الأربعاء 8 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

عماد الدين.. عندما تحوَّلت المقاهى إلى مسارح مفتوحة

قبل 100 عام، عاشت مصر بمجتمعها عالمًا آخر يختلف بشتى تفاصيله عما تعيشه الآن، وكلما مرّت سنوات وعقود يزداد ارتباط المصريين بماضيهم، حتى وإن كانت حياة الكثير منهم لا تستطيع أن تعكس هذا الارتباط بشكلٍ كبير. وخلال السنوات الأخيرة كشفت لنا اهتمامات ومنشورات المصريين على الإنترنت أن كل واحد منهم لديه فى قلبه ألبوم من الصور القديمة لمصر فى زمنٍ لم يكن ينتمى إليه، وخاصةً مدينة القاهرة التى تضم واحدًا من أكبر المتاحف المفتوحة.



لا ينقطع الحديث أبدًا عن هذه المنطقة مهما تعاقبت الأجيال.. مقترحات ومشاريع كثيرة أُعدت خصيصًا من أجل إنقاذها واستغلالها، قليلًا ما تم تنفيذه وكثيرًا ما يُنتظر تحقيقه على أرض الواقع، ولعل من أبرز شوارع المنطقة ثراءً من حيث التاريخ والمعمار هو «عماد الدين»، الذى الذى لا يمكن أن تفنى قصصه ورواياته مهما كُتب عنه، ورغم رحيل معظم نجومه الذين صنعوا أمجاده.

«روزاليوسف» كانت هناك ذات يوم.. حاضرة وشاهدة على أحداث وكواليس هذا الشارع، سواء من خلال روزاليوسف المجلة التى انطلقت عام 1925 كمطبوعة مهتمة بالثقافة والفنون -حين كانت مصر تعُج بالمسارح والكازينوهات- أو من خلال الأعمال المسرحية التى قامت ببطولتها السيدة فاطمة اليوسف أو كما اشتهرت بـ«روزليوسف»، ومن هنا نستطيع أن ندوّن عن عماد الدين وهو الذى كان مقصدًا لجميع فئات المجتمع من أصغر عامل، إلى أعلى سلطة فى الحكومة المصرية وتحوَّلت مقاهيه إلى مسارح مفتوحة.

فى ثلاثينيات القرن الماضى، نشرت مجلة الكواكب «فى إصدارها القديم» تقريرًا حول زيارة مصطفى النحاس باشا رئيس الوزراء فى عهد الملك فؤاد لشارع عماد الدين، ليس بصفته مسئولًا ذهب لافتتاح منشأة أو تفقُد منطقة عمل، وإنما كمتذوق للفن أراد أن يستمتع بوقته بمشاهدة فيلم «عندما تُحب المرأة»، والذى كان يُعرض للمرة الأولى فى دار عرض سينما رمسيس أحد رموز شارع عماد الدين قديمًا، وهو العمل الذى أنتجته السينمائية البارزة آسيا. حضر النحاس العرض برفقة صديقه مكرم عبيد وعبّر لآسيا عن شديد إعجابه بالعمل.

وحتى طلعت حرب باشا لم تغب أقدامه عن شارع عماد الدين، وهو الاقتصادى التاريخى لمصر والمعروف باهتمامه بالفنون منذ بدء إطلاق مشاريعه الوطنية قبل نحو 100 عام، وبجوار عماد الدين على بُعد أمتار كان لحرب باشا مكان مُفضل فى حديقة الأزبكية، حيث اعتاد أن يلتقى أصدقاءه ويتبادل معهم أحاديث الليل. وامتدت علاقة حرب بعماد الدين على كل المستويات، إذ كان اسمه حاضرًا بشكلٍ كبير منذ منتصف عشرينيات القرن الماضى فى أحاديث وخطابات نجوم عماد الدين، يطالبونه بأن يظل داعمًا للفنانين وأعمالهم، وقد شرعت السيدة روزاليوسف -وهى أشهر نجمات عماد الدين- فى أحد مقالاتها بالمجلة إلى تحويلها خطابًا مفتوحًا لطلعت حرب باشا، تُذكره بوعوده التى كثيرًا ما أعلنها بشأن الفن ونجومه عام 1926.

فى هذا الخطاب قالت السيدة روزاليوسف: «حرام يا سيدى أن يظل جميع مسارح العاصمة تحت رحمة قوم اتفقت الكلمة على أن ليس لهم لا من تربيتهم ولا من قصر مداركهم ولا من البيئة التى نشأوا فيها، ولا من ماهية نظرتهم إلى فن التمثيل ما يؤهلهم للقيام بالمهمة العظيمة». 

البعض يعتقد أن أنشطة عماد الدين اقتصرت على العروض والمسارح والسينما فقط، لكن بالعودة إلى عدد «روزاليوسف» الصادر فى 27 من أكتوبر عام 1926، نجدها تتحدث فى أحد تقاريرها عن الصحفى البارز وقتها توفيق دياب، وهو الذى كان أحد أشهر كُتَّاب هذا العصر.. وجاء فى التقرير أن دياب يُقدم بشكلٍ أسبوعى محاضرات تثقيفية على خشبة مسرح رمسيس أحد أقدم مسارح عماد الدين وأشهرها، وجاء آخر محاضراته بعنوان: «الإصلاح والمصلحون فى مصر»، وتحدث دياب فى كلمته عن الأمراض الاجتماعية فى مصر آنذاك، وقال: «إننا مصابون بمرض الراحة، نؤثر التغاضى والاستكانة على ما نتوهم أن فيه مصلحتنا، دون أن نكلّف أنفسنا عناء النظر فى شئون سوانا والاهتمام بمصالح البلد عامةً، وتلك هى الأنانية الفردية النفعية فى أحط مظاهرها».

لنفس المسرح لكن عام 1933، نشرت الكواكب صورة خلَت منها عروض الممثلين والمُطربين، لأن هذه المرة كان العرض رياضيّا، إذ توسط الصورة مختار حسين وهو يستعرض قوّته فى بطولة «الربع» التى كانت تُقام على خشبة مسرح رمسيس ليتنافس 4 من رافعى الأثقال على اللقب وسط حضور جماهيرى كبير.

وعام 1935 انطلقت فى مصر حملة كبيرة ضد أعمال البغاء، تناشد الشباب والمجتمع بمحاربة كل أشكال الدعارة والتى كانت مُقننة فى ذلك الوقت، ومن بين أشكال الترويج لهذه الحملة تقديم أعمال تمثيلية على مسارح الجمهورية، وأبرزها مسرح برنتانيا فى عماد الدين، وذلك عن طريق تمثيل روايات مثل «العاهرة» التى كتبها سيد الجمل، ومن تمثيل أعضاء معهد التمثيل الشرقى.

مقاهى عماد الدين القديمة لم تكن كمقاهى أى مكان آخر؛ إذ إنها كانت عبارة عن مسارح صغيرة متفرعة من المسارح والكازينوهات الكبيرة.. عليها جلس رواد الفن المسرحى فى بداياتهم، من الكسار إلى إسماعيل ياسين مرورًا ببديعة مصابنى ويوسف وهبى والريحانى وأمينة رزق.. جلسات فنية تحوّلت بعض جدالاتها إلى روايات مسرحية، وفى أوقاتٍ أخرى إلى معارك عنيفة بين الفنانين وبعضهم البعض.

فى عددها الصادر يوم 19 يوليو من عام 1926، نشرت مجلة المسرح إحدى أشهر مجلات ذلك العصر، تقريرًا -أعزّ عليها نشره- تناول معركة كبيرة حدثت على مقهى «بريتانيا» أمام مسرح رمسيس فى عماد الدين بين 5 فنانات: «بهية أمير، مارى منصور، دوللى أنطوان، ليللا، وزينب صدقي» واشتعلت المعركة بسبب نعت بهية أمير لمارى منصور بكلمة «خدّامة»، والتى استفزت الأخيرة وجعلتها لا تتردد أبدًا فى ضرب بهية بالأيدى وسط الشارع، واتسعت المعركة عندما حصل كل طرف على مؤيدين يدعمونه ويضربون الطرف الآخر، إلى أن وصل الأمر للشرطة والتى عملت على حلّ الخلاف.

كما نشرت «روزاليوسف» فى أحد أعداد فبراير من عام 1935، تقريرًا حول مشاكل الإفلاس التى عانت منها مقاهى عماد الدين آنذاك، والسبب يعود إلى اعتياد الكثيرين من رواد الشارع على الجلوس على المقاهى دون طلب مشاريب، ما يعنى أن تكون المقاهى مُكتظة ولكن دون أرباح من ذلك، ما دفع البعض لإغلاق المقاهى وبيعها.