
محمد توفيق
ماذا حدث للصحافة المصرية فى 60 عاما؟
لم تكن الصحف أبدًا مجرد حبر على ورق، حروف ساخنة، وكلمات زاعقة، ومقالات صارخة، أو عبارات مُنمَّقة، وصور جميلة، وتعبيرات بليغة، وأفكار حالمة؛ لكنها رؤية، وموقف؛ فرُغم أن الصحافة صاحبة جلالة، لم تجلس يومًا فى بُرج عاجى بعيدًا عن أحلام البسطاء.
فقد خاضت الصحافة المصرية كل معارك الوطن، وظلت تقف على خط النار منذ الثورة العرابية حين اصطحب الزعيم «أحمد عرابى» معه إلى معركة التل الكبير «عبدالله النديم» ليواجها سويًا الإنجليز بالمدفع والقلم، وبعد سنوات جاء الزعيم «مصطفى كامل»، وبصحبته الصحفى «أحمد حلمى» الذى روى له ما جرى فى دنشواى. ومرّت السنوات والتقى الزعيم «سعد زغلول» بـ«عباس العقاد»، وأطلق عليه لقب الكاتب الجبار، وحين قامت ثورة 1919 كان الصحفى «أمين الرافعى» هو مَن يجمع توقيعات الشعب المصرى للإفراج عن «سعد باشا».
وقبل قيام ثورة 1952 كانت مقالات «إحسان عبدالقدوس» عن الأسلحة الفاسدة بمثابة الطلقة الأولى فى معركة تغيير النظام الملكى، وقيام الجمهورية.
وحين فكّر الرئيس «جمال عبدالناصر» فى التنحى بعد الخامس من يونيو 1967 طلب من «محمد حسنين هيكل» أن يكتب الخطاب، وحين خاضت مصر حرب الاستنزاف ذهب الأديب «جمال الغيطانى» خلف خطوط العدو ليكون بصحبة «إبراهيم الرفاعى»، وظل معه حتى قرر الرئيس «أنور السادات» خوض حرب أكتوبر عام 1973، ويومها طلب من الأستاذ «هيكل» أن يكتب التوجيه الاستراتيجى للحرب الذى حدد فيه أهدافها.
هكذا كانت الصحافة- وستظل- دائمًا تقف فى الصفوف الأولى فى المعارك الكبرى، واللحظات الفارقة، ولهذا قصة طويلة سنروى بعض ملامحها.
(1)
قبل عامَيْن من قيام ثورة يوليو 1952، نشر «إحسان عبدالقدوس» فى مجلة «روزاليوسف» سلسلة مقالات عن الأسلحة الفاسدة التى حارب بها الجيش المصرى فى حرب فلسطين 1948.
وأثناء نشر المقالات فوجئ «إحسان» بمجموعة من الضباط جاءوا إليه فى المجلة، وأعطوه مستندات تثبت تورط «حيدر باشا» وزير الحربية فى صفقات الأسلحة، ونشر «إحسان» المستندات، فاضطر «حيدر باشا» للاستقالة من منصبه.
ومهدت مقالات «إحسان» الطريق لقيام ثورة 23 يوليو 1952، واعتبره البعض أحد أهم أسباب قيام الثورة.
وبعد نجاح الثورة لعبت الصحف دورًا مؤثرًا فى تعريف الشعب بمجلس قيادة الثورة، وتقريبهم لقلوب الناس، فكتب «مصطفى أمين» رئيس تحرير أخبار اليوم سلسلة مقالات بعنوان «سر الضباط التسعة»، وكان مصدره فيها هو «جمال عبدالناصر»، ومن قام بمراجعتها قبل النشر هو «أنور السادات».
وروى الكاتب الصحفى «حلمى سلام» كواليس الضباط الأحرار، وعلاقته بجمال عبدالناصر قبل الثورة، وأنه كان يذهب معه للسينما، أمّا «محمد حسنين هيكل» رئيس تحرير مجلة «آخر ساعة» فبدأ يلفت الأنظار بمقاله الذى طالب فيه بتطهير الصحافة المصرية.
