الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
مجتمعات ما وراء الأسوار

مجتمعات ما وراء الأسوار

كان الحديث عن المجتمعات المنعزلة يأتى فى الغالب مقرونًا بالمجتمعات الحدودية والقبلية، التى تنغلق على نفسها مكونة منظومة قيمية خاصة بها تفصلها عن المجتمع الأوسع، وتجعلها تتباين معه، تصبح لها قوانينها وأعرافها، وحدودها النفسية والاجتماعية قبل حدودها الجغرافية، وتأتى تلك العزلة مدفوعة بأسباب جغرافية وجذور تاريخية عميقة، تجعل سكانها قادرين على العيش داخل حدود مجتمعاتهم ملتزمين بقوانينها ومعاييرها، وهو ما يخلق بينهم فى الغالب حالة من التضامن والتماسك الدافع بهم نحو الصمود فى مواجهة العالم الخارجى، ولكن النظر إلى دوافع تكون المجتمعات المنعزلة وهيكلها ومواقعها الجغرافية وحدودها النفسية والاجتماعية أصبح الآن فى حاجة إلى وقفة ودراسة أكثر عمقًا، فى ظل ما نشهده الآن من ظاهرة كانت قيد التشكل منذ سنوات قليلة وتفشت الآن بصورة مفزعة، والحديث هنا عن «مجتمعات الكومباوندات»، ولعل أبرز ما يلفت الانتباه حيال هذه الظاهرة ليس فقط التنامى الملحوظ والتفشى الكبير لها داخل المدن، بل ما أسفرت عنه من تكون «مجتمعات منعزلة» اجتماعيًا ونفسيًا رغم قربها الجغرافى، هى ظاهرة فريدة ظاهرة للعيان، وعلى الرغم من ذلك فهى لم تُر ولم تتم دراستها بالشكل الكافى حتى الآن.



كيف تشكلت تلك المجتمعات المنعزلة فى قلب المدن؟ ولماذا تشكلت؟ وكيف تقترب جغرافيا حد الالتصاق وتبتعد نفسيًا إلى حد العزلة؟ هى ظاهرة تثير العديد من التناقضات، وتطرح العديد من التساؤلات حول تبعاتها المحتملة، لا شك فى أن تمركز مجتمع من طبقة متجانسة إلى حد ما فى دائرة جغرافية محدودة ومحاطة بسياج وأسوار يخلق حالة مثالية من الانعزال عن السياق والمجتمع الخارجى، تشكل بدورها الإحساس بالـ«نحن» فى مقابل «هم»، ويصبح شركاء الوطن فى هذه الحالة «آخرون» مختلفون عنا، ومع مرور الوقت يتنامى الشعور بالتلاصق مع المجموعة المشابهة لنا والنفور من المختلفين، ومن هنا تنبت جذور الصدام، بين من هم أمام ومن هم وراء الأسوار، قد تؤدى تلك الأسوار إلى تآكل تدريجى فى حالة التجانس والاندماج التى كان يتمتع بها المجتمع المصرى منذ زمن ليس ببعيد، وقد تكون سببًا فى انفصال شرائح وطبقات المجتمع عن شواغل بعضها البعض، وقد يصل الأمر إلى حد تنامى العنصرية بين سكان خلف الأسوار وتنامى الغضب فى الجهة الأخرى منها.

فى الحقيقة لقد تحولت الكومباوندات إلى عوالم متباينة تضم شرائح اجتماعية يتم تصنيفها وفقًا للطبقة الاجتماعية ولدرجة الرفاهية، تفرض قوانينها على الزائرين الخارجيين إن وجدوا، تمنع التجول لمن يرتدى ملابس معينة، ترفض مرور من هم دون السكان أو من يحاولون الدخول إلى هذا المجتمع دون تصريح، تلك العزلة تتزايد بصورة واضحة بتزايد عدد الكومباوندات وتقسيماتها لتصل فى بعض الأحيان بسكانها لدرجة من العنصرية والانفصال عن المجتمع الأوسع.

الغريب هنا هو أن كل من هو خارج هذا المجتمع المغلق غريب، دخيل، غير مرحب به.

لا شك فى أن التجانس سمة إيجابية، ولكن ليس فى المطلق، فالتعامل مع التباينات والتفاعل معها يجعل الفرد فى حالة تلاحم واندماج تسمح له باستيعاب وتقبل الآخر، كما تسمح له أيضًا بالتعايش معه دون إصدار أحكام، إن انتشار فكر الكومباوند وتقسيم المجتمع إلى مجتمعات منفصلة وفقًا للطبقة الاجتماعية والفوارق المادية، لا شك سيضر بصورة مباشرة بالهوية الجمعية للمصريين، ويخلق هويات متباينة لمجتمعات متباينة تفصلها عن بعضها البعض أسوار مرتفعة.