السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
خدعة الجاسوس الروسى  والبنك الذى ينقذ مصر!

خدعة الجاسوس الروسى والبنك الذى ينقذ مصر!

قرأت عشرات الحكايات عن الجاسوس الذى زرعته المخابرات الأمريكية فى مراكز صناعة القرار فى الاتحاد السوفيتى القديم، وظل يؤدى عمله ببراعة فائقة لأكثر من ثلاثين سنة، دون أن يكتشفه جهاز الـ«كى جى بى»، ليس بسبب ذكائه أو قدراته الفائقة، ولكن لطبيعة عمله الذى لم يتطلب أبدا مراسلات أو شفرات سرية أو معلومات دقيقة أو لقاءات على وجه السرعة، كان جاسوسا من نوع خاص، ربما هو «السطر الأول» فى حروب الجيل الرابع قبل أن تكتسب اسمها أو تستغل على نطاق عالمى مع بداية الألفية الثالثة.



كانت مهمة الجاسوس عجيبة جدا، وهو سياسى سوفيتى عرف عنه تعصبه وتفانيه فى عمله، ولم يكتشف إلا بعد تفكك الاتحاد السوفيتى بسنوات، وحين سألوه بعد أن بلغ من العمر أرذله وقارب على النهاية، قال إن مهمته كانت «تفتيت الكفاءات وإشاعة الفوضى فى نظم العمل»، بأن يضع الرجل الأقل كفاءة فى أى وظيفة قيادية مطلوبة فى الدولة، فى وزارة المالية، فى وزارة الصناعة، فى الصحة فى التعليم.. إلخ، أى مكن «محدودى القدرات والذكاء» من السيطرة على مفاصل العمل اليومى، وهم بدورهم تولوا إضعاف الاتحاد السوفيتى بضآلة إمكاناتهم المهنية والشخصية، فتخلف كثيرا عن الولايات المتحدة، ومن ثم تفتت وانهار.

المدهش فى الحكاية أنها مكتوبة فقط باللغة العربية، ولم أجد لها أصلا إنجليزيا لا فى تقرير أو مقال بجريدة كبرى أو كتاب لمؤلف له باع فى الكتابة عن أعمال المخابرات، وهى حكاية إذا حاول العقل بالتفكير العليم المنظم تفكيكها وإعادة تركيبها، يجد صعوبة كبيرة جدا، قد تصل إلى حد الاستحالة.

والحكاية نفسها لم تظهر على السطح إلا بعد سقوط سور برلين فى نوفمبر 1989 بسنوات، وكتب فيها مؤخرا كاتب عربى وصف نفسه بأنه باحث ومفكر ومحلل سياسى، بأن هذا الجاسوس حين قبضوا عليه فى آخر أيامه، وأعطوه الأمان، فاعترف لهم بأنه كان يضع المهندس الزراعى فى وزارة المالية، والمحاسب فى وزارة الصناعة، والمهندس المعمارى فى مصنع أجهزة كهربائية.. إلخ.

وطبعا لم يذكر هذا الكاتب اسمه ولم يشر إلى مصدر معلوماته أو من أين استقى اعترافاته، وأتصور أنه قصة مختلقة من أولها لآخرها، والقرائن كثيرة، مثلا ما هى الوظيفة التى تتحكم فى كل التعيينيات الرئيسية فى دولة عظمى كالاتحاد السوفيتى؟

الإخوان على سبيل المثال حين أرادوا أخونة مصر، أحصوا ما بين 14 إلى 16 ألف وظيفة حاكمة فى كل قطاعات الدولة المصرية.. فكم تبلغ عدد الوظائف الحاكمة فى إمبراطورية كالاتحاد السوفيتى المكونة من 15 دولة على مساحة تتجاوز  22 ألف كيلو متر مربع، يعيش عليها 287 مليون نسمة، أزيد من سكان الولايات المتحدة بـ38 مليون نسمة، وتمتعت كل دولة فيها بقدر من الحكم الذاتى، قبل أن تستقل تماما.

ما هو ذلك الجاسوس الذى يتحكم فى حركة الموارد البشرية فى إمبراطورية بهذا الحكم؟، وهل أصلا يمكن أن يتحكم فيها شخص واحد مهما كانت قدراته الخارقة للعادة؟، والأهم أن الدول تدار بالمفاهيم وليس بالتفاصيل، والمفاهيم هى فلسفة حكام وليس موظفين مهما علت مناصبهم الإدارية، وهذا معناه أن الاتحاد السوفيتى انهار من رأسه، من مئات القرارات الخاطئة التى اتخذها قاداته فى الثلاثين سنة الأخيرة من عمره، ويبدو أن سوء التقدير لإمكاناتهم وإمكانات الغرب هى التى جعلتهم يبنون قوة ذات عضلات عسكرية ضخمة جدا، لكنها تمشى على أقدام ذات عضلات اقتصادية أضعف فلم تتحملها، فسقط وتفتت.

وحين رجعت إلى أهم جواسيس أمريكا، من خلال الكتابات الموثوق بها، لم أجد ذكرا لهذا الجاسوس الخدعة، وعثرت على اثنين، الأول فرانسيس جارى باورز ويلقبونه بالجاسوس الذى أسقط الاتحاد السوفيتى، طيار أمريكى حلق بطائرة تجسس داخل الاتحاد السوفيتى فى أول مايو 1960، وأسقطه السوفييت وأسروه وحكموا عليه بالسجن 10 سنوات، إذ سبق له أن صور كثيرا من المواقع، ثم أفرج عنه بعد عامين فى عملية تبادل جواسيس، مقابل رودولف أبيل.

ونال اللقب الشهير، لأنه يعتبر السبب فى إشعال الحرب الباردة التى كسرت الاتحاد السوفيتى.

والثانى هو ديمترى بولياكوف، عميل مزدوج لقبه الأمريكان بـ «القبعة العالية»، ووصفوه بأنه «أحدث أكبر ضرر للمخابرات السوفيتية فى تاريخها كله»، أى لعب دور «الضباب» الحاجب عن الرؤية الصحيحة لهم.

نعم يبدو جاسوس الكفاءات المهدورة خدعة، خدعة أحببناها، فتمسكنا به، ونذكره كثيرا فى مجالسنا أو نكتب عنه، لسبب خاص بنا، وليس بالوقائع والحقائق.

نعم السبب من داخلنا، وهو أننا نعانى من ندرة الكفاءات فى وظائف الإدارة العليا فى مجالات كثيرة، بل إن تعبير الرجل المناسب فى المكان غير المناسب يكاد أن يكون تعبيرا شعبيا من ذيوع صيته بيننا.