الأربعاء 6 أغسطس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
ناصر وحليم والسعدنى: مجلس قيادة ثورة «عبدالحليم» الغنائية  "الحلقة 1"

ناصر وحليم والسعدنى: مجلس قيادة ثورة «عبدالحليم» الغنائية "الحلقة 1"

ونحن أطفال صغار كنا أختى هالة وأنا من عشاق هذا الجهاز العجيب الذى جاء به الولد الشقى السعدنى الكبير «تليفزيون نصر».. فقد حدث أن اتصل بالسعدنى ذات صباح الأستاذ كامل الشناوى وذهبا معا لشراء التليفزيونات، ولكن تليفزيون «عم كامل» انفجر بعد يومين من التشغيل، وقرر الولد الشقى أن يغلق التليفزيون خوفًا علينا من أن ينفجر بنا هالة وأنا.



كان هذا الصندوق العجيب هو المتعة والنادى والونيس والسلوى والملجأ الدائم كلما أردنا الهروب من مآسى الدراسة والمدرسين، فى هذا الجهاز كانت السيدة أم كلثوم تطل علينا من خلال حفلاتها ونحن أطفال صغار، فنهجر التليفزيون ونبحث عن شىء آخر يجلب المتعة فإذا ظهر منافسها محمد عبدالوهاب صنعنا الشىء نفسه وأغلقنا الجهاز غير آسفين على الاستماع إلى رجل بدا بالنسبة إلينا أصلع الرأس يقف مثل التمثال ليس هناك أى تعبير على وجهه على الإطلاق، يغنى كلامًا لا يمكن للعقل أن يستوعبه أو يفهمه بالنسبة لأطفال فى سن الرابعة من العمر، ولكن آه لو ظهر هذا الفتى الأسمر بعيونه التى تتلون مع إحساسه وترتسم فيها البسمة، وكان له وحده طبيعة خاصة كتلك التى وصفها عمنا كامل الشناوى عندما تكلم عن عيون سعاد حسنى فقال: ليس لعينيها جفنان ولكن شفتان.. تبتسمان.

 

نعم، كانت عيون حليم هى مفتاح شخصيته وسر جاذبيته فإذا تكلم عن الحب تسرح فى تلك العيون فتجد بساتين العشق قد اخضرت وأنبتت ما يبهج القلب ويسعد النفس وإذا غنى للحبيب وصده وتقله.. تشعر بانكسار حسه والحزن الساكن فى إنسان عينه، وآه لو تبسم له الحظ ورضى عنه الحبيب سوف ترتسم ابتسامة الهنا كله على محياه، وما أعظم ذلك السحر الذى أسبغه المولى عز وجل على ابتسامة عبدالحليم حافظ ابتسامة ليس لها نظير فى عالم الطرب ولا فى دنيا الفنون إذا ضحك انتقل فيروس السعادة ليغزو قلوب عشاقه من المحبين.

مع هذا الفنان الفريد من نوعه عشنا هالة وأنا قصة حب مع العندليب نفرح لفرحه ونشقى لبؤسه ونتعذب لمرضه ويحدث لنا انشكاح ما بعده انشكاح إذا تكلم مع أبونا الجميل «السعدنى الأكبر» فى ذلك الجهاز العجيب التليفون «المحطوط» الذى كان فى حاجة إلى شيال من بتوع محطة مصر لكى ننقله من الصالون إلى غرفة نوم السعدنى إذا اتصل به أحد أصدقائه، وكنا نمنى النفس بالآمال نرقبها.. هالة وأنا لكى تكتحل العيون برؤية أسطورة عصرنا عبدالحليم.. وذات مرة وجدنا السعدنى هالة وأنا نتبادل السباب فظن أن معركة على وشك أن تنشب فتدخل لكى يخمد النيران قبل أن تشتعل وإذا به يكتشف أن هالة وأنا نوجه جام غضبنا على أم كلثوم.. فسألنا إيه الحكاية؟ فقلنا له بقالنا ساعتين كل ما نفتح التليفزيون نلاقيها فى وشنا هى ح تسكن فى التليفزيون النهارده ولا إيه.. ويومها اندهش السعدنى من هذا السلوك العجيب وسألنا: أمَّال انتوا مستنيين مين.. فقلنا فى نفس واحد: عاوزين عبدالحليم.. فضحك وقال: يا ولاد الكلب.. وعلمنا أن السعدنى فى هذا الوقت كان غاضبًا وبشدة من عبدالحليم حافظ، فقد كان بيتنا أشبه بصالون ثقافى يلتقى فيه كل أحباب السعدنى مرتين على الأقل أسبوعيًا، منهم نعمان عاشور وحسن فؤاد وجمال كامل وفتحى غانم وعبدالرحمن الخميسى وزكريا الحجاوى وعباس الأسوانى ويوسف إدريس وكوكبة عجيبة من النجوم فى الفن والغناء، وحكى السعدنى عن غضب الشاعر الكبير كامل الشناوى من حليم وسأله الحجاوى بعد أن استمع إلى أسباب غضب كامل بيه.. فقال السعدنى: لو أى مخلوق زعّل زكريا الحجاوى ح أزعل أنا كمان وعمنا كامل الشناوى نفس الشىء.. ومع الأسف لم أستطع أن أقف فى هذا العمر المبكر على أسباب زعل كامل الشناوى من العندليب.. وقد حدث أن توفى العم كامل وظل الحال على ما هو عليه.. بل إن البعض تطوع وألقى على مسامع حليم بعضًا من حديث السعدنى، وهنا اندهش العندليب وقال:

«أنا لن أغضب لأن السعدنى صديق أيام الصعلكة».. وقد حكى السعدنى عن اللقاء الأول.. وقد شهد كازينو بديعة وكان الأشهر هذه الأيام لقاء مجموعة من أهل الفن الكبار أو هؤلاء الذين أصبحوا كبارًا بعد ذلك، كان أشهرهم فريد شوقى الذى بدأ نجمه يلمع بشدة، فى هذا المكان كان يغنى محمد فوزى فى بداياته وترقص «ببا عزالدين»، ومن بين رواده كان جلالة الملك فاروق ملك مصر والسودان.. وهناك كانت أيضا جلسة أحد أعظم شعراء مصر عمنا كامل الشناوى.

وذات يوم وأصحاب المواهب العظيمة كل منهم فى مكلمته.. أى يتكلم فى ضيوفه باعتبار أن الكلام فن وموهبة وصناعة.. وفى لحظة صمت ربما اقتنصها بموهبة وذكاء معجونين بالدهاء خرج صوت ملائكى بين الحضور، لم يستطع أحد أن يعود إلى المكلمة لا المتحدثين ولا المستمعين، فالكل تحول إلى سميع.. جذبهم صوت ساحر قادم من أعماق أحزان الشعب المصرى، تشعر أنه صوت آلة الـ«كمان» وليس صوت إنسان! هكذا وصف السعدنى هذا الصوت.. وتأكد هذا الجمع من أصحاب الأسماء الرنانة أن صاحب هذا الصوت سوف يكون له شأن فى عالم الضوء مادام سيطر على حواسهم واستولى على أسماعهم، فما بالك إذا سمعه آحاد الناس، والشىء العجيب أن الكلام بدأ بعد قليل، ولكن محور الحديث كان عن صاحب الصوت الذى فرض نفسه، فصمت له الجميع احترامًا.. قالوا هذا صوت مصرى أصيل نظنه صوتًا قادمًا من عود أو ناى أنبتته الأرض الطيبة المباركة على ضفاف ترعة فى نيل مصر.. وقال آخر هذا صوت رعشة وترية غير بشرية لعلها صادرة من آلة أحسن الصانع أوتارها كما لو كانت ستلعب عليها أنامل مطربة تعزف وتغنى فى بلاط هارون الرشيد.

منذ ذلك اليوم أصبح هذا الفتى النحيل الجسد والذي يملك وجها طفوليًا شديد البراءة امتزجت معه سمرة الوادى مع عذوبة النهر مع شموخ نخيله أقول أصبح له بين الكبار مكان.. ولم ترتفع هذه المكانة بفضل الصوت وحلاوته فقط ولا الإحساس وروعته وحسه ولا ذكائه الذى لا مثيل له، ولكن لأن القدر لعب هو والحظ لصالح هذا الفتى القادم من أعماق الريف المصرى اليتيم الذى نشأ نشأة تجبر أصحاب القلوب العصية القاسية على أن يعشقوه حتى لو كانوا من كفار قريش.. لعبت الطبيعة لعبتها مع الفتى المحظوظ ومهدت له الطريق نحو المحبة والعشق والمكان المخملى الذى أصبح ينتظر هذا القادم ليتولى القيام بثورة على العهد القديم ورموزه التى ثبتت أركانها بأوتاد من حديد.. وقد وضعت الأقدار فى طريقه كل أسباب النجاح وكل الأدوات المطلوبة من أجل القيام بالثورة على الوجه الأكمل.

وتكون مجلس قيادة الثورة الناعمة من أحد عباقرة فن التلحين محمد الموجى الذى يشبه شجرة الجميزة لا وجود لها خارج الأرض المصرية وأيضا عفريت، بل شيطان الألحان والرجل الذى سوف يرتقى أعلى درجات المجد.. مع أنه تقدم الصفوف زميلاً للعندليب.. أى نعم بدأ رحلته كمطرب وهو عبقرى مصرى آخر إنه بليغ حمدى. 