الأربعاء 1 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
تفاحة أدب نجيب محفوظ المحرمة.. «أولاد حارتنا».. الجبلاوى المفترى عليه  من شيوخ لا يقرأون الأدب

تفاحة أدب نجيب محفوظ المحرمة.. «أولاد حارتنا».. الجبلاوى المفترى عليه من شيوخ لا يقرأون الأدب

شهدت صفحات جريدة الأهرام قبل أكثر من 60 عامًا مولد «أولاد حارتنا» عبر سلسلة من الحلقات الحصرية تحت رئاسة تحرير محمد حسنين هيكل، قبل أن تُطبَع الرواية خارج مصر بواسطة دار الأدب اللبنانية، إذ شهدت رفضًا كبيرًا فى مصر، قاده بعض المشايخ، وظلّت الرواية لعقود تُباع وكأنها ممنوعات بعد أن تم تهريبها من لبنان إلى مصر، ولم تدخل الرواية المطابع المصرية إلا عام 2006، بعد وفاة أديب نوبل بأشهُر قليلة.



لم تكن أولاد حارتنا مُجرد عمل أدبى لنجيب محفوظ؛ بل كانت طريق العودة إلى الكتابة بعد سنوات من الانقطاع، حين اتخذ قراره عام 1953 بالاتجاه إلى كتابة السيناريو، ليجد نفسه فى نهاية الخمسينيات يجلس أمام أوراقه ويبدأ فى كتابة «أولاد حارتنا».. وكان يسيطر عليه مزيج من الأفكار الصوفية الدينية الفلسفية مع ملاحظات سياسية اجتماعية عاشتها مصر فى تلك الفترة.

بعد نشر الأهرام عدّة حلقات من الرواية ارتفعت بعض الأصوات لتنادى بوقف نشر باقى الحلقات، بزعم أنها تُسىء للمقدسات والإسلام، وبعد فوز محفوظ بنوبل عام 1988، تجددت دعوات التطرف لتصل إلى حد الكراهية والتكفير، بقيادة شيوخ السلفية والإخوان، ومن أبرزهم محمد الغزالى وعمر عبد الرحمن وعبدالحميد كشك.

بعد فوز محفوظ بجائزة نوبل عن أعماله ومن أبرزها «أولاد حارتنا»، سُئل عن إشكالية الرمزية فى روايته الصاخبة، وقال إن الأمر يتعلّق بطريقة قراءة الرواية.. موضحًا أنه عند قراءة عمل قائم على الأدب الرمزى، فمن الضرورى قراءته كرمز دون التركيز على المرموز، وغير ذلك يُفقد العمل مضمونه، وللتأكيد على ذلك أشار فى حديثه إلى مجموعة القصص التراثية «كليلة ودمنة» التى تعتمد على عالم الحيوان فى سرد الأحداث، مؤكدًا أن المؤلف قصد أن يعكس من خلالها العالم الواقعى فى زمن السُّلطان والوزراء، إذ وضع بدائل لهؤلاء الشخصيات من خلال الأسد والثعلب وغيرهما من الحيوانات. وأعطى محفوظ مثالًا بالوزير الذى يمثل الثعلب رمزية له؛ ليكون العامل المشترك هنا بين الوزير والثعلب هو التفكير والدهاء، لكن مع ضرورة الحفاظ على عالمه الحيوانى خلال أحداث القصة، ودون ذلك تفقد القصة واقعيتها وإقناعها للقارئ.

يتابع «محفوظ» حديثه، منتقدًا القرّاء الذين تركوا الرمز وتشبثوا بالمرموز فى قراءتهم لأولاد حارتنا، وهو ما يهدم العمل من بدايته لنهايته، ووجّه كلماته إلى هؤلاء الذين يرون فى شخصيات الحارة الخمس ممثلين للأنبياء من آدم إلى محمد، يطالبهم فى الفصل بين قصص الأنبياء وما ورد فى الرواية، وحتى إذا كانت الشخصيات تعكس حياة الأنبياء، فأكد أن ذلك لا يُسىء للأنبياء؛ لأن الشخصيات الخمس تظهر كأبطال، كل منهم أطلق ثورته من أجل تحقيق الخير للجميع.

وعن رمزية «أولاد حارتنا» افتتح المفكر السورى جورج طرابيشى دراسته الجدلية «الله فى رحلة نجيب محفوظ الرمزية» عام 1973، والذى اعتبر أن الحارة المصرية التى جاءت بالرواية هى رمزية للحياة التى نعيشها على  الأرض.. «حارة وُجدت من العدم فى الخلاء، تمامًا كما وُجدت الأرض من العدم فى الخلاء. حارة أوجدها ذلك الجد الأكبر، الجبلاوى، تمامًا كما أوجد الله الأرض. وكما أن البشر لا هَمّ لهم ولا شاغل منذ سقطة آدم، إلا أن يعودوا إلى الفردوس الذى طردوا منه، كذلك فإن أولاد حارة الجبلاوى لا هَمّ لهم ولا شاغل إلا أن يرضى عنهم الجبلاوى، فيدعوهم إلى الإقامة فى البيت الكبير الذى وُجد قبل أن توجد الحارة والذى يتصورون أن الحياة فيه ستكون فرحًا دائمًا بلا كدح ولا كد».

 نجيب محفوظ كره الحديث عن «أولاد حارتنا»

لم يُعرَف عن نجيب محفوظ سعيه نحو إثارة الجدل من خلال كلماته وأعماله الأدبية الممتدة منذ ثلاثينيات القرن الماضى وحتى بعد وفاته، وذلك رُغْمَ كَمِّ الصخب والتمرد الذى يملأ قلوب وعقول شخصيات رواياته. ربما لذلك رفض أن تُطبع «أولاد حارتنا» فى مصر؛ لتبقى فى الغُربة إلى عام 2006 عقب وفاته.. ولا يمكن أن يوصَف ذلك الفعل بالهروب، إذ إنه كان حاضرًا فى ذلك الاجتماع الذى عُقد من أجل مناقشته فى «أولاد حارتنا» من قِبَل شيوخ الأزهر بعد نشر حلقاتها فى الأهرام، ورُغم أن الدين والشيوخ ليس لهما علاقة بالنقد الأدبى؛ فإنه لم يرفض، وعلى العكس فقد حضر «محفوظ» بمفرده، ولم يحضر أىٌ من المشايخ فى ذلك الوقت الذى يعود إلى نهاية خمسينيات القرن الفائت.

تسبب هجوم المشايخ بإصابة محفوظ بأزمة نفسية وصلت إلى حد الإحباط، على حد وصف المفكر المصرى الدكتور صلاح فضل، والذى اقترب من محفوظ، وتحدّث قبل سنوات عن ذلك اللقاء الذى جمعه بـ«محفوظ» بعد طبع «أولاد حارتنا» فى لبنان، ويقول إن محفوظ كان غاضبًا حين جاءت سيرة أولاد حارتنا وقال: «مش عايز أعرف حاجة عن أولاد حارتنا»، ويشير «فضل» إلى أن «محفوظ» لم يكن مُرحبًا بطبع الرواية فى لبنان، لدرجة أنه لم يحرص على أن يحصل على أى أموال بعد طبعها فى ذلك الوقت الذى يعود إلى مطلع الستينيات.

حين سُئل «نجيب» عن تلك المناقشة فى لقاء تليفزيونى لاحق، قال: «المرحوم صبرى الخولى سألنى إذا كنت مستعدًا لعمل مناقشة حول الرواية، فأبديت استعدادى، لكن المناقشة لم تتم من الناحية الأخرى، فقال لى الخولى هبقى أندهلك لما يجتمعوا، وفات على هذا الوعد 30 عامًا، حتى نسيت الأمر.. ثم تجددت الحملة ضد الرواية بعد حصولى على نوبل، زاعمين أننى حصلت على الجائزة بسبب الرواية، وهو ليس صحيحًا».

