمال عبدالناصر» من بداية دوره إلى نهايته، وقد توثقت علاقتنا مع الأيام، واتفقت واختلفت رؤانا للحوادث والناس أحيانًا، لكن الفكرة المرجعية وهى المشروع الحضارى الذى قاده «جمال عبدالناصر» ظلت هى الحكم حتى بعد أن لحقها ذلك الشرخ العميق الذى أصابها سنة 1967، وكان هذا الشرخ نتيجة لأخطاء فى التجربة ونتيجة لضغوط من الخارج فى ذلك الوقت. 

وكان دور «أنور السادات» أن يستكمل ما كان «جمال عبدالناصر» قد بدأه من محاولة لإصلاح هذا الشرخ بتلافى الأخطاء فى الداخل، ومواجهة الضغوط من الخارج، ولقد أسعدنى أننى صاحبت «أنور السادات» وهو يعانى هموم مسئوليته، ثم رأيته وقد ملك شجاعة قرار من أصعب وأخطر ما واجهته مصر فى تاريخها أعنى قرار أكتوبر 1973.

وقرب نهاية المقدمة يروى هيكل هذه الواقعة بقوله: 

«لابد أن أسجل أننى مدين للرئيس السادات» أنه قدم لى أغلى وثيقة وصلت إلى طول حياتى المهنية، وكانت بكرة لفائف لأجزاء من أحد أسفار العهود القديم «سفر الخروج – التوراة» حصلت عليها القوات المصرية التى هاجمت واستولت على خط بارليف، كانت هذه اللفائف محفوظة فى قيادة ذلك الخط الحصين حين اقتحمت القوات المصرية، والذى حدث أن «الفريق» «أحمد إسماعيل على» القائد العام للقوات المصرية تلقى هذه اللفائف ومعها العلم الإسرائيلى الذى كان مزروعا فوق حصن القيادة. 

ووجد فى الاثنين رموزا مناسبة يهديها للقائد الأعلى للقوات المسلحة. 

 

وألقى الرئيس «السادات» نظرة عليها ثم التفت إليّ وأنا جالس بجانبه قائلاً: إنه سوف يحتفظ لنفسه بالعلم، ولكنه عارف بهوايتى لجمع هذا النوع من الأشياء – كذلك قال – فإنه سوف يهدينى هذه اللفائف.

ثم أضاف كريمًا عبارات رقيقة، وقبلت الهدية عارفًا بقيمتها وبفضل مهديها، وقد احتفظت بها سنوات طويلة، وأظن آن الأوان اليوم كى أقدمها للأحق بها منى وهو المتحف الحربى حتى تظل باقية فيه دوما لأجيال قادمة سوف تعيش وفية باستمرار لفضل جيل سبق – قام شبابه ورجاله بدور بطولى مجيد وجعلوا يوم السادس من أكتوبر 1973 يومًا يعلو بهامته على كل الأيام».

وفى نفس المقدمة يوضح الأستاذ «هيكل» الأسباب العديدة التى دعته إلى الاهتمام بزيادة التوثيق إلى درجة تبدو لافتة للنظر ثم يضيف:

ولعلى كثفت التوثيق لسبب آخر سوف يلاحظه قارئ هذا الكتاب وهو أن روايتى عن حرب أكتوبر تدور أساسًا حول الرئيس «أنور السادات» وكان ذلك أسلوبًا لا بديل عنه، ذلك أن الرجل أدار مسئولياته من موقع «كبير العائلة» – على تعبيره الأثير – وكان فى ذلك صادقًا مع نفسه ومخلصًا، ولقد لاحظ معظم الذين عملوا معه هذه الظاهرة وسجلوها فيما رووا أو كتبوا عن تجربتهم بجانبه، وكان بينهم على سبيل المثال السيد «حافظ إسماعيل» مستشاره لشئون الأمن القومى، وذلك فى مذكراته بعنوان «أمن مصر القومى»، كذلك لاحظ نفس الظاهرة وسجلها المشير محمد عبدالغنى الجمسى» وذلك فى مذكراته «عن حرب أكتوبر» وهذا غير كثيرين ما زالوا يذكرون تعبيرات أثيرة أخرى لدى الرئيس «السادات» عن «أرضى» و«جيشى» و«أولادى» و«طائراتى» إلى آخره!

وهكذا فإن القصة تجد لنفسها تلقائيًا بطلاً تدور حوله، كما كانت الحوادث نفسها تدور!

تحت عنوان «مشهد افتتاحى» يروى هيكل نصوص المكالمات التليفونية التى دارت بين الرئيس السادات والملوك والرؤساء العرب، أما المدهش حقا فهو ما جرى فى مكالمته مع الزعيم السوفييتى «بريجينيف» وكان ذلك فى أول أيام المعركة، يقول هيكل:

«وصل الرئيس السادات إلى قصر الطاهرة وقيل له إن الرئيس «بريجينيف» طلبه من موسكو قبل خمس دقائق، وحين عرف أنه فى الطريق من القيادة إلى قصر الطاهرة قال إنه سوف يعاود الاتصال به تليفونيًا بعد عشر دقائق.

