الجمعة 3 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
70 سنة ثورة يوليو..والصحافة.. أيهما أكثر تأثيرًا على الآخر؟

70 سنة ثورة يوليو..والصحافة.. أيهما أكثر تأثيرًا على الآخر؟

الثورة والصحافة كلاهما كان بحاجة إلى الآخر، الصحافة كانت بحاجة إلى ثورة تجعلها تهاجم الاحتلال البريطانى دون خوف، وتُمكنها من انتقاد الملك وحاشيته دون قلق، وتضع جيلًا جديدًا فى المقدمة، والثورة كانت بحاجة إلى صحافة تعبر عنها، وتنتصر لمبادئها، وتؤمن بأفكارها، وتدافع عن رؤيتها.



وقبل ثورة يوليو انطلقت الكلمات كالطلقات بسرعة فائقة على الورق لتمهد الطريق لمجلس قيادة الثورة ليتحرك، مقالات كثيرة دعت للثورة قبل حدوثها، وكتاب كثيرون انتقدوا الملك وحاشيته، ودفعوا الثمن، بعضهم بالمنع، وبعضهم بالسجن.

وكانت مجلة «روزاليوسف» ومحرروها فى مقدمة المؤمنين بالثورة حتى قبل مجيئها، وكان رئيس تحريرها إحسان عبدالقدوس يكتب بقلم رصاص يُصيب به الملك وحاشيته، والاحتلال وأعوانه، وربما الرصاصة التى أصابت أهدافًا كثيرة هى قضية الأسلحة الفاسدة التى توالت بعدها الأحداث عاصفة.

 

(1)

وقد بدأت قضية الأسلحة الفاسدة قبل عامين من ثورة 23 يوليو 1952، وتحديدًا فى أحد أيام عام 1950 ذهب الكاتب الصحفى «إحسان عبدالقدوس» -رئيس تحرير روزاليوسف فى ذلك التوقيت- إلى مجلس الشيوخ، وجلس فى القاعة يستمع إلى المحامى الكبير «مصطفى مرعى» عضو مجلس الشيوخ، وهو يتحدث عن استيراد الأسلحة، وذكر أن الأسلحة كلها «خُردة»، وبدا واضحًا من حديثه أنه يتهم المَلِك «فاروق» بأنه مشترك فى هذه العملية.

وبعد أن استمع «إحسان» إلى حديث «مصطفى مرعى»، خرج من الجلسة وهو يستشيط غضبًا، وراح يفكر فيما سمع من كل الجوانب، واستقر على أن يكتب مقالًا يؤيد فيه ما قاله عضو مجلس الشيوخ.

وفى السادس من يونيو بدأ «إحسان» ينشر فى مجلة «روزاليوسف» قضية الأسلحة الفاسدة، وذكر «إحسان عبدالقدوس» فى مقاله أنه سأل القائمقام أحمد عبدالعزيز قائد الكوماندوز فى حرب فلسطين عن اليوم الذى لا ينساه من أيام القتال، فأجاب والدموع فى عينيه قائلًا: «لا أستطيع أن أنسى يوم كان الباشجاويش يقف بين رجاله يطلق مدفعه على مواقع العدو، فإذا بإحدى القنابل تنفجر إلى الوراء فتحطم المدفع، وتقتل الباشجاويش وجميع رجاله، فيخرون صرعى فوق حطام المدفع وابتسامة الاستشهاد تضيء وجوههم».

 

وبمجرد أن نشرت «روزاليوسف» المقال فوجئ «إحسان» بزميل من أيام الطفولة يُدعى «على عبدالصمد» يحضر إليه فى «روزاليوسف»، وروى له تفاصيل عمليات استيراد الأسلحة، وأخرج مجموعة من المستندات عن عمليات قام بها عدد من الضباط، والأمير عباس حليم، لاستيراد أسلحة قديمة من إسبانيا، وفرنسا، وبلاد أخرى.

وكشف «عبدالصمد» عن مفاجأة مدوية، وهى أنه كان واحدًا من مستوردى الأسلحة، وأن هدفه من نشر هذه المستندات هو التشهير بشركائه الذين أخذوا منه عمليات الاستيراد، ولم يمنحوه شيئًا من المكاسب الطائلة، وابتسم «إحسان»، وأمسك بالمستندات، وبدأ نشرها.

وفوجئ بعد أن نشر المستند الأول بحضور مجموعة من الضباط إليه، ومنحه مجموعة أخرى من المستندات تثبت تورط حيدر باشا وزير الحربية فى صفقات الأسلحة، وواصلت «روزاليوسف» حملتها حتى اضطر حيدر باشا أن يقدم استقالته.

وبدأ النائب العام التحقيق فى القضية، وأصدر قرارًا بمنع النشر فى تلك القضية.

لكن فى العام التالى عاد «إحسان» للحديث عن قضية الأسلحة الفاسدة، وحتى لا يقع تحت طائلة القانون نشر مقالاته تحت عنوان: «كيف أُثيرت تحقيقات الجيش أمام النيابة؟» لتبدو كأنها ذكريات حول القضية التى فجّرها على صفحات «روزاليوسف».

لكن حقيقة الأمر أنها لم تكن ذكريات بل كانت مزيدًا من المستندات، والوقائع، والمعلومات، لكن «إحسان» استخدم صيغة الماضى لتمر القضية دون التحقيق معه.

(2)

وفى أعقاب قضية الأسلحة الفاسدة، كان إحسان عبدالقدوس يجلس فى أحد المطاعم الموجودة فى وسط القاهرة، التى تقع أسفل عمارة «الإيموبيليا» - التى كان يسكن بها عدد كبير من كبار الفنانين- ونادى على الجرسون، وسدد ثمن الطعام والشراب.

وقام «إحسان» من مقامه، وبمجرد أن خرج من المطعم سمع صوت أقدام خلف ظهره، وقبل أن يستدير، استقبل طعنة سكين فى رأسه من الخلف، وانزلقت السكين على فروة الرأس، وسقط «إحسان» على الأرض، وتم نقله إلى المستشفى، وبعد أن تعافى، وعاد إلى منزله، حضر إليه الأمير «عباس حليم» حاملًا طبقًا كبيرًا من «المارون جليسه» وقال له: «المجرم الكبير حضر لتهنئة البطل الكبير»!

لم يفهم «إحسان» تلك العبارة، ومرت، ومرت معها أيام، وشهور، وسنون، وفجأة تذكرها حين أُعيد فتح التحقيق فى قضية الأسلحة الفاسدة بعد الثورة، وبالتالى تمت إعادة التحقيق فى محاولة اغتيال إحسان عبدالقدوس.

وتوصل رجال الشرطة إلى الجانى، واعترف أن مَن قام بتحريضه على القتل هو الأمير «عباس حليم» الذى كان يَعتبر «إحسان» السبب فى حبسه فى قضية الأسلحة الفاسدة أيام المَلِك!

لم تكن تلك المحاولة الوحيدة لاغتيال «إحسان عبدالقدوس»، فبعد ثورة يوليو 1952 حدثت محاولة أخرى عندما حضر اجتماع رؤساء التحرير العالميين فى فرنسا، وهناك التقى سكرتير المَلِك فاروق، وأبدى «إحسان» استياءه من هجوم المَلِك فاروق على الثورة فى الصحف الأجنبية، وقال له: «المَلِك سيظل طوال عمره يدفع نفسه للهلاك.. هو بيهاجم الثورة ليه؟ الثورة عاملته أحسن معاملة وتركته يخرج فى أمان وتركت له ثروته.. أنصحه أن يصمت».

فرد عليه سكرتير المَلِك: أنا لا أستطيع أن أنصحه.

فقال «إحسان»: أنا مستعد أن أتحدث إليه.

فرد السكرتير: اتفقنا سأحدد لك موعدًا عاجلًا.

وبالفعل تم تحديد الموعد فى الساعة 11 ظهر اليوم التالى.

وحين عاد «إحسان» إلى الفندق قص على زوجته ما جرى، فثارت عليه، وغضبت، وقالت له: «لا تقابل فاروق.. كيف تقابله؟ هو يعتبرك أنت الذى قمت بالثورة».

فرد إحسان عليها قائلًا: «إنها خبطة صحفية.. سأذهب لعمل حديث مع المَلِك فاروق.. أول حديث صحفى مع المَلِك لصحيفة مصرية بعد الثورة».

لكن زوجته أبت وظلت على رأيها، وتوسلت له أن لا يفعل، وبكت بين يديه، وبدأ «إحسان» يراجع نفسه، ويفيق من الشهوة الصحفية، وقرر أن يطاوعها.

وفى صباح اليوم التالى أرسل ورقة صغيرة لسكرتير المَلِك فاروق، لم يكتب فيها سوى أربع كلمات: «آسف اضطررت إلى السفر فجأة».

ونسى «إحسان عبدالقدوس» الواقعة.

ومر عام، وترك السكرتير عمله لدى المَلِك بعد خلاف كبير بينهما، وقرر سكرتير المَلِك أن ينشر مذكراته، ونشرها، وقرأها «إحسان» ووجد فيها ما لم يخطر بباله مطلقًا، فقد جاء فيها: «أن المَلِك فاروق خطط لقتل إحسان عبدالقدوس، عن طريق حرسه الخاص».