وفى عام 1953 بدأت الثورة تؤسِّس صحيفة جديدة باسم «الجمهورية» لتكون منبرًا لها، وأشرف عليها جمال عبدالناصر، وأنور السادات، وصلاح سالم، وصدر قرارًا بتعطيل بعض الصحف والمجلات؛ لحماية المصريين من مرِّوجى الأخبار المُغرضة، والباعثة على الفتنة.
وكتبت السيدة «فاطمة اليوسف» خطابًا إلى «جمال عبدالناصر» قائلةً: «لا تصدّق ما يقال من أن الحرية شىء يباح فى وقت ولا يباح فى وقت آخر، فإنها الرئة الوحيدة التى يتنفس بها المجتمع ويعيش، والإنسان لا يتنفس فى وقت دون آخر، إنه يتنفس حين يأكل، وحين ينام، وحين يحارب أيضًا».
ووصل الخطاب إلى «جمال عبدالناصر»، ورد عليه قائلًا: «أنا بطبعى أكره كل قيد على الحرية، وأنا لا أخشى من إطلاق الحريات؛ وإنما أخشى أن تصبح الحرية تُباع وتُشترَى كما كانت قبيل 23 يوليو سلعًا تُباع وتُشترَى.. ومع ذلك فأين الحرية التى قيّدناها؟.. أنتِ تعلمين أن النقد مباح، وأننا نطلب التوجيه والإرشاد ونلحّ فى الطلب، بل إننا نرحِّب بالهجوم حتى علينا إذا كان يُقصد منه صالح الوطن وبناء مستقبله، وليس الهدم والتخريب، ومجرد الإثارة.. ذلك لأننى أعتقد أنه ليس بيننا مَن هو فوق مستوى النقد أو مَن هو مُنزَّه عن الخطأ».
ونُشر خطاب «عبدالناصر» بتوقيعه على صفحات مجلة «روزاليوسف».
وبعد عام من تلك الواقعة صدر قرار باعتقال «إحسان عبدالقدوس» بتهمة قلب نظام الحكم بسبب مقال بعنوان «الجمعية السرية التى تحكم مصر»، وبعد ثلاثة أشهُر تم الإفراج عنه، وبمجرد أن وصل إلى بيته، كان «جمال عبدالناصر» هو أول المهنِّئين بخروجه من السجن، ودعاه ليتناول معه الإفطار فى صباح اليوم التالى.
وبعد عامَيْن، وتحديدًا فى 12 يناير عام 1956 صدر العدد الأول من مجلة «صباح الخير»، وتم اختيار «أحمد بهاء الدين» ليكون رئيسًا لتحريرها.
حينها لم يكن «بهاء» قد تجاوز التاسعة والعشرين من عمره؛ لكنه استطاع أن يحقق قفزة كبيرة فى تطور الصحافة المصرية، وجمع فى هذه التجربة الأساتذة: «صلاح عبدالصبور، وكامل زهيرى، ورجاء النقاش، ومصطفى محمود، وفتحى غانم، ومحمود المراغى، وجمال كمال، وحسن فؤاد، وصلاح جاهين، وجورج بهجورى، وحجازى، وهبة عنايت، وإيهاب شاكر، وأبو العينين، ويوسف فرنسيس»، وغيرهم.
وبعد سبعة أشهُر من صدور «صباح الخير» وتحديدًا فى 26 يوليو عام 1956 أعلن «جمال عبدالناصر» تأميم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية لتصبح شركة مساهمة مصرية، ووقع العدوان الثلاثى على مصر.
وصارت مانشيتات الصحف تتقدم صفوف المعركة، وصارت مقالات الصحفيين وقودًا لتلك الحرب، بل إن بعضهم ذهب إلى بورسعيد ليعيش مع أهلها وسط النيران، ووثقوا ما جرى هناك بالكلمة والصورة.
وفى 17 يوليو عام 1957 اتخذ مجلس إدارة جريدة «الأهرام» قرارًا بتعيين «محمد حسنين هيكل» رئيسًا للتحرير، بعد أن هبط توزيع الجريدة إلى ستين ألف نسخة.
حينها لم يكن «هيكل» قد أتم عامَه الرابع بعد الثلاثين، لكنه أحدث نقلة كبرى فى توزيع الجريدة، وصلت إلى عشرة أضعاف ما كانت عليه، واستعادت الصحيفة شبابها بعد 77 عامًا على نشأتها، وصارت مؤسَّسة كبرى تناطح كبرى الصحف فى العالم.
