
نبيل عمر
هكذا صنعت مصر درعها الحامى: يوم أخرج المصريون وطنهم من عتمة الكهف!
يختلف احتفال المصريين بـ30 يونيو هذا العام عن أى عام سابق، تهل عليهم ذكرى اليوم العظيم، فى ظروف إقليمية ودولية فى غاية الصعوبة، إذ تحيط بمصر المخاطر والنيران من كل جانب، لكنها كالعادة تنتصب واقفة صامدة، تحافظ على سلامتها ببراعة لاعب سيرك يمشى على حبل مشدود، أرفع من خيط يمر من سم الخياط، بيئة متربصة لم يحدث أن عاشت مصر مثلها فى الألف سنة الأخيرة.
فالتربص ليس فقط من أعداء غرباء فى غاية الوقاحة يتحينون أى فرصة للانقضاض، بل من بعض أهلها الذين تحولوا إلى خلايا سرطانية باسم الدين، يحاولون نهش استقرارها وأمنها وسلامتها وثقافتها وتراثها الإنسانى، ومن أصدقاء طوائف يصفون أنفسهم بأنهم إخوة فى الروابط والعرق والتاريخ، ويعملون على زحزحتها من مكانتها، مع أنها لا تتنافسهم معهم فى أى أدوار يسعون إليها، ولا تعرقل أفكارا يطرحونها ويتغنون بها كما لو أنهم يملكون عيون زرقاء اليمامة كاشفة غيب المستقبل، والغريب أن الأعداء يشتهون لحم هؤلاء الأصدقاء وفراشهم ولا يخفون ذلك كتابةً وشفاهةً، لكن الأصدقاء يسترضون غرور هؤلاء الأعداء بالورود والهدايا والعطايا، ويظنون أن أنياب الذئب المستعدة لافتراسهم، ما هى إلا تعبير عن ابتسامة ود أظهرت فقط فك الذئب واسعا!
تخيلوا معى سيناريو درامى من مشهد خيالى، لو أن «الجماعة السرطانية الخبيثة» هى التى تحكم الآن فى ظل هذه المخاطر والنيران، ما الذى كان يمكن أن يحدث لمصر؟، أو بمعنى أدق ما الذى كان يمكن أن يحدث لنا وفينا؟
أعترف أن ثمة مشكلات وأزمات وصعوبات فى الحياة اليومية، لكن ثمنها مقبول بأن ننام بين جدران تحمينا، تحت حراسة جيش يقظ أعيد تسليحه وتدريبه فى السنوات العشرة الأخيرة ليكون مستعدا لمثل هذه الأيام التى تتكاثر فيها المخاطر والنيران!
نعود إلى 30 يونيو، فهو اليوم الذى خرج فيه المصريون من عتمة الكهف الذى دفعتهم إليه جماعة الإخوان، ولا يجب أن ننسى أو ننكر أننا مهدنا لهم السبل إلى النيل منا، وسمحنا لهم أن يمسكوا برقابنا، ولا يجب أبدًا أن نغفل عن ذلك، فالمؤمن لا يلدغ من جحر العقارب والثعابين مرتين، وإلا كان بلا عقل، والإيمان عقل واع يصل إلى الله بكل خلاياه وجوارحه!
إذن ونحن نحتفل بـ30 يونيو هذا العام، نحتفل بأنفسنا أيضا، فنحن الذين صنعنا هذا اليوم، أنقذنا مصر وأنفسنا من قبضة الظلام، ونحن معا الشعب وجيشه، ودفعنا ثمنا باهظا، وهذا طبيعى جدا، فمن أخطأ تتراكم على أكتافه وجيوبه «تكاليف» هذه الأخطاء، وأسألكم سؤالا بسيطا: يا ترى لو حسبنا قدر الخسائر التى تحملتها مصر فى السنوات الخمس التالية لـ25 يناير 2011، حتى لاح فجر الاستقرار وتوسطت شمسه الساطعة سماء المحروسة؟، لن أكرر حجم الحرائق والدمار والعمليات الإرهابية والمصانع التى تعطلت والأعمال التى أغلقت.. إلخ، فكلنا عشناها، مؤكد أننا نتحدث عن مئات المليارات من الجنيهات سنويا..
وهنا لا أدافع عن أحد ولا أجامل أحدا..
نعم كان من الممكن أن نكون فى أوضاع أحسن من التى نحن عليها الآن، لكن حين يخرج مريض من غرفة العمليات، لا يستطيع أن يعمل بكامل طاقته العقلية والبدنية إلا بعد فترة، تطول أو تقصر حسب نوع الإصابة التى لحقت به، إذ يظل تحت الملاحظة والرعاية المركزة فترة، ثم النقاهة فترة..وهكذا، فما بالك بمجتمع ضخم، نعم كنا مصابين جدا، وكنا أيضا نعانى من عيوب متوارثة من عشرات السنين فى التفكير وأداء الأعمال والكفاءة العامة، والأخطر أن هواجس الفوضى والاضطراب ظلت عالقة فى ذاكرتنا، وصبغت أيامنا، لا سيما أن الأعداء الذين خططوا والخلايا السرطانية التى نفذت لم يتوقفوا يوما واحدا عن أفعالهم العدوانية سرا وعلانية، والهواجس تدفع الإنسان بالضرورة إلى مزيد من أساليب التحوط والتأمين وغلق منافذ الشك!
وأتصور مع 30 يونيو الحالى، أن «المناعة العامة»، برغم الأخطار والنيران، صارت أقوى مما كانت عليه فى 30 يونيو 2013، ومن حق هذه المناعة الوطنية أن تمارس دورها الطبيعى فى حماية الوطن دون أى هواجس، بالسياسة والثقافة والوعى والإعلام والمشاركة المجتمعية الفاعلة.
فى ذلك اليوم البعيد، قبل 12 سنة بالتمام والكمال، وتحديدا فى الساعات الأولى من نهار 30 يونيو، كانت شوارع القاهرة شبه خالية، لا شىء يشى بأن شعبا سينهض، ويخرج منه 30 ما يقرب من مليون مصرى إلى شوارع وميادين المدن الكبرى والمراكز، بل فى قرى لم يتجمع أهلها أبدا إلا فى المآتم والأفراح منذ وعت على الدنيا!
كان الطريق ملغما وعرا ومهددا بالدم والرصاص، فالجماعة لها تنظيم خاص مسلح، له خبرة وتاريخ فى أعمال العنف والفتل، من قبل قيام ثورة يوليو بسنوات طويلة، اشتبكات بين شباب الجماعة والطلبة الوفد بجامعة فؤاد (جامعة القاهرة الآن)، ثم اغتيالات فى نهاية الأربعينيات، يعنى قبل ظهور جمال عبدالناصر والجيش فى الصورة!
لكن المصريين لم يخافوا، يريدون أن يكونوا مواطنين فى دولة عصرية، لا رعية فى إمارة دينية، خاصة أن الرئيس محمد مرسى كان ولاؤه للجماعة وليس لمصر، وأمرته أن يعيد مجلس الشعب المنحل بحكم المحكمة الدستورية لفساد القانون الذى نظم انتخاباته، ففعلها وهو لا يدرك أنه لا يملك إحياء الموتى، وحكم المحكمة الدستورية، أعلى سلطة قضائية فى مصر، حكم بالإعدام واجب النفاذ، وبقرار عودة مجلس الشعب حفر محمد مرسى «المدفن» الذى ستئول إليه رئاسته.
لم تكن الجماعة تصدق أن المصريين قادرين عل فعلها، واعتبروا الأخبار التى تناثرت عن نهوض الشعب وثورته القادمة مجرد أضغاث أحلام، حتى إن الدكتور هشام قنديل رئيس الوزراء وقتها تجول فى شوارع القاهرة فى موكب رسمى مع خيوط الفجر الأولى، من ميدان التحرير إلى ميدان مصطفى كامل وبقية ميادين وسط البلد، ومحيط قصر الاتحادية، يراجع إجراءات الأمن والحماية.. فوجد الدنيا هادئة والأحوال عال العال ولا تستدعى قلقا!
فى الوقت نفسه قررت وزارة المالية أن تصرف معاش شهر يوليو بالعلاوة السنوية الجديدة مبكرا يوما، أى يوم 30 يونيو، فتضمن وقوف تسعة ملايين مواطن أمام مكاتب البريد والبنوك فى أنحاء البلاد لاستلام المعاش، وهل يعقل أن يتركوا «الفلوس» إلى المظاهرات، والمثل يقول «عض قلبى ولا تعض رغيفى، فإن قلبى على الرغيف ضعيفِ!».
ولكن أغلب الناس لم يذهبوا لا إلى المعاش ولا إلى أعمالهم فى الوزارات والمؤسسات الحكومية، بل إن طوابير السيارات أمام محطات الوقود اختفت تماما، لأول مرة منذ شهور، كأن الأزمة حُلت فجأة، ولم تفهم الحكومة أن الناس امتنعت عن النزول بسياراتهم إلى الشوارع، لأنهم مقبلون على معمعة كبرى!
باختصار.. بعد أن مالت الشمس ناحية الغرب متجاوزة كبد السماء، كانت الملايين تفيض على الشوارع كأنهم هبطوا من السماء، فى مشهد لم تره مصر ولا العالم من قبل، وهم يهتفون: كدابين كدابين..ضحكوا علينا بالدين.
ما حدث فى ذلك اليوم البعيد، من تصحيح المصريين لخطأ تاريخى وقعوا فيه تحت ضغوط الفوضى والمؤامرة التى صاحبت ثورة 25 يناير، هو الذى صنع من 30 يونيو درع مصر الذى يحميها الآن.