وكانت الخطة أن يوافق المَلِك على أن يذهب إليه «إحسان» فى بيته، وبمجرد أن يضع قدمه فى المنزل يقتله الحرس بحجة أنه قد حضر لقتل المَلِك!

ما جرى كشف أن الملك فاروق ظل يعتبر «إحسان» خصمًا له، وأن تحقيقاته فى روزاليوسف عن الأسلحة الفاسدة كانت من أسباب قيام الثورة، حتى وإن ثبت بعد ذلك أن فساد الأسلحة لم يكن كما صوره البعض أنها تضرب من يقف خلفها، لكن الفساد المالى فى تلك الصفقة كان مؤكدًا.

(3)

وبعد أن أطلق «إحسان» رصاصته فى قضية الأسلحة الفاسدة، انفجرت قضايا أخرى، فخرجت أول مظاهرة مليونية عرفتها مصر فى تاريخها فى نوفمبر 1951، وضمت المظاهرة كل فئات المجتمع، وتصدَّرها الزعيم مصطفى النحاس بعد أن قرر إلغاء معاهدة الصداقة «البريطانية-المصرية» المعروفة باسم معاهدة 1936.

وبعد شهرين وتحديدًا فى صباح يوم 25 يناير عام 1952 وقعت مجزرة الإسماعيلية حين هاجم سبعة آلاف ضابط وجندى بريطانى، ومعهم الدبابات والمدافع والسيارات المصفحة، قوات الشرطة المصرية التى لم يكن يزيد عددها على 880 ضابطًا وجنديًّا لكن جنود الشرطة البواسل صمدوا حتى نفدت ذخيرتهم، وقبل أن تفيق مصر مما جرى لشهدائها فى الإسماعيلية، وقع حريق القاهرة، وثار الناس على الأوضاع المتردية.

وفى مساء يوم الثلاثاء 22 يوليو 1952، وقبل أن ينتصف ليل القاهرة قام البكباشى «يوسف صديق» ورجاله باقتحام مركز قيادة الجيش وسيطر على منطقة كوبرى القبة، ثم تحركت بعض القوات وتمت السيطرة على الموقف فى الثالثة صباحًا، وفى السابعة والنصف من صباح اليوم التالى أذاع «محمد أنور السادات» البيان الأول لثورة 23 يوليو.

وخرجت صحيفة «المصرى» فى اليوم التالى الرابع والعشرين من يوليو بصورة كبيرة لمجلس قيادة الثورة وبجوارها صورة أخرى للواء «محمد نجيب» وبجواره «على ماهر باشا»، وأعلى الصورتين وأسفلهما عدد من العناوين تقول:

- على ماهر باشا يؤلف الوزارة الجديدة

- اللواء محمد نجيب يقود حركة عسكرية مفاجئة.

- مظاهرات عسكرية بالدبابات والطائرات فى الشوارع والميادين.

وفى الرابع والعشرين من يوليو أصدرت جريدة «المصرى» لسان حال حزب «الوفد» مانشيتًّا بالبنط العريض يقول:

- كيف دبَّر فاروق حريق القاهرة؟

وأسفل هذا السؤال عدة عناوين منها:

- خطاب خطير لمصطفى النحاس فى ذكرى سعد:

- استجاب الله لدعاء الملايين فأطاح الجيش بالطاغية

- اضطررنا لمسايرة المَلِك السابق حتى لا يفسد خططنا لإخراج الإنجليز

(4)

وفى عام 1953 بدأ قادة الثورة يشعرون أنها بحاجة إلى صحف تعبر عنها، وأن الملك المخلوع ما زال له أذرع فى الصحف، فصدرت قرارات بتعطيل بعض الصحف والمجلات، ثم بدأ التفكير فى إصدار صحيفة تملكها ثورة يوليو، وعرض «جمال عبدالناصر» على «أنور السادات» أن يكون مشرفًا على الجريدة الجديدة، وقبل أن يجيب «السادات» عن السؤال أضاف «جمال»: «لازم الثورة يكون لها صحافتها».

لم يعقِّب «أنور السادات»، ثم طلب مهلة للتفكير، وبعد يومين عاد «أنور» إلى «عبدالناصر» وأخبره أن المهمة مستحيلة، وتحتاج إلى وقت طويل، فرد «جمال» حاسمًا: «إذن كيف قمنا بالثورة وسط كل المصاعب التى كانت حولنا، إن الثورة لا بد أن تكون لها صحافتها، والجريدة لا بد أن تصدر قبل نهاية العام»، فقبل أنور السادات المهمة.

وبدأ البحث عن اسم للجريدة، وكان «عبدالناصر» يريد أن يسميها «التحرير»؛ لكن الكاتب الصحفى «حسين فهمى» أقنعه أن يكون اسمها «الجمهورية» تيمُّنًا بتحول مصر من المَلَكية إلى الجمهورية -وذلك على حد تعبيره- وقد اختار يوم 7 ديسمبر لأن رقم «7» يحمل التفاؤل به على عادة العرب.

وفى الصباح الباكر توجه «السادات» إلى منزل «عبدالناصر» فوجده يتناول الإفطار فسلمه العدد الأول من الجريدة صباح يوم الاثنين 7 ديسمبر، وقد كتب «جمال عبدالناصر» مقالًا فى الصفحة السادسة بعنوان «فلنصارِح ولا نجامل».

وفى نفس الصفحة كتب «أنور السادات» مقالًا بعنوان «الجمهورية» جاء فيه: «هذه الجمهورية تشق طريقها إليك بين الصحافة العربية، وتشق طريقها واضحًا لا تخبُّط فيه، ولا التواء، ولا مجاملة، ولا تحامل.. إنها جريدة حرة حرية الثورة التى تضيء طريقها بنار الحق، ونار الحق تحرق الأصنام وتحرق المفاسد، وهى جريدة قوية قوة الثورة».

لكن اللافت أن «السادات» نشر فى الصفحة الخامسة مقالًا احتل الصفحة بأكملها تحت عنوان: «ذهب المَلِك.. تحيا الثورة»، ومعه عدة عناوين أخرى منها: «صفحات مجهولة من كتاب الثورة.. السياسيون يستعملون أسلحة جديدة لتضليل الشعب».

وقد انضم إلى الجريدة فى أعدادها الأولى عدد كبير من كبار الكتاب والمفكرين من بينهم عميد الأدب العربى «طه حسين»، والدكتور «محمد مندور»، والدكتور «لويس عوض»، والدكتور «خالد محمد خالد»، وعميد المسرح العربى «زكى طليمات» وضمت أيضًا عددًا من الضباط الذين شاركوا فى الثورة.

لكن اللافت أن الحملة الإعلانية لـ«الجمهورية» كانت الأضخم فى تاريخ الصحافة، فقد شاركت فيها الطائرات، فقد تم إلقاء الإعلانات التى تحمل أسماء وصور الصحفيين والكتاب على الناس فى الشوارع والميادين، وبالأخص ميدان التحرير.

(5)

وفى عام 1954 ساءت العلاقة بين الزعيم جمال عبدالناصر والأديب إحسان عبدالقدوس، ودخل إحسان السجن، وعندما خرج فوجئ أن أول اتصال لتهنئته كان من «عبدالناصر»، وأمسك «إحسان» بسماعة الهاتف، قائلًا: أهلًا يا ريس (وكانت تلك المرة الأولى التى يقول فيها «إحسان عبدالقدوس» لجمال عبدالناصر يا ريس، فقد اعتاد أن يناديه يا «جيمى»)، وقال له جمال: «تعالى افطر معايا بكرة فى البيت.. أنا منتظرك ماتتأخرش!».

وفى صباح اليوم التالى ذهب «إحسان» إلى منزل «عبدالناصر» فى منشية البكرى، وجلسا معًا على مائدة الإفطار، واحتسيا الشاى، والصمت يسود الاثنين، وفجأة قطع «جمال» جدار الصمت قائلًا: «السجن خير مربٍّ وأعظم معلِّم، لكن أَعدك أن أزيل كل الآثار التى سبَّبها لك السجن».

ولم يُعقِّب «إحسان»، وضحك «عبدالناصر»، وغيَّر الموضوع.

وقبل أن ينتهى اللقاء دعا «عبدالناصر»، «إحسان» لزيارته مرة أخرى لتناول العشاء معه، وتكررت الدعوات، وكان أغلبها لتناول العشاء، ومشاهدة فيلم سينمائى فى حجرة أعدَّها «جمال» لذلك.

واستمرت دعوات «عبدالناصر» لـ«إحسان» عدة أشهر، وفى أحد هذه اللقاءات قال «عبدالناصر» مخاطبًا «إحسان»: «أعتقد يا إحسان أننى قد عالجتك نفسيًّا من صدمة السجن».

(6)

وفى السادس والعشرين من أكتوبر عام 1954 تم إطلاق الرصاص على «جمال عبدالناصر» فى حادثة المنشية بالإسكندرية، والتف غالبية الشعب المصرى حول «جمال»، لكن الحادثة التى جعلت الشعب بأكمله، وفى مقدمته كبار الكتاب والمثقفين يقفون مع «جمال عبدالناصر» بقلوبهم وعقولهم عندما أعلن فى السادس والعشرين من يوليو عام 1956 تأميم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية لتصبح شركة مساهمة مصرية.

يومها أدرك الجميع ما فعلته ثورة يوليو، خاصة بعد أن احتجّت بريطانيا وفرنسا على قرار التأميم، ثم أعلنت بريطانيا تجميد أرصدة مصر لديها، وكذلك فعلت فرنسا وأمريكا.

ووقع العدوان الثلاثى على مصر، وصارت مانشيتات الصحف تتقدم صفوف المعركة، وصارت مقالات الصحفيين وقودًا لتلك الحرب.

وانتصر الشعب المصرى، وانسحبت القوات الفرنسية والبريطانية من مدن القناة بفضل صمود أهالى بورسعيد.

لكن عام 56 كان فارقًا، فقد أدرك جمال عبدالناصر بعد محنة العدوان الثلاثى أنه بحاجة لصحافة أكثر تأثيرًا ليس على المستوى المحلى فحسب، وإنما على المستوى الدولى أيضًا، ولجيل أكثر إيمانًا بالثورة، وبدا أن الظروف كان مهيأة لذلك، فقبل شهور أعلنت «روزاليوسف» عن صدور مجلة جديدة باسم «صباح الخير»، وتم اختيار «أحمد بهاء الدين» ليكون رئيسًا لتحريرها، وعمره لم يتجاوز 29 سنة، لكنه استطاع أن يحقق قفزة كبيرة فى تطور الصحافة المصرية، ويجعل من مطبوعة حديثة بمثابة نغمة مغايرة لما هو سائد، وروح جديدة، وصيغة مبتكرة لم يعهدها القارئ من قبل.

وجمع «بهاء» فى هذه التجربة «صلاح عبدالصبور، وكامل زهيرى، ورجاء النقاش، ومصطفى محمود، وفتحى غانم، ومحمود المراغى»، والرسامين «جمال كمال، وحسن فؤاد، وصلاح جاهين، وجورج بهجورى، وحجازى، وهبة عنايت، وإيهاب شاكر، وأبو العينين، ويوسف فرنسيس»، وغيرهم من كبار المبدعين.

(7)

وبعد ثلاثة أسابيع فقط من ظهور «صباح الخير» تأسست وكالة أنباء الشرق الأوسط برأس مال عشرين ألف جنيه، وذلك لإمداد الصحف بأخبار مصر والعالم العربى، وكان «جلال الدين الحمامصى» هو أول رئيس لمجلس إدارتها.

وفى يوم السادس من أكتوبر صدر العدد الأول من جريدة «المساء» برئاسة تحرير خالد محيى الدين، وقد حدد «عبدالناصر» أن تكون الجريدة يسارية -لا شيوعية- تهتم بمشكلات المواطن البسيط الاقتصادية والاجتماعية.

وفى هذا التوقيت بدأ «عبدالحليم حافظ» رحلته مع الأغانى الوطنية بالتعاون مع «كمال الطويل»، و«صلاح جاهين»، بأغنية «إحنا الشعب».

وبدأت مصر تجدد شبابها فى الصحافة والثقافة والفن، وفى السابع عشر من يوليو عام 1957 اتخذ مجلس إدارة جريدة «الأهرام» قرارًا بتعيين محمد حسنين هيكل رئيسًا لتحرير الجريدة بعد هبوط توزيعها.

حينها لم يكن «هيكل» قد أتم عامه الرابع بعد الثلاثين، لكنه صنع «الأهرام»، و«الأهرام» أيضًا صنعته، فكلاهما كان بحاجة إلى الآخر، هو كان يريد أن يكون رئيسًا لتحرير صحيفة كبرى، والجريدة كانت تريد رئيس تحرير مختلفًا، يعرف طبيعة العصر، ولديه مصادر نافذة، وقدرة فائقة.. وقد التقيا.

فأحدث هيكل نقلة كبرى فى توزيع الجريدة، وصلت إلى خمسة أضعاف ما كانت عليه.

لكن الأهم أنها بعد أن كانت صحيفة كبيرة شاخت مع الزمن، ومر على نشأتها 77 عامًا، استعادت شبابها وصارت مؤسسة كبرى تناطح كبرى الصحف فى العالم، وتحقق لجمال عبدالناصر ما أراد بعد أن وجد فى هيكل صورة الصحفى الذى ظل يبحث عنه طويلًا.