وبعد عامَين من تولى «هيكل» رئاسة تحرير الأهرام، نشرت جريدة «أخبار اليوم» فى صدر صفحتها الأولى قصة «تاتا زكى»، تلك السيدة الأرستقراطية التى تريد الانفصال عن زوجها المحامٍى الشهير، لكنه يرفض أن يُطلقها.
وانصرف الناس عن كل ما يجرى من إنجازات فى البلد، وتابعوا، وتتبعوا قصة «تاتا زكى»، فغضب الرئيس «جمال عبدالناصر»، وشن حملة ضد صحف الإثارة التى تُلهى الجماهير عن القضايا الكبرى.
وفى خطاب «عبدالناصر» بمناسبة ثورة يوليو، هاجم صحافة الإثارة، واتهمها بعدم إلقاء الضوء على قضايا المواطنين الكادحين، ووصف الصحافة بأنها تقدم صورة بعيدة كل البُعد عن مجتمعنا.
(2)
وفى 24 مايو عام 1960 صدر قانون تنظيم الصحافة، ونُقلت ملكية الصحف إلى الاتحاد القومى، وشمل القرار الدُّورَ الصحفية الخمس الكبرى «الأهرام» و«أخبار اليوم» و«الجمهورية» و«دار الهلال» و«روزاليوسف».
وبدأت مرحلة جديدة فى تاريخ الصحافة، صارت فيها الدولة تملك كل الصحف، وعقب صدور القانون التقى «عبدالناصر» مع الصحفيين، وخاطبهم قائلاً: «هناك مشكلات حقيقية فى بلدنا، واللى عاوز يكتب عن بلدنا يروح كفر البطيخ، ويشوف الناس اللى لابسين برانيط قشّ وبيشيلوا الرز طوال النهار عشان يعيشوا.. إذا أردنا أن تكون عندنا فعلًا صحافة يجب أن تكون فى خدمة الناس فى بلدنا».
وفى العام التالى صدر قرار بنقل «على أمين» من «أخبار اليوم» إلى دار «الهلال»، ويومها جمع «على» كل نجوم الفكر والأدب والفن والصحافة فى إصدار واحد، ومن بينهم: «عباس العقاد، وطه حسين، وكامل الشناوى، وإحسان عبدالقدوس، وأحمد بهاء الدين، وصلاح جاهين، ومصطفى أمين، ومحمد حسنين هيكل، والدكتور محمد حسين هيكل، وأنيس منصور، ومحمد فريد أبو حديد»، ومعهم أم كلثوم، وعبدالحليم حافظ، وشادية، وفاتن حمامة، ومارلين مونرو!
فعادت «الهلال» إلى الحياة واضطرت لأول مرّة فى عمرها المهنى إلى أن تجمع الورق «الدشت» وتطبع عليه نسخًا رديئة، بعد أن نفدت كل الكمية المطبوعة.
وبعد خمس سنوات تكررت تجربة «على أمين» فى «الهلال» مع «صلاح جاهين» فى مجلة «صباح الخير»، وارتفع توزيعها من 40 ألف نسخة داخل مصر إلى 70 ألف نسخة.
وفى عدد واحد فقط ظهر «أحمد بهاء الدين، وفؤاد حداد، ومحمود السعدنى، وعلاء الديب، ومصطفى محمود، ورءوف توفيق، ومفيد فوزى»، علاوة على الفنانين «حجازى، وجورج بهجورى، وإيهاب، وناجى، وحسن فؤاد».
لكن الفرحة لم تتم بسبب ما جرَى فى 5 يونيو عام 1967 فهبط توزيع «صباح الخير» إلى ثمانية آلاف نسخة فقط، ولم يذهب «جاهين» إلى المجلة مرّة أخرى.
(3)
وفى عام 1968 بدأت مرحلة مختلفة، فقد ارتفع سقف النقد فى الصحافة، والسينما، والمسرح، وخرج الطلاب فى مظاهرات، وبدا أن البلد فى حاجة إلى أن يتصدر المشهد كُتابٌ آخرون يحتاج الناس إلى رؤية مقالاتهم، وكان فى مقدمتهم الكاتب الصحفى «أحمد بهاء الدين» الذى قام بالدعوة لاجتماع طارئ فى نقابة الصحفيين لمناقشة تطورات الموقف على إثر مظاهرات الطلبة التى انضمّت إليها الجماهير.
واتفق مجلس النقابة على إصدار مذكرة، ورفعها إلى المسئولين، جاء فيها: «إن مجلس نقابة الصحفيين يعتقد أن المظاهرات التى قام بها طلبة الجامعات والعمال كانت تعبيرًا عن إرادة شعبية عامّة تطالب بالتغيير».
وفى الساعة التاسعة مساءً توَجّه «أحمد بهاء الدين» حاملًا البيان مكتوبًا بخط يده، وقام بكتابته على الآلة الكاتبة، وفى صباح اليوم التالى كانت هناك نسخة من البيان على مكتب الرئيس «جمال عبدالناصر».
واعتبر «عبدالناصر» أن البيان طعنة موجَّهة إليه من نقابة الصحفيين، واقترح البعض القبض على «أحمد بهاء الدين»، واقترح البعض الآخر القبض على عدد من أعضاء مجلس نقابة الصحفيين؛ لكن «جمال عبدالناصر» عَلّقَ على تلك الاقتراحات قائلًا: «لا تقبضوا عليه.. ده أحمد بهاء الدين وأنا عارفه.. مُخّه كده».
وارتفعت حدة النقد فى الصحف، وطالت «محمد حسنين هيكل» الذى تعرّض لعاصفة من الهجوم، بسبب تمييز «الأهرام» بالانفرادات، والمساعدات المالية عن بقية الصحف.
وفى صباح يوم الأحد التاسع من مارس عام 1969 قرر الفريق «عبدالمنعم رياض»، رئيس أركان حرب القوات المسلحة أن يتوجه بنفسه إلى الجبهة، وحين حاول البعض إثناءه قال: «إن مكان القادة الصحيح هو وسط جنودهم، وفى مقدمة الصفوف الأمامية».
وذهب «عبدالمنعم» ليشارك جنوده فى مواجهة العدو، وقرر أن يقود المعركة من أكثر المواقع المصرية قربًا من نيران العدو، وفجأة انهالت نيران العدو على الموقع الذى كان يقف فيه «عبدالمنعم رياض» بين جنوده، واستمرت المعركة نحو ساعة ونصف الساعة إلى أن أُصيب الفريق «رياض» بقذيفة مدفع، ليلقَى ربَّه.
ونشرت الصحف تفاصيل استشهاد البطل «عبدالمنعم رياض»، فاشتعل حماس الشعب، والجيش، وشعر الناس أن القادة تغيَّروا، وأحسّ الجنود أن المستحيل ممكن.
وكتب «يوسف السباعى» مقالًا بعنوان «عبدالمنعم رياض.. استُشهد بطلًا» جاء فيه: «لقد مات عبدالمنعم رياض كما عاش.. ميتةً طيبةً.. لقد عرف كيف يعيش باسمًا.. شجاعًا.. والأبطال يموتون ميتة الأبطال».
(4)
وفى يوم 28 سبتمبر عام 1970 رحل جمال عبدالناصر، وفى الثامن من أكتوبر خرج مانشيت جريدة «الأخبار» يقول:
- بيان أنور السادات إلى الشعب: أعلن لكم بشرف أننى سأواصل السير على طريق عبدالناصر..
وبدأت الصحافة فى السبعينيات مع صعود الرئيس السادات إلى كرسى الحُكم مرحلة جديدة، فلم يعد «هيكل» هو أقرب الصحفيين إلى الرئيس بل صار ينافسه كثيرون على رأسهم موسى صبرى.
ومرت ثلاث سنوات، وجاء يوم السادس من أكتوبر عام 1973، وخرجت مانشيتات الصحف صباح اليوم التالى تحمل بشارة العبور، وتوثق ليوم النصر قائلة:
«الأهرام»: «قواتنا عبرت القناة.. واقتحمت خط بارليف».
«الأخبار»: «عبرنا القناة.. ورفعنا علم مصر.. والأسرَى بالمئات».
«الجمهورية»: «إسرائيل فى ذهول».
ويومها وضع الكاتب الكبير «أحمد رجب» تصورًا ساخرًا للامتحانات فى مدارس تل أبيب بعد هزيمة إسرائيل جاء فيها:
من امتحانات اللغة فى إسرائيل بعد ٦
أولًا- قواعد اللغة: أوجد الفاعل فى العبارتين التاليتين:
( أ) يتقن الإسرائيليون اللغة العبرية.
( ب) يتقن المصريون اللغة العُبورية.
ثانيًا - الإنشاء: اكتب فى أحد الموضوعين الآتيين:
١ - عُدتَ من الحرب دون أن تُقتل أو تظهر فى أى تليفزيون عربى.. اكتب أسباب هجرتك من إسرائيل.
٢ - هب أنك موشى ديان.. اكتب استقالتك.
وبعد أربعة أشهُر فقط من الحرب، خرج «هيكل» من الأهرام، وجاء على أمين خلفًا له، لكن تجربته لم تستمر سوى ثلاثة أشهُر، وتصدّر المشهد الأستاذ موسى صبرى رئيس تحرير أخبار اليوم.
وفى صباح يوم الاثنين 17 يناير عام 1977 تقرر زيادة بعض السلع الأساسية، وفى اليوم التالى اندلعت انتفاضة، وتم إعلان حظر التجول، وإلغاء القرارات الاقتصادية.
ونشرت الصحف تفاصيل ما جرى، واستخدمت صحيفة «أخبار اليوم» تعبير الرئيس السادات، ووصفتها بانتفاضة الحرامية، بينما أطلقت عليها «روزاليوسف» انتفاضة الخبز.
واستدعى الرئيس السادات «صلاح حافظ» إلى استراحة القناطر، وسأله: «هل ما زلت مُصرًّا على تسمية ما جرى فى أحداث 18 و19 يناير انتفاضة الخبز؟
فأجابه «حافظ»: نعم.
فرد الرئيس: إذن.. رئيس التحرير الجديد لمجلة «روزاليوسف» يجلس فى الغرفة المجاورة لنا الآن.
وصدر القرار بإقالة «صلاح حافظ» و«فتحى غانم» ومعهما «عبدالرحمن الشرقاوى» رئيس مجلس الإدارة
(5)
وفى صباح يوم العاشر من ديسمبر عام 1979 بدأت حقبة جديدة فى تاريخ الصحافة حين قرر الرئيس «السادات» تغيير رؤساء تحرير الصحف الحكومية، وجاء بأسماء لم تكن فى واجهة المشهد، بل لم تكن معروفة للناس، ولبعض الصحفيين، وبدا للجميع أن هذا هو المطلوب.
فقد أراد «السادات» أن يصنع جيلًا جديدًا من رؤساء التحرير على عينه، لذا أصدر قرارًا بترقية اثنين من شباب الصحفيين، وهما: «إبراهيم نافع» رئيسًا لتحرير «الأهرام»، و«إبراهيم سِعدة» رئيسًا لتحرير «أخبار اليوم» ثم جاء بعدهما الكاتب الصحفى «مكرم محمد أحمد» رئيسًا لمجلس إدارة دار الهلال.
لم يكتف الرئيس السادات بتغيير رؤساء التحرير فقط، بل أراد صناعة صحف جديدة تعبر عن رؤيته، وتحمل بصمته، وتُنسب إليه، فقرر أن يُصدر جريدة جديدة ناطقة بلسان الحزب الوطنى، واختار لها اسم «مايو» لتخليد ذكرى ما جرى فى 15 مايو حين أطاح برجال «جمال عبدالناصر».
ولم تكن «مايو» التجربة الوحيدة التى صنعها الرئيس، فقبلها أصدر مجلة «أكتوبر» برئاسة تحرير «أنيس منصور»، ومنحه صلاحيات كبيرة لدرجة أنه اصطحب 70 من محررى المجلة إلى قرية «ميت أبو الكوم» للقاء الرئيس.
وفى السادس من أكتوبر عام 1981 رحل الرئيس السادات أثناء احتفاله بذكرى النصر، وجاء حسنى مبارك خلفًا له.
وترك «مبارك» ملف الصحافة كما تسلمه من السادات، فظل رؤساء تحرير الأهرام والأخبار فى مواقعهم دون تغيير لقرابة ربع قرن.