كثير من الأشخاص الذين تحمّسوا لانتقاد الرواية، اتخذوا من شخصية «الجبلاوى» ذريعة للنَّيْل من «أولاد حارتنا»، وادّعوا أن محفوظ أراد أن يصنع من الجبلاوى إلهًا، وأن ذلك الإله يظهر بشكلٍ غير لائق بالنسبة لتصوراتهم الدينية التى ليس لها علاقة بالأدب وفنيّات كتابة الرواية وخَلق الشخصيات، غير أن محفوظ نفسه لم يُصرّح فى أىّ من أحاديثه بأن الجبلاوى بطل روايته هو رمز لله.. فهذا هو نجيب محفوظ الذى تقول إحدى مقولاته الشهيرة «كنت أحلم بمجتمع يقوم على قيم ثابتة، أولها الحرّية، والعدالة الاجتماعية والعِلم، والقيم السامية المستمدة من جميع الأديان؛ خصوصًا الدين الإسلامى»، فكيف أن تكون روايته مستغلة للأديان!.

عند قراءة «أولاد حارتنا» بشكلٍ أدبى بعيدًا عن أى مقدسات أو تشابهات، لن تكون شخصية الجبلاوى سوى أب له صفات صارمة وإرادة حادة.. تحداه ابنه الأكبر وكان سببًا فى سوء حياة إخوته؛ وبخاصةً أدهم. لكن حتى بقراءتها بالطريقة التى فضلها البعض وهى تشبيه الرموز بالأنبياء الخمس فلن نجد إلا تشابهات محدودة، أى لا نستطيع أن نعتبر أدهم هو الشخصية المرادفة لآدم، ولا أميمة زوجته هى حواء، فلم يكن محفوظ كاتبًا ساذجًا حتى يترك بناء شخصياته للصدفة، ولم يكن متكاسلًا بخياله حتى ينقل شخصيات الأنبياء كما هى إلى أحداث روايته دون بناء روائى محكوم.

وحتى الجبلاوى نفسه، ظهر كإنسان طبيعى وليس خارقًا، له سمات معينة، مثله مثل بعض فتوّات الحارات المصرية القديمة.. البعض قد يراه مفتريًا والبعض الآخر يعتبره رجلًا قويّا يَعدل فى حُكمه.

يقول الدكتور صلاح فضل فى كتابه «شفرات النص» المنشور فى تسعينيات القرن الفائت، إنه كلما أسرف الروائى وخرج عن المألوف فى خياله كان أفضل من أجل خَلق عوالم جمالية؛ لأن المؤلف إذا التزم بالواقع لن يكون مُبدعًا. مضيفًا إن الصور البشرية فى شخصية الجبلاوى بطل «أولاد حارتنا»، كانت هى الغالبة على الوصف الذى جاء بالرواية، لا سيما حين وصف محفوظ حال الجبلاوى بالمعتزل الذى لم يره الناس منذ زمنٍ بعيد، أى أنه كان حاضرًا بين الناس فى زمن ما، وهو أمرٌ مُخالف للذات الإلهية.

 كيف استفز نجيب محفوظ شيوخ الظلام؟

تظل أزمة «أولاد حارتنا» حتى بعد مرور أكثر من 60 عامًا على نشرها، هى طريقة قراءتها، إذ قُرئت منذ ميلادها بالشكل الذى لم يكن يتمناه «محفوظ» وبطريقة تقلل من قيمة العمل الأدبى، ربما ساعد فى ذلك محفوظ نفسه، الذى اختار أن يصنع تناغمًا موسيقيّا فى اختيار أسماء شخصيات الحارة فضلًا عن الأحداث المستوحاة من حياتهم، فتحمّس القُرَّاء الأوائل لترجمة «أدهم» على أنه آدم، و«جبل» هو موسى، و«رفاعة» يرمز إلى عيسى، وكان أكثرهم مباشرةً هو «قاسم»، ففى حياة النبى محمد عُرف وسط الصحابة وأهله بكنيته «أبو القاسم».

فى ندوة بجامعة القاهرة عام 1988 أعقبت حصول محفوظ على نوبل ونظمتها الجمعية الفلسفية المصرية، أعلن الأديب بشكل واضح أن «أولاد حارتنا ليس بها حملة ضد الدين أو الأنبياء، وأن سوء التفاهم بين الرواية وبعض القُرَّاء هو أزمة قراءة فقط.. كيف تقرأ الرواية!».

وتحدّث فى تلك الندوة عن بعض ما أغضب المتشددين قائلًا إنهم مثلًا غضبوا بسبب بعض المَشاهد الأدبية فى استعراض شخصية «جبل» وقالوا: «هل ترضى أن يمشى موسى حافيًا، هل موسى كان يدخل الخمّارات؟!» وعلّق محفوظ ضاحكًا: «نسيوا أن أحداث الرواية تدور فى حارة وأننى أتحدث عن أحد شخصيات تلك الحارة، وكل ما فى الأمر أن فى أحد تصرفات تلك الشخصية عكست عملًا نبويّا تاريخيّا».

وصفت لجنة الدفاع عن الإسلام فى تقريرها حول «أولاد حارتنا» حين كانت فى مهدها الأول بجريدة الأهرام، بأنها عمل يقدم إلحادًا وعبثًا بتاريخ الديانات، وقد صدر أكثر من تقرير بشأن الرواية من قِبَل رجال الأزهر، وأبرزها ما كتبه كل من الشيخ محمد الغزالى والشيخ سيد سابق، وكلاهما تزاملا فى جماعة الإخوان حتى مطلع الخمسينيات. كما أصدر الدكتور أحمد الشرباصى تقريره.. وكلها انتهى بها الحال إلى مكتب الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وتحديدًا فى يد صبرى الخولى الذى كان مراقبًا على المطبوعات آنذاك.

وأيضًا من أبرز ما استفز المعترضين على «أولاد حارتنا»، تناول سيرة «قاسم» التى يتم ترجمتها على أنها سيرة محمد، فنجد مثلًا أنه ضمن أحداث الرواية كتب محفوظ: «ازداد قاسم اضطرابًا ففطن صادق إلى حاله كشأنه دائمًا.. فقدّم إليه قدحًا جديدًا من الشراب، ومازال به حتى أفرغه فى جوفه حتى الثمالة، وكانت الجوزة لا تزال فى يده وأفرط حسن فى الشراب حتى تراقصت تهاويل السرادق أمام عينيه». بالإضافة إلى ظهور زوجتَىْ الرسول خديجة التى ترمز لها «قمر» وعائشة التى مثّلتها «سكينة» ضمن أحداث الرواية، إذ اعترض البعض عن أسلوب النقاش بين قاسم وزوجتيه واعتبروه أسلوبًا لا يليق بالنبى محمد وزوجاته.

ثم تأتى قصة «عرفة» لتزيد حيرة بعض القُرّاء، فإذا كان «محفوظ» يقصد من هذه الشخصية أن يرمز إلى عصر العِلم والمعرفة، فماذا قصد من خطها الدرامى الذى انتهى بمقتل «الجبلاوى» على يد «عرفة».. معظم من شبّهوا الجبلاوى بالذات الإلهية وجدوا أنفسهم فى ورطة، فهل يرمز محفوظ بالجبلاوى إلى الإله حقّا، أمْ أنها شخصية تحمل صفات الخرافات التى سيطرت على البشر لقرون وتحكمت فى حياتهم إلى أن جاء العِلم ليعلن نهايتها؟!

فى هجومه على «أولاد حارتنا»، وصف الشيخ عبدالحميد كشك، وهو أحد أشهَر مُتشددى الثمانينيات والتسعينيات، شخصية «عرفة» بأنه تمثيل  مباشر للشيوعية والإلحاد، مشيرًا إلى أن محفوظ قصد منها إنكار وجود الله. وهاجم «كشك» «محفوظ» فى كتابه «كلمتنا فى الرد على أولاد حارتنا» وقال: «أخطر ما جاء فى هذه الرواية ما تحدثت فيه عن الذات الأعظم عن الله جل جلاله وأنه قد انتهى دوره عندما ظهر العِلم الذى رمز له بعرفة، وأن الإله قد مات...» .

ربما يظل أخطر الهجمات التى طالت نجيب محفوظ بسبب «أولاد حارتنا» هى محاولة اغتياله فى أكتوبر من عام 1994 على يد مواطن أمّى، وقبلها حين توعد له عمر عبدالرحمن وهو أحد قيادات الجماعة الإسلامية وهدده بالقتل.. فى ذلك الوقت شعرت الدولة بالخطر الذى يحيط بمحفوظ فوفّرت له فرد الأمن، لكن محفوظ رفض وقال للضابط المسئول عن هذه المهمة: «سيقتلنى الحارس الذى سترهقه كثرة تنقلاتى»!