وكان الرئيس السادات يغسل يديه ووجهه فى الحمام حينما أبلغ أن «بريجينيف» على الخط مرة ثانية، ومشى الرئيس السادات واثقًا إلى التليفون ليسمع صوت «بريجينيف» يناديه بكلمات تشيع فى ألفاظها نبرة اندفاع حماسى، وأدرك أنها كلمات تهنئة، وحاول أن يرد بالإنجليزية ثم سمع صوتًا باللغة العربية يقول:

فخامة الرئيس  إننى المترجم الخاص للرفيق «برينيجيف» .. هو بجانبى هنا يهديك  تحيته ويقدم لك تهنئته ويقول: هذا يوم سعيد للعرب وأصدقائهم السوفييت.

ورد عليه الرئيس السادات: قل له إننا لن ننسى دور السوفييت ودوره هو شخصيًا فی أننا استطعنا تحقيق ما حققناه اليوم.

ورد مترجم «بريجينيف» نيابة عنه يقول: الرفيق «بريجينيف» يقول لكم: نحن عملنا الواجب تجاه أصدقاء أعزاء، ولكن أنتم ورجالكم الذين قاتلتم اليوم وتقاتلون المعركة إلى الآخر محققين أهدافكم إن شاء الله».

وقهقه الرئيس السادات ضاحكًا وقال: صديقنا «بريجينيف» أصبح مسلمًا يقول «إن شاء الله» مثلنا.

وكان الرئيس السادات يستمع إلى صوت المترجم ينقل همسًا إلى «بريجينيف» الواقف بجواره ثم عاد المترجم ينقل إليه تعليق زعيمه:

يقول لكم الرفيق «بريجينيف» إن كل المخلصين مهما كانت عقائدهم الدينية من نفس المبدأ.

ورد الرئيس السادات: قل له إننى شاكر.. شاكر جدا، ولن ننسى فضل أصدقائنا المخلصين».

وحسبما يقول هيكل توالت بعد ذلك عشرات المكالمات التليفونية من كل زعماء ورؤساء العرب والتى نشر هيكل تفريغًا حرفيًا لكل ما دا ر فيها من حوارات.

وفى فصل عنوانه «الاستعداد للعاصفة» - يقول الأستاذ هيكل: «كان القرار السياسى بالحرب على وشك أن يتخذ، إن الرئيس السادات لم يكن يريد الحرب وقد كان شديد التحسب لمخاطرها العسكرية، ومن ثم السياسية على رئاسته وقد كان هو شديد الحساسية لهذه النقطة وقد عبر عنها أكثر من مرة فى تلك الأوقات بقوله: إذا حدث شىء فلن يخرج الشعب مطالبًا بعودتى مرة أخرى للرئاسة كما حدث مع «جمال»!

ومن الحق أن يقال إن بعضًا من عناصر القوة التى اقتربت منه بعد أن أصبح رئيسًا كانت متخوفة من الحرب تخشى أن تطيح عواقبها بامتيازات ومكاسب لمع بريقها وبدأت الأيدى تمتد إلى بشائرها، وكان هؤلاء جميعًا لا يريدون الحرب ويشجعون الرئيس على قبول أى حل بمقولة أن «الناس تعبت» وأنهم باتوا مستعدين لقبول أى حل فى مقابل «أن يخلصوا والسلام»!

ويؤكد الأستاذ هيكل: وبرغم ذلك فإن هناك حقيقة لابد من احترامها وهى أن الرجل الذى كانت على كتفيه مسئولية القرار - وهو أنور السادات - ملك شجاعة اتخاذه - وقد اتخذه عارفًا أن ذلك مقاديره، وأن قرار الحرب وإن لم يكن اختياره الأول فهو قراره الأخير.

ومن سوء الحظ أن بعض الذين كانوا يعرفون رغبة الرئيس السادات الملحة فى الوصول إلى حل سلمى، وبينهم من رأوا ولمسوا عن قرب ظواهر إقدامه، ثم إحجامه عن قرار الحرب، أخطأوا فى تفسير الوقائع وراحوا يخلطون بين التاريخ والمؤامرة، فزعموا لأنفسهم وللناس أن قرار الحرب مسرحية متفق عليها، ومثل ذلك على وجه القطع ليس مجرد خطأ فى التفسير، وإنما هو أيضًا سوء نية فى التأويل يستسهل نظرية المؤامرة ليفسر بها المستعصى على الفهم بالتحليل.

ويؤكد الأستاذ «هيكل» فى وضوح لا لبس فيه قوله:

«والحقيقة أن قرار الرئيس السادات بالحرب كان قرارًا حقيقيًا وأصيلاً، والغريب أن يخطر ببال أحد أن عمليات القتال بين جيوش جرارة فى البر والبحر والجو يمكن أن تكون مؤامرة محبوكة، كما أنه من تجاهل طبائع الأمور أن يرد على الظنون أن إسرائيل التى تقيم دعائم نظرية أمنها على قوة الردع غلابة وقاهرة - تقبل أن تدخل فى ترتيبات من شأنها أن تضع الجيش الإسرائيلى ولو لأيام أو حتى ساعات أو دقائق - مكشوفًا أمام خطر إذا لم يؤثر على قدرته فإن تأثيره على سمعته محظور غير مقبول «ص 300».

وفى فصل عنوانه «البيضة والحجر» يرسم الأستاذ «هيكل» صورة بالكلمات عن شخصية الرئيس السادات فيقول:

«كان الرئيس السادات شخصية مثيرة بكل المعايير وكانت شخصية متعددة الجوانب بحكم تكوينه الإنسانى وتجربته الحافلة والثقافة التى ترسبت عنه من العنصرين: عنصر التكوين وعنصر التجربة، وقد علمته الأيام أن يقابل الصعاب بصدر رحب وفى السنة الأولى من رئاسته فإن أحلى ما كان فى شخصيته تجلى وتألق.

كان رجلاً تحت الاختبار وكان يدرك ذلك بعمق، وكان رجلاً يواجه تحديات خطيرة ولم يقلل من شأنها، وكان رجلا يريد أن ينجح فى مهمته الرئيسية وهى مأزق الحل والحرب، وقد راح يجرب ويتعلم بقلب مفتوح وعقل متفتح، وكان مستعدًا لسماع كل الناس وجاهزًا للتفكير حتى فيما كان التفكير فيه ضربًا من المستحيل!

وفوق ذلك فإنه راح يمارس هذا كله ببساطة وأحيانًا بمرح إذا سمحت الظروف، وكان هناك معيار لحالته النفسية يعكس نفسه فى الطريقة التى يلقى بها تحية الصباح أو يردها، وحينما يكون راضيًا وسعيدًا فإن تحية الصباح عنده كانت تتراوح ما بين: صباح الفل أو صباح الورد أو «صباح القشطة»!

وحين تستبد به المشاكل والهواجس، فإن تحية الصباح عنده كانت تتراوح ما بين «صباح الخير» و«صباح النور» وأحيانًا يبلغ السوء مداه فإذا هو يرد تحية صباح الخير قائلا: «ومن أين يأتى الخير، هذا صباح الزفت والقطران». وفى فصل عنوانه «متغيرات من كل اتجاه» يقول الأستاذ «هيكل»: كانت الإيجابيات فى كل ما جرى من يوم «6 أكتوبر» إلى يوم «26 أكتوبر»، على النحو التالى:

1 - إن هناك رجلا استطاع أن يملك شجاعة القرار وهو «أنور السادات» وبصرف النظر عن المنحنيات الكثيرة التى مرت بها عملية اتخاذ القرار، فإن هذا الرجل حينما وصل إلى اللحظة التى واجهته فيها الظروف بالسؤال الحاسم، كان رده أن أعطى أمر القتال وأطلق شرارة الحرب.

2 - أن مستوى التخطيط العلمى والعملى للمعركة كان دقيقًا وكان ممتازًا وقد استطاع فى الأيام الأولى من القتال أن يحقق هدفًا استراتيجيًا لا يختلف أحد - وأولهم هنرى كيسنجر على أهميته وهو كسر نظرية الأمن الإسرائيلى.. و..و..

هذا هو باختصار شديد جدًا جدًا بعض ما كتبه الأستاذ «هيكل» عن معركة أكتوبر والسادات صاحب قرار أكتوبر العظيم، والذى وصفه هيكل بقوله «قرار سوف يظل مجدًا مقيمًا له ومجدًا مقيمًا لمصر ومجدًا مقيمًا للعرب».. و.. لكن على ما يبدو كان هناك «سادات» آخر عرفه الأستاذ «هيكل» وكتب عنه «خريف الغضب» فالسادات هنا عند هيكل لم يكن مجربًا ولا كان مفكرًا، لقد ساعدته غريزة المتآمر فيه على حفظ أسراره.. و«لم يكن يقرأ ما كان يتحتم عليه أن يقرأه».. و.. و..

وليس الآن - ولا هذا وقته - مناقشة كتاب خريف الغضب وهو ما قال عنه أحد كبار الصحفيين، كتاب أملاه الغضب فى لحظة غضب!

وتمضى السنوات - 49 سنة بالضبط ويظل أكتوبر العظيم والمجيد صفحة خالدة فى تاريخ مصر والقوات المسلحة وأنور السادات.