حاولت تلك القيادات أن تثبت جدارتها، وبعد خمس سنوات من صعود مبارك إلى كرسى السُّلطة عاد «محمد حسنين هيكل» إلى الكتابة فى الصحف المصرية بعد 12 عامًا من الغياب، لكنه لم يعد إلى «الأهرام» وإنما إلى «أخبار اليوم» بناءً على دعوة من رئيس تحريرها «إبراهيم سِعدة» الذى جمع بينه وبين مصطفى أمين لأول مرّة منذ أكثر من ثلاثين عامًا.
أما مجلة «روزاليوسف» فقد قدمت فى حقبة الثمانينيات أغلفة جريئة، وعناوين قوية، وأفكارًا لامعة فى مواجهة الإرهاب الذى بدأ يطل برأسه، ويستهدف سياسيين، وفنانين، وصحفيين.
وفى تلك الفترة تألقت الصحف الحزبية ونافست الصحف الحكومية فى التوزيع والتأثير، وفى مقدمتها الوفد برئاسة تحرير مصطفى شردى، والأحرار برئاسة تحرير محمود عوض، والأهالى برئاسة تحرير حسين عبدالرازق، ومعه محمد سيد أحمد، وصلاح عيسى.
(6)
ومرت سنوات، وبدأت حقبة التسعينيات، وفى شهر فبراير عام 1990 صدرت مجلة «نصف الدنيا» برئاسة تحرير «سناء البيسى»، وطلب منها ثلاثة من جبابرة الكتابة أن تحجز لهم صفحات أسبوعية يكتبون فيها، وهم: الأول؛ الكاتب الكبير «أحمد بهاء الدين».
الثانى؛ الأديب العالمى «نجيب محفوظ».
الثالث؛ الأديب الكبير «يوسف إدريس».
وبعد أربع سنوات من صدور «نصف الدنيا» تصدرت مجلة «روزاليوسف» المشهد فقد كانت الأعلى سقفًا، والأكثر جرأة، وتنويرًا، وتوزيعًا فقد وصل توزيعها قرابة 100 ألف نسخة، وكان الكاتب الصحفى «عادل حمودة» نائبًا لرئيس التحرير، لكنه كان رئيس التحرير الفعلى للمجلة.
وقد قدّم الأستاذ «عادل حمودة» فى تجربته بـ«روزاليوسف» مجموعة كبيرة من الصحفيين الذين صاروا أساتذة بعد سنوات قليلة من بينهم «إبراهيم عيسى، ووائل الإبراشى، وعبدالله كمال، وعمرو سليم، وعمرو خفاجى، وإبراهيم خليل، وأسامة سلامة»، وغيرهم كثير.
وأول من حمل راية الجيل الجديد هو الكاتب الصحفى «إبراهيم عيسى» الذى أصدر صحيفة «الدستور»، وبدا وكأنه يعلن عن مَدرسة جديدة فى الصحافة، ويظهر وجه جديد للصحف الخاصة التى تصدر بترخيص أجنبى، فبدلًا من أن تطبع فى عددها الأول ثلاثة آلاف نسخة، تم طباعة 40 ألف نسخة نفدت جميعها.
(7)
وفى صباح يوم 28 مايوعام 1995 فوجئ الصحفيون بإصدار مجلس الشعب قانونًا جديدًا للصحافة، وتضمّن القانون العديد من المواد التى تعاقب الصحفيين بالحبس على اتهامات لم يتم ذكرها إلا فى عدد محدود جدًّا من دول العالم.
وفى مساء اليوم ذاته عقد مجلس نقابة الصحفيين برئاسة «إبراهيم نافع» اجتماعًا طارئًا لرفض القانون، وفى اليوم التالى دعت نقابة الصحفيين إلى جمعية عمومية طارئة للتصدى للقانون.
وبعد ثلاثة عشر شهرًا من الشد والجذب جاءت كلمة النهاية فى صباح يوم الأحد 16 من يونيو عام 1996، حين وافق مجلس الشعب على مشروع قانون بتعديل بعض مواد قانون العقوبات المتعلقة بجرائم النشر، وصدَّق عليه رئيس الجمهورية.
