الخلافة الرقمية (6) : باستخدام العملات الرقمية «بيتكوين» و«مونيرو» رحلة ثراء داعش على الإنترنت من الصفر حتى 300 مليون دولار
أحمد شوقى العطار
عملت داعش منذ اللحظة الأولى لإعلان دولتها على أرض الواقع على عمل نسخة احتياطية منها على الإنترنت وكأنها buckup للخلافة فى حال تم محوها من الواقع لتستمر بشكل افتراضى، وهو ما حدث.
فرغم تمكن التحالف الدولى من تحرير جميع الأراضى التى احتلها التنظيم فى العراق وسوريا والقضاء على %90 من قوته، فإنها لاتزال موجودة كدولة بأركانها الأساسية، ولكن «إلكترونية»، اتخذت من الإنترنت أرضًا للخلافة الموازية.. ومن متابعى حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعى شعبًا.. وصنعت جيشًا من الكتائب الإلكترونية ونظامًا ماليًا وسلطة افتراضية تدير كل ذلك.
وفى هذه الحلقات «روزاليوسف» تنشر لكم تحقيقًا عن تفاصيل وأسرار خطة للتنظيم لضمان بقاء دولتهم الدموية «افتراضيًا» رغم كل ما تعرضوا له من هزائم.
بعد أن أنهت الأمريكية زوبيا شاهناز، 27 عامًا، إجراءات المغادرة من مطار چون.إف. كيندى فى نيويورك، وقبل أن تصعد سُلم الطائرة المتجهة إلى باكستان بلحظات قليلة، استوقفها أحدُ ضباط أمن المطار طالبًا منها مرافقته إلى مكتب الاحتجاز بالمطار الأمريكى.
عملت زوبيا بمختبرات مستشفى منهاتن، قبل أن تسافر فى 2016 إلى عمان للعمل تطوعًا مع الجمعية الطبية السورية الأمريكية لمدة عام، وقدمت خلال تلك الفترة مساعدات طبية للاجئين سوريين فى مخيماتهم بالأردن.
هذه المخيمات - وفقًا لوثائق المحكمة الأمريكية ببروكلين - يسيطر عليها تنظيم «داعش»، ويمارس تأثيرًا كبيرًا على الموجودين بها، وكانت زوبيا أحد هؤلاء الذين وقعوا تحت ذاك التأثير.
أنهت زوبيا عملها فى الأردن فى 2017 وطارت إلى الولايات المتحدة؛ لتدير واحدة من أذكى عمليات النصب الإلكترونية فى السنوات الأخيرة، قدمت خلالها عدة طلبات لبنوك أمريكية مستخدمة وثائق هوية مزيفة وبيانات غير صحيحة للحصول على قرض بقيمة 22 ألف دولار وأكثر من اثنتى عشرة بطاقة ائتمان، وبعد أن حصلت على ما يقرب من 62 ألف دولار أمريكى، حوّلت هذه الأموال السائلة إلى عملة «البيتكوين» الرقمية، ثم قامت بغسل الأموال على الإنترنت عبر معاملات مصرفية غير مشروعة تضمنت شركات وهمية فى باكستان والصين وتركيا بهدف تحويل الأموال فى النهاية إلى حسابات «البيتكوين» الخاصة بتنظيم «داعش».
واقعة زوبيا شاهناز لم تكن الأولى، لكنها كانت كافية لتعترف أجهزة مكافحة الإرهاب الأمريكية بخطورة العلاقة بين تنظيم داعش وعملة البيتكوين الرقمية، بعد عامين من الإنكار.
عملة إرهابية بامتياز
تمتلك البيتكوين وغيرها من العملات المشفرة خمس سمات تجعلها عملة مفضلة لدى التنظيمات الإرهابية أو الإجرامية على حد سواء، فهى مجهولة المصدر، متاحة للشراء بسهولة على الإنترنت، يمكن نقلها إلى أى مكان فى العالم - بما فى ذلك من وإلى المناطق النائية فى أفغانستان واليمن وإفريقيا- عبر حسابات إلكترونية مشفرة غير خاضعة للرقابة أو المساءلة، ويمكن تحويلها لـ مبالغ كبيرة دون الحاجة لفوائد البنوك الأرضية، التى تخضع لإشراف حكومى من جانب، وتطبق اللوائح الدولية لمكافحة غسل الأموال من جانب آخر، بالإضافة إلى أن قيمتها قد تتضاعف من حين لآخر بطريقة جنونية.
