الأربعاء 8 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

ملهمات عبقريات عظمة على عظمة يا ست.. أول من تقلدت منصب سفيرة مصرية، ولقبت بوزيرة الفقراء: «عائشة راتب» نون النسوة أجدع

إن حقوق المرأة وحريتها التى تتمتع بها الآن، ليست نتاج يوم أو عمل واحد، بل عقود من النضال المستمر، من أجل كسر القيود المجتمعية القديمة التى فرضت عليها، بألا يعلو أفق تطلعاتها أكثر من حوائط منزلها. ومع ذلك، أعلنت بعضهن عن رفضهن التام بسجن عقولهن، وسعين لكسر هذه القيود، ليثبتن  أن للمرأة حرية وحقًا فى التعلم، والعمل، والنضال، وألا تكون (المعرفة، والمقدرة) حكرًا على معشر الرجال فقط.



فى مصر، نساء تم تخليد أسمائهن، وأعمالهن..وفى هذه السلسلة ترصد (نون القوة) حياة وكفاح هؤلاء الملهمات، العبقريات، لتعرف فتيات ونساء اليوم وغدٍ، أنه لا يوجد مكان لكلمة (مستحيل). 

 «أيوه كده.. اكسرى الروتين ولا يهمك، نون النسوة أثبتت أنها أجدع».. هكذا كانت كلمات الرئيس الراحل «أنور السادات» تعليقًا على قرارات أحد أبرز النساء فى تاريخ «مصر» الحديث، الدكتورة «عائشة راتب». 

كانت الأستاذة، والوزيرة، والسفيرة، الدكتورة «عائشة راتب»، مثالًا لإحدى المُلهمات والرائدات المصريات فى العصر الحديث، إذ اتسمت بالنضال، والشجاعة، والصراحة المُطلقة. فهى أول معيدة فى تاريخ كلية الحقوق بجامعة القاهرة؛ وثانى وزيرة فى تاريخ «مصر»، والمُلقبة بـ«وزيرة الفقراء»؛ وأول من تتقلد منصب سفيرة؛ فضلًا عن كونها رائدة من رُوّاد القانون، والحركة النسائية فى العالم العربى.

 نشأة فتاة مثقفة

وُلدت «عائشة راتب» بمنطقة «الدرب الأحمر» فى «القاهرة» عام 1928، لأسرة متعلمة متوسطة الحال. لكن، منذ صغرها كانت فتاة فريدة من نوعها، إذ نشأ بداخلها شغف القراءة والتعلم، وهذا ما أكدته فى حوار لها مع مجلة «حواء»، إذ قالت: «أنا أحب القراءة منذ صغرى.. وأنا سنّى سبع سنوات أعشق القراءة، فقد أنهيت الكتب فى المكتبة الأجنبية..فالأشخاص سواء فى الكتب، أو المؤلفين أثروا فىَّ بشكل غير مباشر».

وبعد فترة، حصلت الفتاة، ذات السبعة عشر عامًا، على الثانوية فى عام 1945، من مدرسة «السَّنية» فى حى «السيدة زينب»، وكان ترتيبها السادس بين الناجحين. وقيل إنه أثناء دراستها، حازت «عائشة» على جائزة «ليدى لورانس»، التى تمنح للمتفوقين فى اللغة الإنجليزية.

لهذا، كانت رغبة الفتاة أن تلتحق بكلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية. وبالفعل، التحقت الشابة بكلية الآداب جامعة «فؤاد الأول» (جامعة القاهرة حاليًا). ولكن، بعد مرور أسبوع واحد فقط، حوّلت أوراقها، لتنتقل إلى كلية الحقوق جامعة «فؤاد الأول»، وأشاع البعض أن خالها، الذى كان يعمل سفيرًا، هو مَن أراد لها أن تتعلم القانون. إلى أن تخرّجت «راتب» فى كلية الحقوق عام 1949، وكانت أيضًا ضمن العشرة الأوائل.

 أول مناضلة لدخول المرأة القضاء

وبعد أن تخرّجت «راتب» فى الجامعة، قرأت فى الصحف، أن مجلس الدولة يطلب مندوبين مساعدين. وعليه، لم تفوّت الشابة تلك الفرصة، إذ تقدمت للوظيفة على الفور. وفى ذلك الوقت، كان «السنهورى باشا» رئيسًا لمجلس الدولة، وقد اختار الخمسة الأوائل من خريجى كليتَىْ الحقوق بجامعتَىْ «فؤاد الأول»، و«فاروق الأول» للعمل معه فى مجلس الدولة.

وبعد أن توجّه الخريجون، الذين وقع عليهم الاختيار إلى المجلس، من أجل مقابلة «السنهورى»، كانت «عائشة» الفتاة الوحيدة بين الرجال المقدمين، وسعت للتعيين كمندوبة فى المجلس، إلا أن العادات والتقاليد- آنذاك- لم تكن تسمح بقبول عمل المرأة فى القضاء. 

وعليه، أراد «السنهورى» أن يتصرف بلباقة، فاقترح إقامة امتحان للمتقدمين، على أمل ألا تنجح الشابة فى هذا الامتحان، فلا يكون هناك ما يدعو إلى مواجهة المشكلة بصورة مباشرة. ولكن، خابت آماله، إذ كانت هى الوحيدة، التى نجحت- بدرجة جيد جدًا- بين المتقدمين، وكان عددهم 15 شخصًا. مما اضطر «السنهورى» إلى إحالة المسألة إلى مجلس المستشارين، الذى رفض- بدوره- تعيينها؛ لأن ذلك يتعارض مع تقاليد المجتمع المصرى. 

أثار هذا مَشاعر الغضب داخل «عائشة»، التى لم تقبل هذا الرفض، لهذا السبب. فرفعت دعوى قضائية للمطالبة بحق المرأة فى التعيين بالقضاء، ليُنسَب إليها بأن تصبح أول امرأة ناضلت فى حق المرأة بتقلد المناصب فى القضاء المصرى.

وعلقت على الرفض، قائلة، إنه: «من أجل الحصول على حقى، انضممت إلى جمعية «هدى شعراوى»، وكل الجمعيات المطالبة بحقوق المرأة. ولم أكتفِ بذلك؛ بل رفعت دعوى قضائية على مجلس الدولة، وكان عمرى آنذاك نحو 21 عامًا». مضيفة أنها حصلت على درجة من درجات الامتياز، التى تؤهلها لأى وظيفة قضائية.

ولكن، مع الأسف لم تنجح محاولاتها تلك، وشهدت حياة «عائشة» فصولًا متعاقبة فى القانون، والحركة النسائية فى العالم العربى؛ حيث جاهدت من أجل تغيير قانون الأحوال الشخصية، كما أرست قواعد تشريعية لوزارة الشئون الاجتماعية.

 البدء من جديد

لم تيأس الشابة الطموح من قرار عدم قبولها فى القضاء؛ بل بدأت من جديد، فأثناء الدراسات العليا فى كلية الحقوق، تقدمت «عائشة» بطلب تعيين كمُعيدة، وهو طلب كان غريبًا أيضًا - على المجتمع الأكاديمى، فلم تكن الكلية قد عَينت مُعيدات من قبل.

ولكن تلك المرّة، وعدها العميد بالتعيين، رُغم وجود اعتراضات عليها، كونها أول امرأة تتقلد منصب معيدة فى كلية الحقوق. وبالفعل، أصبحت «راتب» معيدة فى الجامعة، وحصلت على شهادة الدكتوراه فى عام 1955، ثم تدرجت فى الوظائف، حتى مرتبة الأستاذ، وترأست قسم القانون العام.

 التوغل فى الحياة السياسة

وعقب حصولها على الدكتوراه من «باريس»، عادت الدكتورة «عائشة» إلى بلدها الأم «مصر»، واختيرت ضمن (لجنة المائة)، التى كانت مسئولة على الإشراف على انتخابات المؤتمر القومى للاتحاد الاشتراكى عام 1971، وساعدت فى صياغة الدستور الجديد لمصر آنذاك.

وبينما كانت غالبية الأصوات تتجه، وترحّب بتوسيع، وزيادة اختصاصات الرئيس الراحل «أنور السادات»، اعترضت هى على ذلك الأمر، وفى حضور الرئيس نفسه، وهو ما  لفت انتباه «السادات»، الذى كان سعيدا جدًا بما قالته «راتب»، لدرجة أنه عَلّق قائلًا: «دى بتناقش اختصاصاتى أنا، ولم يفعلها أحد من الرجال الموجودين». 

ومن هنا، حازت الدكتورة «عائشة» على ثقة الرئيس «السادات»، إذ قالت فى أحد الحوارات التى أجريت معها، حينما سُئلت عن الواقعة السابقة، إن «السادات»: «كان فى كل القضايا يطلب رأيى؛ لأنه كان يعلم أنى كنت صريحة، وأقول الحقيقة، حتى إذا تعارضت معه».

لذلك؛ اختارها «السادات» كوزيرة للشئون الاجتماعية عام 1971 فى حكومة «محمد فوزى»، إذ رأى الرئيس المصرى الراحل، أنها أفضل مَن يتحمل حقيبة الشئون الاجتماعية خلال تلك الفترة. 

وبالفعل، عُينت «راتب» وزيرة  لـ«التأمينات، والشئون الاجتماعية»، لتصبح ثانى امرأة تشغل منصب وزيرة فى تاريخ «مصر» الحديث، فى مرحلة من أصعب المراحل، إبّان (حرب الاستنزاف)، ومع زخم الهجرات من مدن القناة إلى المدن الأخرى، واشتداد النقص فى الاحتياجات الأساسية، وارتفاع الأسعار، وانخفاض دخل الفرد.

وعليه، أصدرت الدكتورة قرارًا برفع مرتب العسكرى من 2.5 جنيه، إلى 10 جنيهات. وعَلّق- حينها- الرئيس «السادات» قائلًا: «أيوه كده. اكسرى الروتين ولا يهمك، نون النسوة أثبتت أنها أجدع». 

وخلال حرب (6 أكتوبر) عام 1973، كانت «عائشة» تزور المستشفيات، من أجل رفع الروح المعنوية للجنود، كما كانت حريصة على أن تكون بجانبهم لمساعدتهم، وكانت السيدة «جيهان السادات» حريصة- أيضًا- على مشاركتها فى الزيارات. وبعد انتهاء العمليات العسكرية، كانت ضمن أعضاء الحكومة فى مجلس الشعب، حينما كرم الرئيس القادة العسكريين.

وهكذا؛ أثبتت «عائشة» أنها امرأة الأزمات، خلال توليها منصبها وزيرة التأمينات والشئون الاجتماعية، خلال الفترة من 16 نوفمبر 1971، حتى 3 فبراير 1977؛ حيث استغلت الدكتورة الراحلة منصبها؛ لمساعدة الفقراء، ووضع قيود على مسألة تعدد الزوجات، فضلًا عن وضع قانون لتعيين المعاقين.

وفى 1975، أقرّت «مَعاش السادات»، الذى كان للفقراء، ومعدومى الدخل، غير الموجودين تحت مظلة التأمينات، وأعطت الحق فى أن يأخذ الشاب المَعاش حتى سن 26 سنة؛ نظرًا للظروف الصعبة التى كانت تمر بها البلاد فى عدم وجود وظائف، كما أقرت أيضًا أنه من حق الابنة المطلقة أن تأخذ معاش أبيها. وهو ما جعل الدكتور «مفيد شهاب» يقول عنها، إن: «الدكتورة «عائشة راتب»، كانت وطنية غيورة، وجريئة فى قول الحق، ولها موقف مشهودة وهى فى الوزارة؛ حيث طالبت باستمرار الدعم تضامنًا مع الطبقات الكادحة».

 أول سفيرة مصرية

اشتهرت الدكتورة «عائشة» بمعارضة الرئيس «أنور السادات»، كما تقدمت باستقالتها عام 1977، واعتزلت العالم السياسى. لكن، لم يقلل هذا من اهتمامها بالشأن العام، بل واصلت العطاء من خلال  العمل الأهلى.

ومع ذلك، فوجئت- بعد عامين من استقالتها- بتعيينها كسفيرة لمصر بموجب قرار من رئيس الجمهورية، وتحديدًا فى 1979، لتصبح- بذلك- أول امرأة فى تاريخ «مصر»، تشغل هذا المنصب الرفيع؛ حيث عملت سفيرة لدى «الدنمارك» فى الفترة من 1979 إلى 1981، ولدى «جمهورية ألمانيا الفيدرالية» من عام 1981 إلى عام 1984. وخلال فترة علمها، قادت «مصر» إلى مكانة متوازنة فى عالم ملىء بالعلاقات الدولية المستقطبة.

عَلقت الدكتورة «عائشة» على عملها كسفيرة فى أحد الحوارات الصحفية، قائلة: «كنت ثانى سفيرة عربية، بعد أخت المَلك «الحسن». وأيضًا، لم أكن أول سفيرة لمصر فى «أوروبا»، فقد سبقتنى إلى هذه الدول كل من: «حتشبسوت، ونفرتيتى، ونفرتارى»، وهن مَلكات مصريات معروفات بالاسم فى هذه الدول».

وعن دورها كسفيرة قالت: «كنت مقيدة، فأنا أمثل دولة.. وتعلمت الصبر كثيرًا، فأنا بطبعى غير صبورة.. وكنت مقنعة فيما أحاول تنفيذه».

لم يتوقف عطاء الدكتورة «عائشة راتب» عند حقوق الفقراء، وحرية المرأة، والعمل السياسى والوطنى فحسب؛ بل أصرّت على إصدار عدد من المؤلفات، التى كتبت فيها خلاصة خبرتها، ومنها على سبيل المثال: «العلاقات الدولية العربية، التنظيم الدبلوماسى والقنصلى، النظرية المعاصرة للحياد، بعض الجوانب القانونية للنزاع العربى- الإسرائيلى»، وغيرها. 

رحلت الدكتور «عائشة راتب» قبل أن ترى حلمها يتحقق، بدخول المرأة المصرية مجال القضاء؛ لكن، سيذكر التاريخ أنها أول مَن ناضلت فى هذه القضية؛ لتفتح الباب أمام النساء المصريات ليثبتن أنفسَهن. رحلت أول سفير لمصر؛ لكنها، تركت للمرأة المصرية قصة كفاح يُحتذَى بها.