وبعد ثلاث سنوات، وتحديدًا فى يوم الثانى عشر من أكتوبر عام 1999 تم إبلاغ الدكتور «أحمد زويل» بحصوله على جائزة نوبل فى الكيمياء منفردًا.
وذهب الدكتور أحمد زويل لاستلام جائزة نوبل، بصحبة الكاتب الكبير «عبدالوهاب مطاوع» رئيس تحرير مجلة «الشباب» الذى أصر «زويل» أن يكون رفيقًا له فى رحلته؛ لأن «عبدالوهاب» كان أول من التفت إلى قيمته، وحرص أن يحرر الدكتور «زويل» بابًا ثابتًا فى مجلة «الشباب».
لكن لو لم يفعل «عبدالوهاب مطاوع» سوى أنه جمع فى تجربة واحدة الأساتذة: «محمود السعدنى، وأحمد رجب، وأنيس منصور، ومصطفى محمود، وأحمد بهجت، وسلامة أحمد سلامة، ونبيل فاروق، وأحمد خالد توفيق»، وغيرهم لكان هذا يكفيه ويكفينا.
(8)
لم تنتهِ حقبة التسعينيات فى موعدها، فقد امتدت خمس سنوات أخرى حتى عام 2005 حين صدر قرار بتغيير رؤساء تحرير «الأهرام، والأخبار، والجمهورية، وروزاليوسف، والهلال».
ولعل أشهَر من تم تغييرهم الأساتذة «إبراهيم نافع، وإبراهيم سعدة، ومكرم محمد أحمد» بعد أن قضوا فى مواقعهم قرابة ربع قرن، وكذلك «سمير رجب» الذى دخل معركة كبيرة مع الكاتب الصحفى «مصطفى بكرى» رئيس تحرير جريدة «الأسبوع» قبل سنوات قليلة كانت بمثابة تمهيدًا للإطاحة به من منصبه.
وبدأت الصحافة المصرية مرحلة جديدة، سواء فى الصحف الحكومية أو الخاصة، فالأستاذ «عادل حمودة» ترك جريدة «صوت الأمة» التى أعاد تأسيسها، وذهب ليؤسِّس جريدة «الفجر» بعد أن كان مرشحًا لرئاسة تحرير جريدة «الجمهورية»، وعاد الأستاذ «إبراهيم عيسى» بعد سبع سنوات لإصدار جريدة «الدستور» مرة أخرى لتتصدر توزيع الصحف الأسبوعية فى مصر.
وتولى الأستاذ «عبدالله كمال» رئاسة تحرير مجلة «روزاليوسف» ثم أعاد إصدار الجريدة الورقية اليومية بعد توقف دام قرابة 70 عامًا، وقدّم جيلًا جديدًا من شباب الصحفيين، وقبل عامَين تولى الأستاذ «رشاد كامل» رئاسة تحرير مجلة «صباح الخير»، وسار على درب أستاذه «صلاح حافظ».
لكن قبل عام من تلك التغييرات الصحفية تأسّست واحدة من أهم التجارب الصحفية، وهى جريدة «المصرى اليوم» برئاسة تحرير الأستاذ «مجدى مهنا»، لكنه تركها قبل أن تخرج للنور، ثم جاء بعده الكاتب الصحفى «أنور الهوارى» الذى لم يبق طويلًا حتى جاء الكاتب الصحفى «مجدى الجلاد» ليكون أكثر رؤساء تحريرها تأثيرًا.
ثم صدرت العديد من الصحف خلال تلك الفترة أشهرها «اليوم السابع» برئاسة تحرير خالد صلاح- الذى كان أول من انتبه لأهمية الصحف الرقمية- و«الشروق» بمجلس تحرير مكون من الأساتذة الكبار «سلامة أحمد سلامة، وحسن المستكاوى، وجميل مطر، وهانى شكر الله»، ومعهم «عمرو خفاجى».
لكن تلك المرحلة لم تدم سوى خمس سنوات فقط رغم أن تأثيرها كان عميقًا، فبمجرد أن حدثت ثورة 25 يناير 2011 تغيرت الأحوال تمامًا، وتغير رؤساء تحرير غالبية الصحف والمجلات، ودخلت مصر مرحلة جديدة لم تعرفها طوال تاريخها.