امرأة فرعون: سيدة مصر الأولى
محمد نوار
الملكة أو امرأة فرعون لم يذكر القرآن الكريم اسمها باعتبار أن العبرة فى القصة وليست فى الأسماء، وحسب الروايات التاريخية اسمها ''إست نفرت''، وفى التفاسير اسمها ''آسية بنت مزاحم'' زوجة فرعون مصر الذى طغى وادعى الألوهية فى زمن النبى موسى عليه السلام.
وقد جاء ذكرها فى القرآن مرتين، الأولى عند تبنيها للطفل موسى، والثانية باعتبارها مثالاً فى مواقفها ليتعلم منها المؤمنون من الرجال والنساء.
مدخل: تبدأ قصة النبى موسى عليه السلام وهو طفل حين أوحى تعالى إلى أمه حتى تنقذ حياته من الموت ذبحاً على يد جنود فرعون: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى..) القصص7 .
وتكشف الآيات فى سورة القصص عن استبداد فرعون واستضعافه لبنى إسرائيل يذبح أبناءهم ويغتصب نساءهم، وفى المقابل تكون نجاة المستضعفين وإهلاك فرعون وجنوده عن طريق طفل كان من المفترض أن يلقى مصيره المميت بما ينتظره من قرار الذبح الفرعونى: (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) الشعراء ,18 ولكن التدبير الإلهى يجعل فرعون نفسه هو الذى يقوم برعاية الطفل وتربيته: (..وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) الأنفال .30
مشهد (1) الأم: ويبدأ تنفيذ التدبير الإلهى بالوحى إلى أم موسى بأوامر ثم وعد من الله تعالى: (..أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى الْيَمِّ وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) القصص,7 ومع أن أمر الرضاعة معروف لا يحتاج لوحى ولكن الحكمة أن يتعود الرضيع على لبن أمه وعلى دفء أحضانها ليرفض غيرها بعد ذلك، ثم أمرها بأن تلقيه فى النيل ولأنه من الطبيعى أن تخاف من الفكرة فالوحى يطمئنها حتى تثق فى نجاة ابنها الرضيع.
وكان الوعد الإلهى لها بأن يرجع رضيعها لأحضانها حتى يكبر وتراه رسولاً، وأهمية إعلامها بما ينتظر المولود من مستقبل هو تأكيد الطمأنينة للأم ولتعلم أنه طالما سيكون ابنها رسولاً فإن الله تعالى لن يتخلى عنهما وما عليها إلا أن تتوكل على الله.
ثم يقول تعالى: (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) القصص10 -,11 فقد أرسلت أخته لتعرف أخباره فعلمت أنه رفض المرضعات بعد أن تعود على صدر أمه، وهنا تقترح الأخت تقديم أمه كمرضعة: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ. فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) القصص 12- 13
وفى القرآن الكريم تبدو كلمتى الأم والوالدة بنفس المعنى، مع أن الإنسان يمكن أن يكون له أكثر من أم، أم والدة وأخرى أم مربية، وقد تجتمعان فى امرأة واحدة، ولأنه من الفطرة عدم الزواج بالوالدة فقد جاء تحريم الزواج خاص بالأم: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ..) واعتبار المرضعة أماً مع أنها ليست والدة ووضعها مع محارم الزواج: (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ..) النساء23 وكذلك زوجات النبى: (..وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ..) الأحزاب 6 فزوجاته عليه الصلاة والسلام باعتبارهن أمهات المؤمنين فقد دخلن ضمن محارم الزواج: (..وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا..) الأحزاب 53 .
فمن الناحية المادية لابد للمولود من والدة، ومن ناحية التربية والرعاية لابد له من أم: (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى) طه 38 فأم موسى كانت والدة بالولادة، وأماً بالرضاعة والرعاية، وكذلك امرأة فرعون كانت له أماً بالتربية.
مشهد (2) التبنى: حمل النيل الصندوق الموجود به موسى إلى قصر فرعون: (..فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) القصص ,8 ويصل الطفل إلى زوجة فرعون والتى جاء فى الروايات التاريخية أنها لم يكن لديها أولاد: (وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّى وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) القصص9 .
وكلمة قرة جاءت فى القرآن ثلاث مرات، مرتين بالتاء المقفولة تعبيراً عن راحة موعودة لم تتحقق بعد: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ..) السجدة ,..17 هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ..) الفرقان 74 ومرة واحدة بالتاء المفتوحة تعبيراً عن راحة تحققت: (وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ..) فامرأة فرعون وجدت طفلا ليس له أهل مما يجعلها تتبناه ويتحقق لها ما تريد.
فقد ألقى تعالى المحبة فى قلب آسية، فطلبت من زوجها الفرعون أن يستبقى موسى الطفل من بين كل الأطفال الذين يقتلهم ممن يولدون من بنى إسرائيل فى تلك الفترة، وبدون أن يشعر فرعون أصبح هو القائم على حماية موسى، وأصبحت آسية أما بديلة لموسى، ليتحقق ما كان فرعون وجنوده يخافون أن يحدث ولكن لا يمنع حذر من قدر: (..وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) القصص .6
مشهد (3) الدعاء: عندما دعا النبى موسى عليه السلام إلى توحيد الله تعالى آمنت به الملكة سيدة مصر الأولى وصدقته: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتًا فِى الْجَنَّةِ وَنَجِّنِى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) التحريم ,11 فقد أكدت فى دعائها على طلبها القرب من رحمة الله وذلك بتقديمها لكلمة (عِنْدَكَ) على عبارة (بَيْتًا فِى الْجَنَّةِ) والتى حددت مكان القرب من الله.
لقد وصف تعالى الملكة بامرأة فرعون، وكلمة المرأة جاءت من الأصل ''مَرَأَ''، وهى من المروءة بمعنى أن يكون فعل الإنسان من نفسه ولا يريد من ورائه جزاء ولا شكرا، ويتم ذكر المرأة فى القرآن فى الأمور التى فعلتها من نفسها مستقلة عن زوجها أو عن أبيها: (..وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ..) القصص 23 .
يؤكد ذلك أن آسية استقلت بإيمانها عن زوجها، وطلبها النجاة من فرعون وعمله حتى لا يشركها تعالى معه فى العذاب، وكذلك تطلب النجاة من المصير المنتظر لقومها الذين اتبعوا فرعون فى الكفر.
لقد جعل تعالى امرأة فرعون وهى أنثى مثلاً للمؤمنين من الرجال والنساء، فهى توضح مدى مسئولية الإنسان عن إيمانه الشخصى وبصرف النظر عن كفر وضلال من حوله من أقرب الناس إليه، فما دام قد عرف الفرق بين الحق والباطل فعليه أن يجاهد فى سبيل الحق حتى ينجح فى النجاة من العذاب فى الدنيا والآخرة.
فالسيدة آسية فى قصة النبى موسى عليه السلام تمثل نموذجا إنسانيا رائعا للمرأة المؤمنة والتى ليس لها أولاد ولكنها تملك حب الأم وحنانها، فأخلاق الملكة الراقية نقلتها من سيدة مصر الأولى إلى سيدة مصر المؤمنة، وقد استحقت ما جاء عنها فى قول النبى عليه الصلاة والسلام عن النساء الكاملات: «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران».