الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رسائل Netflix وحروب البث الرقمى هل تعيد المنصات تشكيل الوعى الجمعى للمصريين؟

رسائل Netflix وحروب البث الرقمى هل تعيد المنصات تشكيل الوعى الجمعى للمصريين؟

شهدت صناعة السينما والتلفزيون مؤخرًا تحولًا هائلًا نتيجة ظهور موجة جديدة من خدمات بث الفيديو عبر الإنترنت (OTT)، والتى تعتمد جميعها بشكل كبير على استخدام الخوارزميات، وهو ما أدى إلى ما أطلقت عليه وسائل الإعلام «حروب البث» Streaming Wars التى عززتها جائحة (كوفيد - 19) والإغلاق العالمى اللاحق، حيث أدت الجائحة إلى تسريع هذا التحول المضطرب الذى يحدث فى صناعة السينما والتلفزيون، وانتشار «دور السينما الافتراضية» و«مهرجانات الأفلام عبر الإنترنت»، كما أدت إلى تكثيف الديناميكيات التنافسية لـحروب البث، وهو ما جعل خدمات مثل «نتفليكس» تحقق أرقامًا قياسية فى عدد المشتركين. ونظرًا إلى أن هذه الخدمات تتنافس على الاشتراكات، فإن ما ينتهى إلى جذب المستخدمين المحتملين إلى خدمة واحدة على أخرى قد لا يعتمد على المحتوى الفعلى الذى تقدمانه، بقدر ما يعتمد على الطرق التى يتم إنتاج المحتوى وتنظيمه والتوصية به عن طريق التكنولوجيا الخوارزمية، وهو ما يعنى أن الصناعة ستشهد تسارعًا فى التطوير الاستراتيجى وتنفيذ الخوارزميات، الأمر الذى سيؤدى- بدوره- إلى زيادة أهمية وجودها وانتشارها.



 

وبالنظر إلى منصة نتفليكس، يتضح أن الشبكة قد تأسست فى عام1997، وقد بدأت خدماتها كشركة متخصصة فى تأجير أقراص الفيديو (DVD)، وتحولت الشبكة نحو إطلاق خدمة بث الفيديو عبر الإنترنت فى عام 2007، وتشعبت رسميًا إلى الأسواق الدولية فى عام 2010 مع إطلاقها فى كندا. وفى عام 2011 تم إطلاقها فى أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبى، وامتدت إلى أوروبا فى عام 2012، وأصبحت متاحة رسميًا فى المملكة المتحدة وأيرلندا ودول الشمال. وقد واصلت نتفليكس مسيرتها فى جميع أنحاء العالم فى عام 2015، وأطلقت أخيرًا خدمتها فى أستراليا ونيوزيلندا واليابان ومواقع أخرى. واعتبارًا من عام 2016، أصبحت نتفليكس متاحة فى جميع أنحاء العالم تقريبًا باستثناء عدد قليل من البلدان.

خلال ثلاث سنوات (2018 - 2020) أضافت نتفليكس أكثر من 100 مليون مشترك جديد للخدمة. وتتمركز القاعدة العريضة من مشتركى نتفليكس فى الولايات المتحدة وكندا، حيث تمثل الدولتان ما يزيد على %35 من عدد المشتركين فى المنصة على مستوى العالم. وبحلول عام 2030 تخطط «نتفلكس» لأن يكون لديها 500 مليون مشترك على مستوى العالم. ووفقًا لـ«مجموعة ليتشتمان للأبحاث» Leichtman Research Group، فإن %62 من الأسر الأمريكية لديها الآن حساب على نتفليكس التى تعد خدمة البث الأكثر انتشارًا فى الولايات المتحدة وخارجها، والتساؤل الذى يبرز هنا هو: كيف نجحت نتفليكس فى بناء هذه القاعدة العريضة من المشتركين حول العالم؟

أنفقت «نتفلكس» فى عام 2019 حوالى 1.5 مليار دولار على البحث والتطوير، بزيادة نسبتها %26 عن إنفاقها فى عام 2018. وفى عام 2021، تم ترشيح نتفليكس لما مجموعه 35 جائزة أوسكار، وهو مؤشر قوى على أن منتجات المنصة قد نالت استحسان النقاد.

 ولم يكن هذا التحرك لجذب النقاد بسبب الحظ أو جودة المحتوى الذى تنتجه المنصة؛ بل يرجع إلى التسويق أيضًا. ففى عام 2020، أنفقت نتفليكس ما يُقدر بـ100 مليون دولار أمريكى على حملات تسويق الجوائز (awards marketing campaigns). قارن ذلك بالاستديوهات التقليدية، التى عادةً ما تنفق ما بين 5 ملايين و 20 مليون دولار لكل فيلم على تسويق الجوائز، لكن الفوز بالجوائز ليس مجرد تعزيز للأنا بالنسبة لـنتفلكس؛ فهناك سبب تجارى وراء ذلك. فهناك فوائد إنتاجية لكونك استديو حائزًا على جوائز، لأنه سيجعل أفضل الممثلين والمخرجين والكتاب يتسابقون للعمل معك.

ولعل السبب الأهم فى تصاعد عدد مشتركى نتفليكس يتمثل فى «إضفاء الطابع الشخصي» Personalization، فقد أشارت دراسة أجرتها شركة «أكسنتشر» Accenture  عام 2015 إلى ثلاثة أساليب لإضفاء الطابع الشخصى لها تأثير مباشر على سلوك الشراء.

لا يخفى على أحد أن نتفليكس أجادت صياغة الواجهات الصديقة للمستهلك والمدعومة بإضفاء الطابع الشخصى،وهو ما دفع المنصة لأن تصف نفسها بأنها «مهووسة بالعميل»، وتسعى جاهدة لتقديم تجربة شخصية بالكامل. تُعد فئة «لأنك شاهدت…» مثالًا رئيسيًا على هذه الفلسفة فى العمل وفقًا لـنتفليكس يأتى %80 من المحتوى الذى تتم مشاهدته من التوصيات، لقد مضى وقت طويل حتى نضج النظام الأساسى للمنصة ليتجاوز نموذج اكتشاف المحتوى الأساسى «البحث بالكلمات الرئيسية» إلى نموذج يعتمد خوارزميات متقدمة تستخدم بيانات المشتركين لتقديم توصيات المشاهدين بناءً على ما يحلو لهم (وما لا يعجبهم) وما قد شاهدوه (وآخرون) من قبل، وقد حددت نتفليكس أكثر من 2000 «مجتمعات ذوق» taste communities، أى مجموعات من الأشخاص الذين لديهم تفضيلات المحتوى نفسها.

فى نقد نظرية المؤامرة: هل نحن مستهدفون بالتغيير؟

لا شك فى أن وسائل الإعلام بشكل عام تُحدث تأثيرات مباشرة على «الوعى الجمعي»، والوعى الفردى. قد تحدث هذه التأثيرات بصورة مقصودة أو بصورة غير مقصودة، فقد يكون لمنتجى المحتوى الإعلامى- على سبيل المثال- مصالح خاصة فى تحقيق أهداف اجتماعية معينة، والتى- بدورها- قد تدفعهم إلى ترويج أو دحض وجهات نظر معينة. يمكن أن يصبح هذا النوع من التأثير الإعلامى،فى أشد أشكاله وضوحًا، «دعاية» تحاول عن قصد إقناع الجمهور لأغراض أيديولوجية أو سياسية أو تجارية. أيضًا غالبًا ما تعمل الدعاية (ولكن ليس دائمًا) على تشويه الحقيقة، أو تقديم الحقائق بشكل انتقائى،أو استخدام النداءات العاطفية، هنا ينبغى وضع خط فاصل بين العرض الانتقائى (ولكن «المباشر») للحقيقة والتلاعب الذى تقوم به الدعاية. بشكل عام، قد تُقدم العلاقات العامة جانبًا واحدًا من الحقيقة، بينما تسعى الدعاية لابتكار وخلق حقيقة جديدة.

