السبت 18 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
كيف ولماذا؟ حكـــم السيسى مصـــر «جمـــال» والمسافة العسكرية

كيف ولماذا؟ حكـــم السيسى مصـــر «جمـــال» والمسافة العسكرية

كان د. «أسامة الباز» هو صاحب وضْع اللبنة الأولى فى مشروع التوريث، وقد بدأه منذ عام 98م عندما قدّم «جمال» بأهم محفل أقيم فى مصر وقتها بمناسبة مرور 25 عامًا على حرب أكتوبر المجيدة، وأقيمت تفاعلات كانت حديث الساعة هى: «الندوة الاستراتيجية» التى نظمتها إدارة الشئون المعنوية تحت رعاية وزارة الدفاع والقائد الأعلى للقوات المسلحة «حسنى مبارك»، وكان رؤساء الندوات: «د. مصطفى خليل»، رئيس وزراء مصر الأسبق، «د. أسامة الباز»، ونخبة من قادة أكتوبر الذين كانوا على قيد الحياة فى هذا التاريخ، علاوة على مفكرين ومسئولين كبار.



 

كانت الندوة تضم أربعة محاور:  «المحور العسكرى، السياسى، الاقتصادى، الاجتماعى»، لكن بالطبع كان أهمها «العسكرى» الذى منحته الندوة أهمية قصوَى كمحور أساسى، والغريب فى الأمر أن ورقة «جمال» التى قدّمها للندوة وموضوعها اقتصادى يحمل عنوان «وجهة النظر الاقتصادية»، وقُدِّم على أنه «عضو المركز المصرى للدراسات الاقتصادية»، كان قد جاء لتوّه من رحلة دراسية لبلاد المعقل الاقتصادى الرأسمالى المتوحش «أمريكا وإنجلترا»، وهناك قالت بعض المراكز الاقتصادية بأن عائق مصر لدخولها العولمة الاقتصادية هو الديون المكبلة بها والحل يكون بشراء بعض الشركات العالمية لتلك المديونية من مصر لتقوم هى بالسداد مقابل فوائد ودخول تلك الشركات فى شراكة استثمارية بمشروعات اقتصادية ذات منفعة عالية وحصولها على تيسيرات بالغة، اقتنع «جمال» وتم الزّج أمامه بشركة أبناء الكاتب الكبير «هيكل» ليكونوا وسطاء بين الشركات العالمية والحكومة المصرية فى ذلك، بالطبع علاقات «هيكل» الدولية هى التى وضعت شركة الأبناء فى المقدمة. المهم أن «جمال» أقنع والده بذلك ودخل الشراكة مع شركة «القلعة» التى يملكها «أحمد هيكل» وشقيقه، وتم جمع جوقة الاقتصاديين أصحاب تطبيق النظرية الرأسمالية بكل توحشها الذين هم أبناء السياسيين الذين تمتعوا ونالوا طموحاتهم من النظام الاشتراكى الذى يحارب النظام الذى شرّبوه لأبنائهم فى تعليمهم وعملهم.

فى الندوة سالفة الذكر عرض «جمال» وجهة نظره فى المحور العسكرى وليس الاقتصادى، وكان قصد «الباز» من هذا إعطاء فرصة كبيرة لظهور «جمال» وسط قادة الجيش العظام؛ خصوصًا أصحاب النصر العظيم، ومن ناحية أخرى أن المحور يلقَى الاهتمام البالغ فى متابعته جماهيريًّا ونخبويًّا، وهذا يفى بما يأملونه فى وضْع «جمال» فى بؤرة الحدث الأهم، فى هذه الندوة- أيضًا - كان بزوغ المجموعة الاقتصادية التى كوّن منها «جمال» لجنة السياسات، والأكثر أنه اختار منهم وزراء يرتبون له ما يصبو إليه وكان على رأسهم «يوسف بطرس غالى، والمغربى، ورشيد»، وآخرون.

ومع أن هذه الندوة جعلت من «جمال» حديث الساعة فى مصر بعد تكليف بعض الكُتّاب بالقيام باللازم من تلميع وإلقاء الضوء على حضوره وكلمته؛ فإن «جمال» استشعر شيئًا وهو أن قادة الجيش لم يعطوه الأهمية التى كان ينتظرها منهم، والأكثر أنه وجد نفسه بين عظماء بمعنى الكلمة فكرًا وثقافة واستنارة.. إنهم «قادة أكتوبر» حتى بعد مرور 25 عامًا على معركة المصير لا يزالون محتفظين بوقارهم وثقتهم ولياقتهم النفسية والبدنية، ووجد هوّة واسعة تفصل بينه وبينهم رُغْمَ أنه ابنُ أحدهم، ولكنهم تعوّدوا أن العمل العسكرى لا يُدخل فى حساباته المحسوبية التى نالها «جمال» بعرض ورقته البحثية فى غير المحور الذى يجب أن يكون فيه، وأيضًا احتاطوا لطرحه الذى استشعروا أنه سيعرج بمصر إلى منحى لا يتوافق مع الشعب الذى يجب أن يصل إلى «العولمة الاقتصادية» بشكل مرحلى وليس متسرعًا؛ لأن نتائجه ستكون وبالًا على البلد. هكذا قال لى القادة وتنبأوا بالكثير من التداعيات التى حدثت.

هذه العلاقة التى ألقت بظلالها بين «جمال» والقادة العسكريين جعلته يفكر كثيرًا فى كل مرّة يحدث الاصطدام، عندما يقوم بطرح تنزلق فيه البلاد بشكل غير مدروس ولكنه الجرى للحاق بسباق غير مؤهلين له، وأيضًا القائمون على تنفيذه غلب عليهم المصلحة، فهم معتنقو الرأسمالية المتوحشة بأبشع صورها التى تضمن لهم عمولات وامتيازات وتقريب مَن يقوم بالأعمال غير النظيفة حتى ساد الفساد فى كل مكان.

هذا الانطباع الأول الذى وصل «جمال» من قادة الجيش جعله غير مستبشر منهم لمساعدته أو حتى قبوله فى مشروعه «التوريث» الذى يسعى إليه بخُطى واسعة، ومنذ تاريخ الندوة عمل «للخلف دُر» باحثًا عن قوة  أمنية تعضده ملوّحًا بها للمؤسّسة العسكرية وأراد أن يضعها فى مقام الندّيّة، وهنا فقَدَ بوصلته تمامًا؛ لأن هذا لا يجوز بأن يضع قوة حماية الوطن والحفاظ على سيادته مقابل حفاظ على الأمن الداخلى الذى يقوم بعمله فى ظل الوقار السيادى الذى تحققه له مؤسّسة الجيش، وهنا الندّيّة والمقارنة لا تجوز.

ولكن «جمال» لعب بالنار واستغل شغف وزير داخلية يطمح فى مزيد من السُّلطة التى لا يحق له أن يتولاها، خصوصًا وهو الذى جاء بزهو من على رأس جهاز معلوماتى خطير «أمن الدولة» ووشى بوزيره الذى تقاعس فى الاهتمام بالمعلومات الذى أمده بها عن احتمال حدوث عمل إرهابى فى الأقصر، كان ذلك عام 97م عندما أقيل «حسن الألفى» وتقلد بدلًا منه «حبيب العادلى» وزارة الداخلية، تقابلت طموحات «جمال- العادلى» وركب الغرور كل منهما وهما ينخران فى جسد الوطن بعد أن أوهما الجميع بقوتهما وسيطرتهما على زمام الأمور، ولن أنسى رد فعل «اللواء أمين غانم» مسئول أمن مجلس الوزراء فى 2011م عندما تراءى أمام أعين الرجل ما يحدث من فوضى فى وزارة الداخلية والشارع معًا، فقال: «ده إحنا ضعفاء قوى عبارة عن بدل وكرافتات»، وكان يقصد أن النظام ليس بالقوة التى صوّرها لأربابه وأيضًا للعاملين فيه.

كان «جمال» يعلم جيدًا أن الجيش والمشير «طنطاوى» غير راضين عن وزرائه ومجموعته فى لجنة السياسات، وربما يسأل البعض: ألم يكن فى مقدور «جمال» التخلص من «طنطاوى» والإتيان بآخر يعضده ومشروعه التوريثى؟ بالتأكيد حاول مرارًا وتكرارًا ولكنه لم يصل إلى ما يصبو إليه، فقد لمس أن المؤسّسة العسكرية على قلب رجل واحد وأن فكرهم يُعبر عنه القائد العام، وقد لمس هذا بنفسه من قادة قدامَى فى ندوة عام 98م وتأكد من أن القادة الحاليين يحذون حذو أساتذتهم وقادتهم، وشاهَد هذا عندما كان يحضر احتفالاتهم ويقابلهم فى مناسبات عدة، كان جميع القادة يضعون مسافة كبيرة بينهم وبينه، وعندما تتم دعوته فى احتفالاتهم كرجل من النخبة السياسية ومسئول حزبى لا يكون جلوسه فى الصفوف الأولى ولا يقف أحدهم بالخارج لاستقباله كرئيس منتظر، كل هذه المظاهر وأكثر أعطته مؤشرًا بأنه غير مرغوب فيه منهم جميعًا فكيف له أن يأتى بآخر بديلًا عن «طنطاوى»؟!، ومن ناحية أخرى كان «مبارك» يرى فيه وزير دفاع ذا حرفية عسكرية غير طامح سياسيّا، وقد اختاره بدقة فى مايو 91م بعد إقالة المشير «أبوغزالة»، وتعيين «يوسف أبو طالب» الذى كان قد ترك الجيش له نحو عشر سنوات عمل خلالها محافظًا ليرده مرّة أخرى للجيش فى استدعاء كمرحلة انتقالية للجيش استمرت ثلاث سنوات، بعدها اختار «مبارك» وزيرًا للدفاع بمعايير محددة حافظ عليها «طنطاوى» لمدة عشرين عامًا كان فيها وزيرًا، ومن أهمها عدم الظهور الإعلامى إلّا نادرًا وبعد أن يسمح له، والمشير «طنطاوى» لم يقُم بأى حوارات تليفزيونية إلّا مرتين فقط خلال العشرين عامًا، والأخير كان حوارًا جمع فيه بين الأستاذين «مفيد فوزى ومكرم محمد أحمد» وكان بمناسبة احتفالات أكتوبر فى عام 2000م.

كان المشير «طنطاوى» يُعلن من وقت لآخر عدم رضائه عن المجموعة الاقتصادية وأرباب التوريث بالحكومة والحزب الوطنى، وتصدّى للكثير من التوحش فى الاستحواذ على أراضى الدولة؛ خصوصًا عندما طلبوا أرضًا فى منطقة القاهرة الجديدة  بالظهير الصحراوى ليقوموا بتسقيعها وبيعها لكى يجعلوها امتدادًا للتجمّع الخامس، ولكنه قال لهم إنها فى نطاق وزارة الدفاع حتى يحميها من وضْع يدهم عليها، وبالمناسبة هى الأرض التى يتم عليها الآن إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة، لتكون مِلكًا لكل المصريين وليس لرجال الأعمال المدللين، وهذا جعل زبانية النظام المباركى ينصبون له العداء الذى زاد عندما أوقف مسألة بيع «بنك القاهرة» والإبقاء عليه واستثمار القوات المسلحة فيه بأسهم من فوائد مشاريعها الاقتصادية للحفاظ على ملكيته للشعب المصرى.

«طنطاوى» والزفاف الأسطورى

ولكن الفعل الذى كان أكثر حساسية لعائلة مبارك؛ خصوصًا وريثه وحاشيته هو ذلك الزفاف الأسطورى الذى صاحب اغتيال «أشرف مروان» عام 2007م، ولكن لماذا ربطت بينهما؟ لأن هذا الزفاف استعد له علية القوم فى مصر بشكل غير عادى، كان الزفاف لابنة وزير التجارة وقتها «رشيد محمد رشيد» على ابن شقيق وزير الإسكان وقتذاك «أحمد المغربى»، وتم الاستعداد له أشهُر، وقبل الزفاف ذهبت سيدات المجتمع المخملى ومنهن «منى عبدالناصر» إلى فرنسا ولبنان لشراء الأزياء المناسبة لهذا العُرس الأسطورى، واختارت «منى» لبنان لشراء ثوب لحضور هذه المناسبة، وتلقت خبر مقتل زوجها «أشرف» وهى تتسوق بلبنان التى غادرتها إلى لندن لترجع مع جثمانه.

ونعود إلى الزفاف الأسطورى الذى لم تتوقف فعالياته؛ حيث جاءت الطائرات من أنحاء دول العالم محملة بأشهَر المأكولات من الخارج، وطائرات أخرى حاملة وصيفات الشرف قادمات من فرنسا. واصطفوا لاستقبال المدعوين عند باب قصر يملكه «رشيد» بالمنصورية ليقدموا لهم الزهور التى تم استيرادها، وعلى موائد المدعوين تراصت الهدايا الذهبية بجانب المأكولات، وكان ضمن المدعوين من المحافظين والوزراء المشير «طنطاوى» الذى بدت على وجهه علامات الازدراء لهذه المراسم بالعُرس الذى تكلف مليارات الدولارات، وعندما دخل القاعة وجلس إلى إحدى الموائد والتف حوله بعض الوزراء والمحافظين نهض بعد خمس دقائق بالضبط، وقال لا أقدر على الجلوس أكثر من ذلك ولا يمكننى تذوق تلك المأكولات والشعب المصرى بالخارج يصيح من غلاء المعيشة وافتقاد أبسط السلع الاستهلاكية.

غادر المشير القاعة وسط عيون حائرة، وتناقل الذين جلسوا قريبين منه عدم رضائه واستياءه مما رأى. وفى اليوم التالى أفضى «طنطاوى» لتلميذه «السيسى» عن هؤلاء الوزراء الذين يستفزون الشعب، ولكنْ غضب المشير جعل (الوريث) يفكر ألف مرّة فى زفافه بالعام نفسه، بأن يكون بسيطا حتى يقدّم نفسَه للشعب والمسئولين الغاضبين منه وعليه نموذجًا لبساطة لم تكن موجودة لديه أبدًا.