البيتكوين، عملة افتراضية «وهمية» مشفرة، لا وجودَ فيزيائىٌ لها، يتم تداولها عبر الإنترنت فقط، صمّمها شخصٌ مجهول الهوية يُعرَف باسْم «ساتوشى ناكاموتو» عام 2009، ووصلت قيمتها إلى الذروة فى نهاية 2020 بنحو 19400 دولار أمريكى، قبل أن تبدأ فى الهبوط منذ هذا التاريخ.
باستخدام العملات المشفرة، نجح «داعش» فى تأسيس وإدارة شبكات مالية رقمية تعمل على جمع التبرعات من محبيه وأنصاره، واستقبال التمويلات من الدول والكيانات الداعمة له، وتبادل وغسل الأموال عبر الحدود، فى مناخ آمن تمامًا، وبمنأى عن أعين الأجهزة الأمنية والمخابراتية.
بدأت قصة «داعش» مع «البيتكوين» فى العام 2014، حينما قرر عبدالعظيم عبدالله، أحد العناصر الإعلامية التابعة لتنظيم داعش، تأسيس موقع على شبكة الإنترنت يبث عن طريقه مقاطع فيديو بشعة لقطع الرءوس.
كان «عبدالله» لا يمتلك بطاقة ائتمان لحجز استضافة على الإنترنت لموقعه الدموى، وفى الوقت نفسه كان يحتاج لشراء الاستضافة فى سرية تامة، دون الكشف عن هويته الحقيقية، لذا لجأ إلى شركة تتعامل بالعملات المشفرة.
دفع «عبدالله» ما يزيد قليلاً على 1 بيتكوين، أى ما يقرب من 400 دولار فى ذلك الوقت، لتسجيل اسم المجال عبر شركة فى أيسلندا سهلت له الاستضافة على خوادم فى جميع أنحاء العالم.
تجربة عبدالله ألهمت التنظيم لاستغلال الموقع فيما هو أبعد، وتحويله إلى صندوق ضخم لجمع التبرعات من الزوار بعملة البيتكوين لصالح دولة الخلافة.
إرسال التبرعات بالعملات المشفرة وفّر للمتبرعين الأمان المطلوب، وساعدهم فى إخفاء هوياتهم خلف سلسلة من الحروف والأرقام، تجعل من الصعب على البنوك والسُّلطات تتبُّع وإبطاء تدفق الأموال الداعمة للإرهاب.
فى العام نفسه، قرّر «داعش» توسعة نشاطه الإلكترونى فيما يتعلق بالتمويل، وأصدر وثيقة إلكترونية بلغات مختلفة حملت عنوان «البيتكوين وصدقات الجهاد»، كتبها شخص يُدعَى «تقى الدين المنذر»، تشجع أنصار ومحبى التنظيم على إرسال التبرعات بالبيتكوين، للتغلب على الأنظمة المالية للحكومات العالمية التى وصفها «المنذر» بالكافرة، وحدد فيها الأحكام الشرعية لاستعمال العملة المشفرة، مشددًا على ضرورة استخدامها لتمويل الأنشطة الجهادية.
حملات تبرع رسمية
واجه «داعش» أزمة كبيرة فى بداية الأمر، تتعلق بجهل معظم محبيه والراغبين فى التبرع له باستخدام العملات المشفرة على شبكة الإنترنت، لذا دشن، فى نهاية 2014، أول حملة دعاية رسمية من أجل التبرع للتنظيم بالعملات المشفرة، وركزت الحملة الأولى على جميع مواقع ومنتديات داعش على الإنترنت، ونشرت روابط لحسابات التنظيم المالية الإلكترونية داخلها بكثافة، مع دعاية بضرورة التبرع من أجل دعم دولة الخلافة وجهادها ضد الكفر والظلم، مرفقة بمنشورات توعية، تشرح للمتبرعين طرُق التبرع بالعملة المشفرة.
فى زيارة لموقع «أخبار المسلمين» التابع لتنظيم «داعش» على الإنترنت المظلم، استوقفتنا لافتة إعلانية كبيرة مكتوب أسفلها «تمويل المعركة الإسلامية من هنا» بالعربية والإنجليزية معًا، فى يسار الصفحة الرئيسة.
بالضغط على الإعلان نتحول لصفحة «ويب عميقة» أخرى اسمها «صندوق الكفاح الإسلامى» تتبع داعش أيضًا، وتدعو المستخدمين للتبرع من أجل العمليات الجهادية بعملات مشفرة من خلال عنوان إلكترونى خاص بالمعاملات المالية.
داخل «صندوق الكفاح الإسلامى» وجدنا وثيقة إلكترونية أخرى، بعنوان «الحفاظ على مجهولية الهوية عند الدفع عبر الإنترنت»، تشرح بالتفاصيل الطرُق المثلى للتبرع للتنظيم بالعملات الافتراضية بشكل آمن ودون الكشف عن الهوية، كجزء من حملة التوعية سالفة الذكر.
رصدت الوثيقة خطوات التعامل مع العملة الافتراضية، وكيفية نقلها من حساب إلى حساب دون لفت انتباه أحد، ودعت المتبرعين لـ شراء البيتكوين بواسطة بطاقاتهم الائتمانية، مع استخدام طرُق ملتوية أثناء عملية الشراء، كى لا يكتشف أحد هويتهم، وشرحت لهم طريقة فتح محفظة إلكترونية للعملة الرقمية، يستخدمها المتبرع لتحويل ما بحوزته من عملات إلى حسابات داعش، دون أن يلفت النظر إليه.
حثت الوثيقة المتبرعين أيضًا على استخدام عملة «المونيرو» المشفرة، التى ظهرت فى عام 2014، وبدأت فى الانتشار فى ذلك التوقيت، كبديل للبيتكوين لزيادة الأمان أثناء المعاملات، وقالت نصًا: «هناك ما هو أفضل وأكثر أمنًا من البيتكوين، وهو استخدام عملة المونيرو».
تعتمد عملة «المونيرو» على آلية إرسال معقدة تسمى «خلط العملة» تضمن إخفاء هوية مَصدر العملة أو المتبرع مائة بالمائة وتحقق أكبر قدر ممكن من الأمان، وتشبه إلى حد كبير طريقة عمل محرك البحث «تور» الذى يُستخدم فى عالم التخفى عبر الإنترنت.
تعتمد آلية «خلط العملة» على إرسال القيمة مخلوطة بين عدد من المصادر المختلفة قبل الإرسال، من خلال عملية معقدة لتفكيك المعاملات المشفرة إلى أجزاء أصغر وإرسال المَبالغ من عدة مصادر، وليس مصدر واحد كما هو الحال مع «بيتكوين»، قد يصل عددها فى العملية الواحدة إلى أكثر من 20 مصدرًا، ما يوفر المزيد من الحماية لـهوية المالك أو المرسل إليه، ويجعل ملاحقة المتبرع من قبل أجهزة مكافحة الإرهاب أمرًا مستحيلًا.
تشرح الوثيقة، فيما بَعدُ، بالتفاصيل والصور خطوات تأسيس محفظة مونيرو، وأهم المواقع التى تبيع العملة المشفرة بشكل مباشر، وطرُق تحويل «البيتكوين» إلى «مونيرو» والعكس.
ونبهت المتبرعين فى النهاية لضرورة إرسال التبرعات عبر طريقتين فقط لضمان عدم الكشف عن الهوية، إمّا بشراء البيتكوين ثم تحويله لـ «مونيرو» ومن ثم التبرع به، أو شراء عملة المونيرو مباشرة بالبطاقة الائتمانية وإرسالها إلى المحفظة ثم التبرع بها.
منتصف 2015، اتخذ التنظيم خطوة أبعد بتنظيم حملة دعاية رسمية ثانية، استهدفت هذه المَرّة مواقع التواصل الاجتماعى وتليجرام ويوتيوب لجذب تبرعات وتمويلات أكثر بالعملات المشفرة.
وظهرت لأول مرّة دعاية على تويتر وفيسبوك لهذا الغرض، وانتشرت وسوم «هاشتاجات» على مواقع التواصل كافة تشجع المؤيدين والأنصار على التبرع أو على الأقل مشاركة الدعاية والوسوم لضمان انتشار أوسع للحملة الدعائية الثانية.
فيما نشرت عناصر داعش روابط حسابات التنظيم المالية الإلكترونية أسفل الفيديوهات على يوتيوب مع رسالة للمتبرعين المحتملين تحثهم فيها على دفع الأموال لنصرة الدين ودولة الخلافة.
دشن «داعش» أيضًا قنوات وغرفا على تطبيق تليجرام، تخصصت فى نشر الدعاية والتوعية بشأن التبرعات فقط، ومهمتها الرئيسة أن تقدم ما يشبه «خدمة العملاء» على مدار الساعة، للإجابة عن أى استفسارات تخص عمليات تحويل الأموال عبر العملات المشفرة؛ بل وصل الأمر إلى تعيين عناصر تنظيمية ومتطوعين لمتابعة المتبرع لحظة بلحظة من أجل إتمام عملية إرسال الأموال لحسابات داعش.
على شكرى أمين، 17 عامًا، من ولاية فرچينيا بالولايات المتحدة، كان واحدًا من موظفى خدمة العملاء لدى داعش، وسقط فى أغسطس 2015 فى يد أجهزة مكافحة الإرهاب الأمريكية، ووفقًا لبيان وزارة العدل الأمريكية وقتها، حُكم عليه بالسجن لمدة 136 شهرًا، بتهمة تقديم المشورة والترويج عبر تطبيق تليجرام ومواقع التواصل حول كيفية استخدام البيتكوين لتمويل تنظيم الدولة، وتوجيه المتبرعين لطرُق إرسال البيتكوين لحسابات داعش، فضلا عن التآمر لتوفير الدعم المادى والموارد بطرُق مختلفة للمنظمة الإرهابية.
ساهمت الحملة الدعائية الثانية على مواقع التواصل فى تضاعف عمليات التبرع للتنظيم بشكل كبير، من 12 عملية فى 2015 إلى 25 عملية فى 2016، وتخطت، مع نهاية العام 2018، المائة عملية وفق ما رصدته أجهزة مكافحة الإرهاب البريطانية.
فى منتصف 2019، وقبل أن يلفظ التنظيم أنفاسَه الأخيرة فى سوريا، دشنت عناصره فى إدلب السورية حملة ثالثة تركز على الجانب الدعائى والخدمى فى الوقت نفسه، عبر تقديم خدمة إلكترونية بعنوان «بيتكوين ترانسفير» أو «تحويل البيتكوين»، هدفها تسهيل جمع التبرعات والتمويلات لداعش عبر مساعدة المتبرعين المحتملين الذين لم يستخدموا العملات المشفرة مطلقًا ويخشون من كشف هوياتهم؛ وذلك باستخدام طرُق آمنة ومجهولة، لا يعرف تفاصيلها سوى عناصر التنظيم القائمين على الخدمة.
توفر «بيتكوين ترانسفير» لعملائها تفاصيل عن كيفية عمل التحويلات، مع خدمة عملاء على مدار الساعة، تمنح المتبرعين المحتملين خيار الاتصال بالقائمين على الخدمة، عبر الهاتف المحمول أو تطبيقات الإنترنت المشفرة على حد سواء، فى حال كانت لديهم أى أسئلة أو استفسارات حول عملية التحويل.
تمويل الهجمات بالبيتكوين
ينفق «داعش» ما بحوزته من «بيتكوين» داخل الأسواق غير المشروعة على شبكة الإنترنت المظلم؛ لشراء سلع ممنوع تداولها بين الأفراد، وتلبى احتياجاته التشغيلية، مثل الأسلحة وإمدادات صُنع القنابل والطائرات الصغيرة من دون طيار، وجوازات السفر المزورة التى تمكن عناصره من عبور الحدود بسهولة واستئجار المركبات والمنازل الآمنة، وشراء البيانات الحساسة بشأن الأهداف التى يرصدها التنظيم لتنفيذ عملياته الإرهابية فى أى مكان بالعالم كالخرائط والأكواد والأرقام السرية.
خلال ثلاثة أعوام حقق التنظيم نقلة احترافية فى استخدام البيتكوين لتمويل الهجمات وشراء الأسلحة، لدرجة جعلته يمول تفجيرات عيد الفصح المميتة فى سريلانكا 2019 بالكامل عن طريق العملات المشفرة التى أرسلها للمنفذين قبل الهجوم، وفق ما ذكرته وكالة «وايت ستريم» الاستخباراتية الخاصة فى تقرير لها عقب الهجوم الإرهابى الذى راح ضحيته 359 شخصًا.
هجوم سريلانكا لم يكن الأول، قبله بعامين، رصدت تقارير دولية رسمية بشأن مكافحة الإرهاب فى عدد من دول العالم عددًا من الوقائع التى تؤكد استخدام تنظيم داعش العملات المشفرة من أجل تمويل الهجمات الإرهابية، أبرزها تقرير استخباراتى لوزارة الخزانة الأمريكية عام 2017، رصد تسعة وقائع استخدم فيها داعش البيتكوين والعملات المشفرة لشراء مستلزمات عملياته الإرهابية عبر الإنترنت المظلم منذ 2015، من تأجير المركبات والشقق، مرورًا بشراء جوازات السفر المزورة وتذاكر الطيران لوجهات متعددة أبرزها سوريا، وحتى شراء الأسلحة والذخائر والبيانات حساسة.
مجموعة «جوست سيكوريتى جروب» الأمريكية المختصة فى نظم الدفاع والحماية الشخصية وتعقب الإرهابيين إلكترونيًا عبر استخدام تقنيات فائقة ومتطورة، أعلنت أيضًا فى نوفمبر 2015 اكتشافها محفظة بيتكوين يملكها «داعش» وبداخلها أموال تبلغ قيمتها الإجمالية 3 ملايين دولار تقريبًا، وأكدت أن التنظيم يستخدمها على نطاق واسع لتمويل عملياته الإرهابية.
مجموعة «هاك تيفيستس» السيبرانية المتطوعة لمكافحة إرهاب داعش على الإنترنت، كشفت فى 2016 عن أن محافظ البيتكوين التابعة للتنظيم كانت مصدرًا لتمويل هجمات باريس فى نوفمبر 2015.
يشجع التنظيم أيضًا ذئابه المنفردة فى الغرب على استخدام البيتكوين لشراء مستلزمات عملياتهم الإرهابية الفردية لضمان أمنهم الشخصى.
فى وثيقة بعنوان «دليل الذئاب الكامنة لمعاملات إلكترونية آمنة»، من ضمن الوثائق التى حصلنا عليها من مواقع داعش على الإنترنت المظلم، يشرح التنظيم لـ ذئابه المنفردة طرُق استخدام البيتكوين لشراء احتياجاتهم من أسلحة ومعدات ووثائق من الإنترنت المظلم، باعتباره المكان المناسب والآمن لمن يجاهد بمفرده - على حد تعبير الوثيقة - ويسعى للحصول على السلاح والمعدات والدعم اللوچستى دون السقوط فى قبضة أجهزة الأمن قبل تنفيذ عمليته.
فى البداية يشرح المنشور بالتفاصيل طريقة الدخول إلى الإنترنت المظلم عبر متصفح «تور»، ثم يتطرّق للنشاطات الموجودة على الويب العميق، وكيفية الاستفادة منها فى العمل الفردى والجهادى، ويضع قائمة بالمتصفحات العميقة التى تسهل التنقيب داخل قاع الإنترنت، بالإضافة إلى ترشيحات بأفضل المواقع السوداء المجربة والمضمونة من قِبَل التنظيم لشراء السلاح والوثائق وتأجير السيارات والمنازل الآمنة.
تسّييل عملات الإرهاب المشفرة
يعمل «داعش» أيضًا على تحويل ما لديه من عملات مشفرة إلى عملات نقدية سائلة، لاستخدامها فى تمويل خلافته الأرضية.
بشكل عام، يمكن لأى شخص استبدال العملات المشفرة بنقود ورقية بطريقتين:
الأولى عبر بيع البيتكوين لوسيط مالى يضارب فى العملات الورقية، مقابل نقود سائلة تسلم يدًا بيد أو عبر تحويلات بنكية، وهى عملية غير رسمية ومجرّمة قانونًا، كما أنها ليست آمنة لدرجة كبيرة، بسبب أن معظم الوسطاء المنتشرين على الإنترنت هم فى الأصل عملاء لأجهزة مكافحة غسيل الأموال الدولية.
والثانية تتم عبر ماكينات الصراف الآلى المخصصة للتعامل بالعملة المشفرة، والمنتشرة فى عدد من دول العالم منذ سنوات، وهى طريقة رسمية معترف بها دوليًا.
ماكينات البيتكوين عبارة عن أجهزة اتصال كهربائية تسمح بتداول العملة المشفرة نقدًا دون الحاجة إلى صراف أو عنصر بشرى، وتعمل مثل أجهزة الصراف الآلى المصرفية العادية.
يستخدم «داعش» الطريقة الثانية لتسييل ما لديه من عملات رقمية عبر الماكينات المخصصة لذلك، وفق تقرير صادر عن مجموعة «چوست سيكيوريتى جروب» الأمريكية المتخصصة فى الأمن السيبرانى.
وأكد التقرير أن «داعش» تمكن من تحويل كميات كبيرة من البيتكوين نقدًا عبر ماكينات الصراف الآلى، رُغم أن الدول التى تواجَد بها، لم تصل إليها حتى الآن هذه الماكينات المتطورة ولا تمتلك التكنولوچيا الكافية لذلك، ما يعنى أن التنظيم فى حاجة لعوامل مساعدة فى دول مجاورة للأماكن التى يسيطر عليها، بشرط أن تمتلك هذه الدول آليات لتحويل العملات الإلكترونية إلى نقدية، وأن يكون للتنظيم وجود داخل هذه الدول، إمّا من خلال عناصر تابعة له أو عبر وسطاء.
للوصول لأسماء الدول المجاورة لأماكن سيطرة «داعش» فى العراق وسوريا، والتى تمتلك فى الوقت نفسه ماكينات الصراف الآلى المخصصة لتحويل العملات الإلكترونية إلى نقدية، استخدمنا محرك بحث Bitcoin ATM Map على الإنترنت، وهو مصدر مفتوح ودقيق لعملاء البيتكوين حول العالم، يساعدهم فى البحث عن أقرب ماكينة صراف آلى لهم، من خلال خريطة بأماكن تواجُد هذه الماكينات فى دول العالم المختلفة، مع قاعدة بيانات تشمل العناوين والأرقام لكل ماكينة.
بالبحث أولاً فى منطقة الشرق الأوسط، رصدنا عددًا قليلاً من هذه الأجهزة داخل أربع دول فقط فى المنطقة كلها، وهى تركيا وإسرائيل والبحرين والإمارات.
دولتان فقط من الدول الأربعة لديهما حدودٌ مشتركة مع العراق وسوريا. الأولى هى تركيا التى تملك حدودًا مع الدولتين، والثانية هى إسرائيل التى لديها حدودٌ مع سوريا فقط.
فى النهاية، نرجّح بشكل كبير أن الدولة الوحيدة التى يستطيع «داعش» عن طريقها تسييل عملاته المشفرة وتحويلها لعملات ورقية هى تركيا، واستندنا فى هذا الاستنتاج على قرينتين:
الأولى: أن تركيا الدولة الوحيدة التى تمتلك 8 ماكينات بيتكوين فى محافظات إسطنبول وأنطاليا وأزمير، ولديها مناطق حدودية مع الأراضى التى سيطر عليها التنظيم أو تواجَد بها فى سوريا والعراق؛ حيث كان «داعش» يسيطر لسنوات على معظم القرى السورية وبعض المدن العراقية الواقعة على الشريط الحدودى مع المحافظات التركية.
الثانية: تقرير صادر فى 17 مايو 2021 عن مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأمريكية، يكشف التعاون المشبوه بين تنظيم داعش وأفراد وشركات خدمات أموال تركية، فى أمور تتعلق بتسهيل نشاطات التنظيم المالى، ومن بينها معاملات رقمية.
أكد التقرير أن «داعش» اعتمد على شبكة تضم 3 أشخاص وشركتين لخدمات الأموال مقرهما تركيا، لمساعدته فى تمويه تعاملاته المالية، وتحويل أمواله عبر الحدود، وغسل ثرواته الناتجة عن أنشطة مالية غير مشروعة.
ثروة «داعش» الرقمية
اختلفت التقديرات الدولية حول قيمة العملات الإلكترونية المشفرة التى يملكها «داعش»، فالمركز الأوروبى لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات- ومقرّه ألمانيا وهولندا، يؤكد فى أحدث تقرير له صادر فى مايو 2021، أن قيادات داعش تمتلك عملات بيتكوين تبلغ قيمتها 300 مليون دولار، مع توقعات بزيادة حجم هذا العملات واستغلالها فى تنفيذ موجات جديدة من الهجمات الإرهابية.
بينما شككت شركة «Chainalysis» المختصة فى تحليل سوق بيتكوين، فى حقيقة هذه الأرقام، مؤكدة أنه من الصعب حصر الرقم الحقيقى لما يملكه داعش من عملات مشفرة، بسبب استخدامه آلية تقسيم المعاملات الرقمية إلى معاملات أصغر، ما يجعل من المستحيل تتبع الأرصدة الحقيقية ومعرفة قيمتها.