وبعيدًا عن الحديث استنادًا إلى «نظرية المؤامرة» فى هذا الصدد التى تتحدث عن سعى متعمد لدى القائمين على مثل هذه المنصات لإحداث تغييرات داخل المجتمع، وفرض قبول قيم مختلفة عليه، يتعين الحديث عن «إمكانية حدوث هذا التأثير من عدمه»، وهنا يُثار تساؤل هام: ماذا لو لم تكن هناك نظرية مؤامرة؟ هل ستتحقق المخاوف الثائرة ويحدث هذا التأثير؟.

تتبادر إلى الذهن عند محاولة الإجابة عن هذا التساؤل نظرية «حراس البوابة»، وهى نظرية نفسية شهيرة فى مجال صناعة الإعلام تتناول تفصيلًا تأثير القائمين على توصيل الرسائل الإعلامية. و«حراس البوابة» هنا هم «الأشخاص الذين يساعدون فى تحديد الأخبار التى تصل إلى الجمهور، بمن فى ذلك المراسلون الذين يقررون المصادر التى يجب استخدامها، والمحررون الذين يقررون ما يتم الإبلاغ عنه وأى الأخبار تصل إلى الصفحة الأولى». ترى النظرية أن حراس بوابات وسائل الإعلام هم جزء من المجتمع، وبالتالى فإنهم مثقلون بتحيزاتهم الثقافية، سواء بوعى أو بغير وعى،فعند تحديد ما يمكن اعتباره ذا قيمة إخبارية أو ترفيهية أو غيرها، يقوم حراس البوابة بنقل قيمهم الخاصة إلى الجمهور الأوسع. 

وبالتالى يمكن النظر للانتشار المتصاعد لمثل هذه المنصات كمقدمة لخلق «حراس بوابة» جدد، يفرضون عن عمد -أو بدون- قيمهم الثقافية وقناعاتهم على عقول المتلقين ويؤثرون على المدى الطويل فى تشكل الهوية الجمعية.

 لا يقتصر هذا التأثير بالطبع على المنصات، بل يمتد إلى وسائل التواصل الاجتماعى،حيث تصاعد الجدل بشدة حول وظيفة حراسة البوابة عندما بدأ «تويتر» -على سبيل المثال- فى إدراج المستخدمين المقترحين للمبتدئين الذين لم يتابعوا أى شخص ولم يعرفوا كيف تعمل الخدمة، ولم يكن هناك تفسير لكيفية دخول أى شخص إلى مثل هذه القائمة، وبدأ جميع المستخدمين المميزين فى جمع أعداد هائلة من المتابعين، وهو ما يقوم به «إنستجرام» و«يوتيوب». حتى فى ظل «إضفاء الطابع الشخصي» على المعروض على الإنترنت، لا يزال هناك دور هام ومؤثر لحراس البوابات الجدد الذين يفرضون نفوذهم ورؤاهم على المستخدمين.

تأثير نتفليكس: المنصات والتعاطف مع القيم المغايرة

فى حدود ما تم إجراؤه من بحث، لم يتم إجراء دراسة منظمة أو مسح واسع النطاق لتأثير المنصات الرقمية الغربية على «منظومة القيم المجتمعية المصرية». التساؤل الذى لم يعد محل جدل هنا، هو أن ما تثيره هذه المنصات التى تتبنى نظمًا قيمية مغايرة، هو «التعاطف» الناتج عن مشاهدة الأعمال الدرامية المشحونة عاطفيًا والتى تستغرق المشاهدين وتجذبهم للجلوس لمشاهدتها لساعات طويلة. وفقًا لعالم النفس البريطانى إدوارد تيتشنر Edward Titchener، فقد «أصبحنا ملتصقين بالقصص المعقدة والمشحونة عاطفيًا بسبب ما تتيحه لنا من قدرة على التعرف على مشاعر الآخرين»، هذه القدرة هى التى تدفع نحو التوحد مع الآخر، وهذا التوحد الناتج عن التعاطف هو المفتاح الرئيسى لتفسير تأثير وسائل الإعلام بشكل عام والمنصات بشكل خاص على قيم واتجاهات الأفراد.

يُعرِّف علماءُ النفس التعاطفَ ببساطة بأنه يعنى «القدرة على وضع أنفسنا فى مكان شخص آخر»، ويقسم علماء النفس التعاطفَ إلى نوعين، هما: التعاطف المعرفى Cognitive empathy، والتعاطف العاطفى emotional empathy. يعنى «التعاطف المعرفي» كيف يمكن للبشر أيضًا تبنى وجهات النظر النفسية للآخرين، بما فى ذلك منظور الشخصيات الخيالية التى يشاهدونها فى الأعمال الدرامية. فعندما نمارس التعاطف المعرفى، فإننا نتدرب على تبنى منظور شخص آخر، حيث نتخيل كيف يمكن أن يكون الأمر إذا وضعنا أنفسنا فى موضعه، ولهذا يُشار إلى التعاطف المعرفى أيضًا باسم تبنى المنظور perspective-taking، مع وسائل الإعلام التقليدية والأعمال المنتجة محليًا تكون القيم المجتمعية المحلية هى «المنتج المعروض» على المشاهدين، والتعاطف يتم مع «قيم مراقبة» تسير داخل إطار واضح، وبالتالى كانت المخاوف فى الماضى تتعلق -على سبيل المثال- بتكرار مشاهد العنف التى يرتكبها «بطل» العمل، أو «التدخين»، أو «الإدمان»، أو غيرها من العادات والاتجاهات والقيم التى كان الخوف منها مشروعًا ومبررًا فى ذلك الوقت. ولكن مع ما شهده العالم من انفتاح ومع تحلل الدور الرقابى وسيولة الحدود بين المجتمعات، أصبحت «المنتجات المعروضة» تتضمن قيمًا مغايرة وقد تكون صادمة يتبناها «أبطال» محبوبون، فى سياق عمليات سرد مصاغة بصورة محكمة تجعل التعاطف مع هذه القيم يحدث بصورة تلقائية دون جهد تلقينى،بل ربما يحدث دون عمد، وبالتالى فالمخاوف من تأثير المنصات الغربية مثل «نتفلكس» جزء من مخاوف أكبر عززها الانفتاح على العالم بثقافاته وقيمه المغايرة التى أصبح وجودها أمرًا واقعًا يصعب تفاديه. ولعلّ النظرية الأكثر انتشارًا حول هذا التأثير هذه هى نظرية الغرس Cultivation theory، وهى نظرية تركز بصورة حصرية على مشاهدة التلفزيون، وتفترض أن التلفزيون يقدم رؤية مشوهة للعالم (على سبيل المثال: المزيد من العنف، والمزيد من الثراء، والمزيد من عدم الأمانة وعدم الثقة)، وأن المشاهدة المتكررة تجعل المشاهدين يدمجون هذه التشوهات فى عالمهم الحقيقى (المواقف والمعتقدات). لقد تراكم قدر كبير من البحث لدعم هذا الاقتراح، ثبت أن تكرار المشاهدة مرتبط بشكل إيجابى بتقديرات انتشار الجريمة والعنف، وتعاطى المخدرات، والبغاء، وإدمان الكحول، وغيرها.

نقد الحتمية: القيم لا تعمل بهذه البساطة

فى النهاية، على الرغم من وجاهة الرؤى التى تفترض حدوث هذا التأثير بصورة تلقائية، فإن صحة الاعتقاد فى حتمية هذه التأثيرات نفتها العديد من البحوث التجريبية، حيث وجد العلماء أن الوسائط المقنعة لا تؤدى دائمًا إلى إحداث تغيير متوقع فى المواقف. على سبيل المثال، أظهرت الدراسات أن أفلام التدريب العسكرى زادت المعرفة بالقضايا، ولكنها لم تغير المواقف، وأن تأثير وسائل الإعلام أثناء الانتخابات الرئاسية عزز المواقف الحالية بدلًا من تغييرها.

 وبالتالى سيظل التأثير هنا رهنًا بالعديد من العوامل، مثل: قوة الرسالة، وتواتر التغطية وكثافتها، والسياق المجتمعى المحيط.

خبيرة بالمركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية