الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
فيدرالية الجنوب.. لعبة إيران الأخيرة: البصرة العراقية.. بين حقائق التاريخ وأكاذيب السياسة

فيدرالية الجنوب.. لعبة إيران الأخيرة: البصرة العراقية.. بين حقائق التاريخ وأكاذيب السياسة

عادت المَطالب الجنوبية بالعراق لإعلان إقليم البصرة إلى الواجهة مرة أخرى على وقع الحملات الانتخابية التى جرت فى أكتوبر 2021، سواء الانتخابات الفيدرالية أو المحلية؛ بل كان خطاب «إقليم البصرة» هو القاطرة التى أعادت رئيس الوزراء الأسبق نورى المالكى إلى الأضواء حينما حل تحالفه «ائتلاف دولة القانون» فى المرتبة الثالثة بالانتخابات الفيدرالية بشكل مفاجئ عن جميع التوقعات التى تم تداولها عشية الانتخابات.



الدعوات الفيدرالية عام 2021 تأتى من خارج الأراضى العراقية وتحديدًا من إيران، على ضوء تفهم طهران عقب الثورة العراقية عام 2019 أن النفوذ الإيرانى فى العراق قد خبأ وتآكل، إضافة إلى المشاكل الداخلية الإيرانية الاقتصادية والتوتر «الأمريكى- الإيرانى» على ضوء إرث إدارة «دونالد ترامب» فى العلاقات بين طهران وواشنطن، وبعد أن كانت إيران قد شاركت مع عوامل محلية وإقليمية أخرى فى فرملة المخطط الأمريكى لتقسيم العراق إلى ثلاث دويلات فيدرالية، وذلك بمنع الحكومات العراقية الموالية لطهران فى زمن «نورى المالكى» و«عاطف عبدالمهدى» بإعلان إقليم الموصل أو إقليم الأنبار شمال العراق، وأيضًا منع فكرة قيام إقليم البصرة جنوب العراق؛ بل إن «المالكى» الذى يروّج اليوم لإقليم البصرة هو صاحب الدور الرئيس فى منع إعلان قيام هذا الإقليم مرتين عامَىْ 2008 و2010.

ومنذ ثمانينيات القرن العشرين، يروّج الغرب لفكرة انقسام العراق مَذهبيًا وعرقيًا إلى الشمال الكردى والوسط السُّنى والجنوب الشيعى، وهى فكرة مردود عليها تاريخيًا بأن العراق لم ينقسم يومًا لأسباب دينية أو طائفية أو حتى عرقية، وكان العراق دائمًا بوتقة للقوميات والمَذاهب والأديان المختلفة، وأن العراقيين الشيعة قد شاركوا فى الحركة الوطنية العراقية وحركة القومية العربية؛ بل كان أغلب قادة حزب البعث العربى الاشتراكى العراقى من العراقيين الشيعة حتى فى سنوات الرئيس العراقى الراحل «صدام حسين» الذى حاول الإعلام الدولى نعت إدارته بالنظام السُّنى ولم يكن ذلك صحيحًا؛ إذ إن أغلب رجالات إدارة «صدام حسين» كانوا من العراقيين الشيعة إضافة إلى أن ثلثى الجيش العراقى على الأقل الذى حارب وانتصر على إيران الخمينية كان من الطوائف الشيعية العراقية.

أن الأسباب الحقيقية لدعوات الانفصال فى الأراضى العراقية قبل الثمانينيات، كانت دائمًا متعلقة بضعف الحكومة المركزية العراقية وليس لأسباب عرقية أو دينية، إذ ساهم التقسيم العثمانى للعراق والشام إلى ولايات عثمانية متعددة فى ترسيخ فكرة المصلحة المناطقية الضيقة بين أعيان ووجهاء المجتمعات التجارية فى البصرة وحلب، والمناطق الريفية إضافة إلى حواضر البدو وأخيرًا العواصم ذات الطابع المدنى.

الإرث العثمانى الذى زرع بذرة التقسيم فى الشام والعراق، قد سبقه الاحتلال التتارى للعراق وتقسيمه لأراضى الدولة العباسية، ولاحقًا قيام التتار بدخول الإسلام وقيام أكثر من دولة تتارية على الأراضى العراقية، إضافة إلى تمدد الحُكم الفارسى إلى الداخل العراقى كلما وهن الحُكم المركزى العراقى ما خَلق مصطلح «عراق العرب» و«عراق العجم» فى معاجم التاريخ.

كما أن ضعف الدولة العباسية قد سمح بقيام بعض ممالك والإمارات العراقية المستقلة على الحدود العراقية، وأخيرًا فإن الحضارات العراقية والشامية القديمة لم تكن حضارات مركزية مثل الحضارة المصرية القديمة، بمعنى أن الحضارات العراقية والسورية كانت عادة تبدأ فى إقليم بعينه قبل أن تتمدد خارج الإقليم العراقى للسيطرة على باقى الأقاليم العراقية بالغزو، على عكس الدولة المركزية المصرية التى تعتبر أقدم دولة مركزية فى التاريخ.

إن هذا التأصيل التاريخى لفكرة الإمارات العراقية يوضح بجلاء أن العراق لم يشهد يومًا انفصالًا أو فيدرالية على نمط عرقى أو دينى؛ ولكن الأسباب كانت دائمًا سياسية وتجارية واقتصادية، وأن العامل العرقى والطائفى لم يظهر إلا بحلول الثمانينيات على يد المشاريع الأمريكية والإيرانية للمنطقة والتى أصبحت لاحقًا هى خرائط مشروع الشرق الأوسط الكبير.

  سقوط أقاليم الموصل والأنبار وكركوك

كانت إيران ومعها سوريا قد تصدتا لمحاولات أمريكية لصناعة إقليم سُنّى فى الموصل ثم الأنبار، أو إقليم متعدد الأعراق فى كركوك يكون ذا أغلبية تركمانية موالية لتركيا، وذلك عقب بدء الاحتلال الأمريكى عام 2003، ولم يكن ذلك إيمانًا من دمشق وطهران بوحدة الأراضى العراقية؛ ولكن كان طمعًا من المحور الفارسى فى السيطرة على العراق كاملًا، وإدراكًا من دمشق وطهران أن ظهور إقليم ثم جمهورية سُنية عراقية سوف يتبعه مناوءة من هذا الإقليم/ الجمهورية لباقى أراضى العراق الواقعة تحت الهيمنة الإيرانية، كما أن دمشق وطهران تدركان أن قيام جمهورية/إقليم سُنى سوف يؤدى إلى انتقال عدوَى الفيدرالية السُّنية إلى إيران وسوريا وحتى لبنان، وأن عدوَى الفيدرالية الكردية التى بدأت بالعراق وترسخت فى سوريا وتحاول أن تجد موطئ قدم لها فى إيران وتركيا اليوم يجب ألّا تتكرر فى المناطق السُّنية العراقية.

وتحاول طهران الادعاء بوجود مَطالب تاريخية وثقافية بقيام إقليم البصرة، والادعاء بأن هذه المَطالب الطائفية نسخة القرن الحادى والعشرين لها نسخة سابقة فى عشرينيات القرن العشرين، ما  يستدعى أن نفتح كتب التاريخ ونفهم ماذا جرى بالبصرة وجنوب العراق فى عشرينيات القرن المنصرم حتى يمكن الرد على ادعاءات المشروع «الأمريكى- الإيرانى».

 أهمية البصرة

البصرة تضم 80 % من آبار النفط العراقى، وهى المنفذ البحرى الوحيد للعراق، ومن دون البصرة يتحول العراق إلى دولة حبيسة، وينص الدستور العراقى أن الإقليم له الحق فى انتخاب رئيس وحكومة وبرلمان مستقل عن الحكومة المركزية فى العاصمة، وله الحق فى دستور داخلى ونظام أمنى وعسكرى خاص به، إضافة إلى أن عائدات النفط والغاز والثروات الطبيعية داخل الإقليم تقع تحت تصرف حكومة الإقليم نفسه.

 البصرة فى القرن التاسع عشر

حتى عشرينيات القرن التاسع عشر كانت البصرة ذات أغلبية سُنية منذ وصول الإسلام إلى العراق، ولكن على ضوء بدء التجارة البريطانية والغربية من شبه جزيرة الهند إلى الخليج العربى وفارس ثم إلى العالم الغربى، بدأت البصرة تتحول إلى ميناء دولى ذى أهمية استراتيچية ثم تتحول المدينة إلى طابع تجارى واقتصادى مفتوح كما الحال مع بورسعيد المصرية فى النصف الأول من القرن العشرين عقب افتتاح قناة السويس فى القرن التاسع عشر.

وعلى ضوء فرص التجارة والعمل والاستثمار، هاجر إلى البصرة العائلات البرجوازية والرأسمالية من البحرين والإحساء غرب الجزيرة العربية وفارس، ولم يكن مقصودًا أن تكون الهجرة ذات أغلبية ديموجرافية شيعية، وفى زمن كانت تلك المناطق ينظر إليها باعتبارها «أرض الإسلام» حتى لو تقسمت إلى ولايات فارسية وولايات عثمانية، كانت تلك الهجرة طبيعة ومن دون مشاكل قومية أو وطنية أو حتى قبائلية وعشائرية، وخلال عقدين من الزمن فحسب وبحلول أربعينيات القرن التاسع عشر أصبحت البصرة ذات أغلبية شيعية.

وساعد التقسيم العثمانى للعراق، ما بين ولاية الموصل وولاية بغداد وولاية البصرة، فى عدم وجود إزعاج عثمانى أو عراقى لهذا التدفق الاقتصادى والاستثمارى، وبحلول منتصف القرن التاسع عشر، أصبحت البصرة نموذجًا فريدًا للدولة المدنية التى لا يحكم أيًا من فعاليتها الانتماءُ الدينى؛ حيث تضم إلى جانب المسلمين طوائف الكلدان الكاثوليك، والسريان الكاثوليك والسريان الأرثوذكس، ويهود ومندائيين وشيخيين، لا يجمع بينها إلا مَصالح برجوازية تجارية يمثلها طبقة من الأعيان وكبار التجار، أصبح لهم الحق فى انتخاب مجلس محلى بداية من عام 1870 يتعاون معه الوالى العثمانى، وللمفارقة فإن الصوت السُّنى والصوفى كان أعلى من الصوت الشيعى بين وجهاء البصرة فى ذلك الوقت.

ولم يتم النظر إلى البصرة حتى عقب هذا التغيير باعتبارها معقل الشيعة فى العراق؛ إذ إن بغداد تضم أربع مدن ذات طبيعة مقدسة للشيعة، كما تضم بغداد- أيضًا- أهم العوائل الشيعية فى منطقة الفرات الأوسط، والواقع أن النزعة الدينية فى فكر شيعة العراق لم تظهر إلا عقب استيلاء الإسلاميين على الثورة الشعبية الإيرانية عام 1979؛ حيث بدأ ملالى طهران فى تنفيذ المخطط الغربى باختراق العراق عبر الدين والطائفة وإقناع شيعة العراق بحتمية الانفصال وأن الولاء للدين أهم من الولاء للوطن، بينما كانت آلة الإعلام الغربى والأمريكى تخدم الهدف الإيرانى ذاته.

 أفول الاحتلال العثمانى

حينما دخلت الدولة العثمانية مرحلة الأفول وصعد حزب الاتحاد والترقى للحُكم فى إسطنبول، أسّس وجهاء البصرة الحزب الحُر المعتدل بقيادة طالب النقيب، وهو الحزب الذى تحوّل لاحقًا إلى الحزب المُعارض الأبرز للحزب التركى فى عموم الدولة العثمانية حينما تحوّل إلى حزب الحرية والائتلاف، والملاحَظ هنا أن طالب النقيب يمثل الأرستقراطية السُّنية.

انتخب «طالب النقيب» عضوًا بالبرلمان العثمانى ثلاث مرّات، كما تولى منصب حاكم لواء الإحساء ما بين عامَىْ 1902 و1903، وهو شرق الجزيرة العربية حاليًا، ثم حُكم ولاية البصرة عام 1913، ومع قيام مملكة العراق عام 1920 أصبح أول وزير داخلية فى تاريخ العراق الحديث.

ومع تنامى النفوذ الروسى ثم الألمانى فى أرجاء الدولة العثمانية، بدأت الحرب العالمية الأولى والتى كانت من أهدافها القضاء على المشروع الألمانى لبناء خط سكة حديد من برلين إلى البصرة؛ ليصبح الشريان الاقتصادى الأبرز فى العالم فى يد برلين، وهكذا كانت البصرة فى قلب أسباب قيام الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918).

 مجىء الاحتلال البريطانى

وأثناء الحرب وقعت اتفاقية «سايكس بيكو» عام 1916، وللمفارقة فإن ولاية بغداد والبصرة كانتا من نصيب بريطانيا ولكن ولاية الموصل كانت من نصيب فرنسا، ما يدل أن الغرب لم يكن ينظر إلى الولايات العراقية العثمانية وقتذاك بشكل موحد، وكان للبصرة مكانة خاصة وهائلة فى الاقتصاد البريطانى، حتى إن البريطانيين تحركوا لدخول البصرة عام 1914 فورًا قبل ثلاث سنوات من بدء الحملة البريطانية على بغداد والموصل عام 1917.

وكان دخول البريطانيين للبصرة سهلًا، فى ظل عدم تواجُد حقيقى للجيش العثمانى فى مياه الخليج العربى منذ 200 عام على الأقل، ولقد حاولت بعض العشائر المحلية بتكليف عثمانى أن تشكل جيشًا للدفاع عن البصرة، والمفارقة أن الحوزة الشيعية دعمت التوجُه العثمانى ورفعت دعوات الجهاد ضد الغزاة، ولكن التدخل البريطانى كان سريعًا وحاسمًا، إضافة إلى خبرة بريطانيا الهائلة فى إدارة إمارات ساحل عمان.

حتى أواخر عام 1918 لم تكن بريطانيا تنوى توحيد الولايات العراقية، ولكن من أجل الحصول على الموصل الفرنسية، كان يجب الدعوة لدولة قومية عراقية، وهكذا فإن بريطانيا وحّدت الولايات العراقية الثلاثة من أجل إيجاد حجة وذريعة تاريخية لسَحب الموصل من فرنسا.

لم تكن تلك الرؤية السياسية الصادرة من لندن تروق لرجال المخابرات البريطانية المنتشرين ما بين دلهى والقاهرة والبصرة؛ حيث روّج هؤلاء لفكرة قيام أكثر من دولة على أنقاض الولايات العثمانية الناطقة باللغة العربية، والحفاظ على نمط الدول الصغيرة كما الحال مع الكويت وقطر والبحرين، وكانت فكرتهم عن العراق هو خمس دول تمثل كردستان والموصل والبصرة ودير الزور وبغداد. حسمت بريطانيا وفرنسا وأمريكا الأمر فى مؤتمر «سان ريمو» بإيطاليا فى أبريل 1920؛ حيث فرضت بريطانيا فكرة الدولة القومية العراقية الموحدة من أجل الاحتفاظ بالموصل، مقابل قيام الدولة السورية الموحدة وتسليمها إلى فرنسا، وسلخ فلسطين عن الشام والأردن عن فلسطين، هكذا خرج سوريا والأردن وفلسطين والعراق المعاصر إلى الوجود.

 ثورة العشرين العراقية

بينما الدول الكبرى المنتصرة فى الحرب تؤلف الدول عبر الولايات الألمانية والعثمانية الخاسرة للحرب، كانت الحركة الوطنية الوليدة فى العراق لها رأى آخر.

تلك الحركة التى تركزت فى بغداد، وتألفت وتأسّست على يد الضباط العراقيين فى الجيش العثمانى ولاحقًا الضباط والساسة العراقيين الموالين للثورة العربية الكبرى، نصّبوا الأمير «عبدالله بن الشريف حسين» مَلكًا على العراق فى مارس 1920، على ضوء تولى أخيه «فيصل» عرش الشام فى الشهر نفسه، وقد جمع حزب العهد ما بين الأخوَيْن، فكان ضباط الثورة العربية قد أسّسوا حزب العهد السورى فى دمشق بينما نظراؤهم العراقيون قد أسّسوا حزب العهد العراقى فى بغداد. وعلى ضوء إعلان الانتداب البريطانى على العراق وفلسطين والأردن، والانتداب الفرنسى على سوريا ولبنان، سلمت بريطانيا الشام إلى فرنسا، ودخل الجيش الفرنسى الشام وخلع «فيصل»، بينما اندلعت ثورة العشرين العراقية ما بين شهرَىْ مايو وأكتوبر 1920.

وللمفارقة فإن هدوء البصرة وعدم تجاوبها مع الثورة لم يؤدِ إلى اقتناع بريطانيا بمَطالب وجهاء البصرة بإعلان قيام إمارة البصرة الخليجية؛ بل العكس هو الصحيح، أن لندن اقتنعت بأن بغداد هى مَصدر القلق والشغب التاريخى، وأن هدوء البصرة مهم للغاية من أجل إيجاد توازن بين البصرة وبغداد، كما أن سَلخ البصرة من العراق سوف يؤدى إلى قيام جمهورية الموصل التى بها نفوذ قوى لفلول الدولة العثمانية وأصحاب الهوَى السُّنى العثمانى على ضوء الانتصارات المفاجئة لـ«مصطفى كمال أتاتورك» وبدء قيام الجمهورية التركية، وهكذا فإن بقاء البصرة تحت مظلة العراق كان عامل توازن مُهمًا مع الهوَى الثورى فى بغداد والهوَى التركى العثمانى السُّنى فى الموصل. كما أن بريطانيا بل والعالم أجمع قد مَرّ بأزمة اقتصادية عقب الحرب العالمية الأولى جراء الإنفاق العسكرى وإعادة الإعمار وتحكم الطرُق والممرات الاقتصادية والتجارية، وهكذا وجدت بريطانيا أن الإنفاق على حماية خَمس دول عراقية بما يعنيه من تأسيس خَمس حاميات عسكرية وخَمس سفارات سامية وغيرها من الأمور السياسية سوف يكلف الخزينة البريطانية أموالًا طائلة، بينما توحيد الدويلات الخمس العراقية المقترحة فى دولة قومية واحدة أمر موفر للخزينة البريطانية العامة.

وأيضًا كانت مَطالب استقلال الكرد شمالًا، ومَطالب الطوائف المسيحية (آشورية- كلدانية- سريان) فى الموصل بولاية مستقلة، كلها خطوط  حمراء بوجه بريطانيا؛ إذ إن الاستجابة لمَطالب البصرة يعنى الاستجابة لمَطالب الكرد والمسيحيين، ما يعنى انفراط عُقد الموصل وربما بغداد ونشأة دويلات تتعاون مع الجمهورية التركية أو حتى الانتداب الفرنسى فى الشام على حساب مصالح بريطانيا فى البصرة.

كما أن لندن قد رصدت فشل التجربة الفرنسية فى تقسيم سوريا إلى عدة جمهوريات طائفية، رُغْمَ أن الفشل لم يبدُ لأعين باريس فى أوائل العشرينيات، إلا أن لندن كانت محقة إلى قامت فرنسا لاحقًا بإلغاء تلك الجمهوريات وتوحيد سوريا بالشكل المتعارف عليه فى القرن العشرين، ما يعنى أن لندن رأت فى فشل تقسيم سوريا فشلًا لها فى تقسيم العراق، وهكذا أسّست بريطانيا الشكل العراقى الجغرافى الحالى ليس حبًا فى وحدة العراق ولكن خوفًا من خسارة مصالحها الاستراتيچية بالعراق فى هذا التوقيت الصعب؛ حيث كان الاتحاد السوفيتى الوليد يبحث عن موطئ قدم فى العراق والشام.

حلم الإمارة الخليجية

أمّا المَطالب التى قدّمها وجهاءُ البصرة فلم يكن لها أى عوامل قومية أو طائفية؛ إذ اعتاد أهل البصرة على أنها عاصمة ولايتهم طيلة 500 عام تقريبًا من الاحتلال العثمانى، بينما فكرة الانصياع للعاصمة المركزية فى بغداد غائبة عن أهل البصرة بل وأهل العراق منذ سقوط بغداد فى يد «چنكيز خان» عام 1258، كما أن البصرة لم تشترك بشكل جاد فى فعاليات ثورة 1920 ما جعل عَجَلة العمل والإنتاج قائمة وكذا أسواق البصرة التجارية، بينما تعطلت بغداد وسادها الركود والكساد، وأخيرًا فإن أهالى البصرة لم يرغبوا فى حُكم أمير عربى بل سعوا إلى انتخابات حُرة وإقامة جمهورية عراقية ينتخب خلالها أهل العراق عراقيًا مثلهم للحُكم أو على الأقل أن يتم تنصيب أحد وجهاء البصرة مَلكًا على العراق.

وكان اسم «طالب النقيب» هو أبرز الأسماء المرشحة لعرش العراق عام 1920، وكذلك الشيخ «خزعل الكعبى» أمير عربستان التى كانت إمارة خليجية مستقلة قبل الغزو الفارسى، لذلك تم نُفى «طالب النقيب» خارج العراق إلى حين خلع الأمير «عبدالله» وتنصيبه أميرًا على شرق الأردن والمجيء بالمَلك «فيصل» الذى خلعته فرنسا من عرش الشام ليتولى عرش العراق.

وللمفارقة فإن بريطانيا واجهت دعوات للانفصال من داخل البصرة نفسها وتحديدًا منطقة الزبير ذات التاريخ الثرى؛ حيث حاول زعيم الزبير الشيخ «إبراهيم بن عبدالله» إعلان الإمارة عام 1921، ولم يكن هو أول من فكر فى هذا الدرب؛ إذ نظرت قوَى دولية إلى الزبير باعتبارها إمارة الكويت أو مشيخة قطر رقم اثنين فى ترتيب القوة على طول إمارات ساحل عُمَان.

إن التاريخ يوضح بجلاء أن مَطالب البصرة بالانفصال عامَىْ 1921 و1927 كانتا لأسباب سياسية وتجارية واقتصادية، بعيدة كل البعد عن الأسباب القومية أو الطائفية؛ بل إن أبرز أسماء التيار الانفصالى كانت أسماء سُنية وليست شيعية أيضًا.

ومنذ الغزو الأمريكى عام 2003، حاول الغرب تضخيم محاولاتَىْ 1921 و1927 بل اعتبار عدم التجاوب البريطانى مع تلك المحاولات خطأ حقوقيًا فادحًا ضد قيم تقرير المصير!، وذلك فى إطار خدمة المشروع «الغربى- الأمريكى» بتقسيم العراق.

ولعل كتاب ريدر فسر Reidar Visser «البصرة.. وحلم الجمهورية الخليجية» Basra, the Failed Gulf State: Separatism and Nationalism in Southern Iraq الصادر عام 2004 هو أول محطة فى تلك الحرب الثقافية للترويج لفكرة أن شيعة العراق قد سعوا إلى الاستقلال فى العشرينيات، وذلك غير صحيح؛ بل وانخرط شيعة العراق فى الحركات السياسية العراقية سواء الليبرالية التى حكمت العراق المَلكى، أو الشيوعيون العرب والقومية العربية والبعث الاشتراكى العربى والتيار الناصرى، وهى التيارات الأربع التى حكمت العراق الجمهورى ما بين عامَىْ 1958 و2003.

إن النزعة الفارسية أو الموالية لإيران لأسباب طائفية بين أهل الشيعة فى العراق وحتى الخليج العربى، لم تظهر إلا عقب قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية بتكليفات «أمريكية- بريطانية»، وكان الغرض منها هو بث الفتن فى العراق والخليج العربى، وعقب انتفاضة 1991 العراقية وقيام المجتمع الدولى بفرض مناطق حظر طيران جنوب وشمال العراق، استغلت إيران تلك السنوات ما بين عامَىْ 1991 و2003 فى اختراق الجنوب العراقى من أجل وضع أسُس الفتن وانفصال، وبعد فشل إيران فى السيطرة على العراق منذ سقوط حكومتَىْ نورى المالكى وعادل عبدالمهدى وقيام ثورة 2019 العراقية، أصبحت فيدرالية الجنوب العراقى وقيام إقليم البصرة ولاحقًا جمهورية البصرة هو أمل إيران الوحيد فى الحفاظ على عراق ضعيف بعيدًا عن محيطه العربى الذى طالما كان لاعبًا- وليس مُلاعبًا- مؤثرًا فى تاريخه.