الرسول الحبيب(1-2)

داليا هلال
عائشة كانت تغار من طيف خديجة حتي بعد وفاتها.. ومن هوي زينب.. برغم ما تردده عن أنها زوجته الأثيرة!.. وقلبة (صلي الله عليه وسلم) فاض حنانا لزوجاته التسع
لم يذكر عن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب «صلى الله عليه وسلم» الكثير قبل النبوة، لكن صفاته الشخصية التى أجمع عليها الرواة فيما يخص تلك الفترة، أنه كان صادقا أمينا؛ رصين الفكر؛ راجح العقل؛ رقيق القلب؛ وفيا، فقد جمعت له مجامع الرجولة بغض النظر قليلا عن كونه رسول الله.
لقد كانت زوجه الأولى خديجة بنت خويلد من أشراف قريش وتاجرة ذات مال وذمة مالية منفصلة فيما يبدو عن ذويها، فكانت تستأجر الرجال لرعاية تجارتها وتضارب بمالها، ولما قيل عن محمد من حسن سمعة وخبرة فى التجارة مع جده وأعمامه، طلبت إليه الإشراف على قافلة لها بالشام مع غلام يدعى ميسرة، وقد فعل وزاد من ربحها أيضا، ولما حدثها غلامها عنه يبدو أنها أعجبت به.. فألمحت إلى إحدى صاحبتها التى تولت أمر «توفيق راسين» بين المستخدم البسيط وربة المال.
هذه العلاقة التى استمرت سنوات كانت فيها خديجة لمحمد «مؤسسة» اجتماعية واقتصادية وإنسانية كاملة، تركت أثرها على نبى الله، فبرغم ميل الرواة إلى ترجيح ثمة فارق فى العمر بين الزوجين لصالح الرجل الأصغر سنا، إلا أننا نلمح فيها «حالة» من الحب الحقيقى، وهو على الأرجح السبب الذى لم يجعل محمد الرجل يفكر فى الزواج من أخرى ربما كانت أصغر سنا وأكثر شبابا، ولعلنا بشىء من التفكير ربما لانكون قد تجاوزنا كثيرا إن اعتقدنا للحظة أنه ربما- أقول ربما- كان هذا باشتراط منها، هى صاحبة المال والأكبر سنا وأم أولاده أيضا فيما بعد، وهو فى كل الأحوال لا ينقص من قدر مشاعر محمد العميقة تجاهها، فإن كان عدم زواجه عليها فى حياتها وبعد فترة من وفاتها كان لحبه لها ووفاءً لذكراها فبها ورحبت.. وهو أقل ما ينتظر من نبى رسالته الحب والإخاء والسلام، وإن كان التزاما منه لعهد قطعه على نفسه معها فبها ورحبت أيضا.. وهو أقل ما ينتظر من رجل لقب بالصادق الأمين قبل نبوته حتى.
بعد وفاة خديجة عن أطفال وزوج ينوء بأعباء النبوة، جاءت خولة بنت حكيم إلى رسول الله تخيره فى الزواج، وقيل انها عرضت بعائشة، إلا أن الرسول عليه الصلاة والسلام رجح الصحابية «سودة بنت زمعة»، وكانت امرأة قد كبرت فى السن وتوفى عنها زوجها، وكانت معه من أوائل المهاجرين، وهى من أقارب النبى أيضا، وتزوجها لسنها ولقدرتها على رعاية بيته، ولعل نبى الله كرجل يحترم مشاعره وكأرمل عن امرأة كخديجة كان بحاجة «لفترة» من الوحدة والتأمل والتدبر فى كيفية تسيير شئون حياته بعد تلك التى كانت تديرها من الألف إلى الياء، لذا لم يتعجل الزواج من عائشة أو غيرها، وبحسب الروايات فإنه لم يخط خطوة تجاه الزواج من عائشة إلا بعد إن رآها- ورؤيا الأنبياء حق- ثلاثًا فى منامه، ورأى جبريل عارضا صورتها له على قطعة من الحرير قائلا إنها زوجتك فى الدنيا وفى الآخرة، وقيل فى الدنيا وفى الجنة، وقد ترك الرسول الأمر كله لتدابير الله سبحانه، وهو ما هيأه الله برغم ترجيح المصادر التاريخية إلى أنها كانت مخطوبة لمطعم بن عدى قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير أنه لم تحدد المصادر متى كان ذلك وما سبب فسخ الخطبة ووقته.
يقول عدد من علماء السيرة: إن تلك الزيجة جاءت لدعم روابط العلاقة الوثيقة بين نبى الله وخليله الصديق أبى بكر، وإن كان أغلبهم لا يعوّل على فارق السن فى هذا السياق باعتبار أن فارق السن- مهما كان- فى تلك المجتمعات آنذاك كان أمرا عاديا، لكن ما يهمنا هنا هو أن هناك إجماعًا على أن عائشة كان لها «عقل» و«قلب» امرأة مهما كانت حداثة عمرها، وأنها برغم ذلك وبنص حديثها:
«كنت ألعب بالبنات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنَّ يأتيننى صواحبى ينقمعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول صلى الله عليه وسلم يُسربهنَّ إلىَّ».
ومعنى الحديث أنها كانت تلعب بلعب الأطفال المجسمة مع صاحباتها، فإذا دخل صلى الله عليه وسلم عليهن اختبأن حياءً منه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ولكنه لرفقته ورحمته كان يلاعبهن ويدخلهن على عائشة، وقالت أيضا- رضى الله عنها- رأيت النبى صلى الله عليه وسلم يسترنى وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون فى المسجد، فزجرهم عمر- رضى الله عنه، فقال النبى صلى الله عليه وسلم «دعهم، أمنًا بنى أرفِدة» يعنى من الأمن، وفى لفظ قالت: «لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم على باب حِجرتى، والحبشة يلعبون بِحِرابهم، فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم- يسترنى بردائه، لكى أنظر إلى لعبهم، ثم يقوم من أجلى حتى أكونَ أنا الَّتى أنصرف، أى أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يتركها تشهد لعب الأحباش وتستمتع به، وفى بعض الروايات أنه كان يحملها على كتفه حتى تراهم بوضوح، ويسألها إن فرغت فتقول لا، بينما هى فقط مستمتعة بحمله لها، وتريد لـ«ضراتها» أن يسمعن تدليل النبى لها.
النبى عليه الصلاة والسلام كان يحب عائشة فعلا، وكانت هى تعمد إلى إظهار ذلك بكل السبل، فى حضرته هو شخصيا، وأمام سائر نسوته، وأمام الغريب والقريب، وكانت تتيه بهذا، وفى الواقعة التى ترويها كتب السيرة عن لسان عائشة نفسها، فإن أزواج النبى صلى الله عليه وسلم كن قد أرسلن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (أبيها)، «فاستأذنت عليه وهو مضطجع معى فى مرطى «لحافى أو إزارى) فأذن لها، فقالت: يا رسول الله إن أزواجك أرسلننى إليك يسألنك العدل فى ابنة أبى قحافة وأنا ساكتة، قالت: فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أى بنية ألست تحبين ما أحب»، فقالت: بلى، قال: «فأحبى هذه»، قالت : فقامت فاطمة حين سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرجعت إلى أزواج النبى صلى الله عليه وسلم فأخبرتهن بالذى، قالت وبالذى قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن لها ما نراك من شىء فارجعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولى له إن أزواجك ينشدنك العدل فى ابنة أبى قحافة ، فقالت فاطمة: والله لا أكلمه فيها أبدا»، والرواية لم تنته عند هذا الحد، فقد انتخبت امهات المؤمنين منهن السيدة «زينب بنت جحش»، لإرسالها إلى مخدع عائشة وزوجهن فى حضرتها ليعلمنه بنفس المطلب، فاستأذنت- أى زينب- على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع عائشة فى مرطها على الحالة التى دخلت فاطمة عليها وهو بها فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله إن أزواجك أرسلننى إليك يسألنك العدل فى ابنة أبى قحافة، قالت: ثم وقعت بى فاستطالت على وأنا أرقب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرقب طرفه هل يأذن لى فيها، قالت فلم تبرح زينب حتى عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكره أن أنتصر، قالت فلما وقعت بها لم أنشبها «أى لم أمنحها فرصة أو أمهلها» حين أنحيت عليها «أى حين ناقشتها وعارضت قولها»، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبسم «إنها ابنة أبى بكر».
فى سياق زهو عائشة على شركائها فى النبى ذكرت عن نفسها عشر خصال اختصها الله بها:
لم ينكح امرأة أبوها مهاجران غيرى، لم ينكح بكراً قط غيرى، وجاء جبريل بصورتى من السماء فى حريرة وقال: تزوجها فإنها امرأتك، وكنت أغتسل أنا وهو فى إناء واحد، ولم يكن يفعل ذلك بأحد من نسائه غيرى، وكان يصلى وأنا معترضة بين يديه، ولم يكن يفعل ذلك بأحد من نسائه غيرى، وكان ينزل عليه الوحى وهو معى، ولم يكن يفعل ذلك بأحد من نسائه غيرى، وقبض الله تعالى نفسه وهو بين سحرى ونحرى، ومات فى الليلة التى كان يدور على فيها، ودفن فى بيتى، وأنزل الله عز وجل براءتى من السماء، تقصد فى حادثة الإفك.
الحق أن خديجة كانت بكرا كما ترجح المصادر، وأنها كانت لابن عمها الحبر ورقة بن نوفل، غير أنه لم يتم الزواج وظلت بكرا على الأغلب حتى زواجها من محمد فى سن متقدمة، وذات مرة عصفت الغيرة بعائشة فقالت للنبى مغاضبة «أبدلك الله خيرا منها- تقصد خديجة»، فغضب عليه الصلاة والسلام، وقال والله ما أبدلنى خيرا منها، وعدد مناقبها وأفاض فى وصف أفضالها عليه حتى إنه ذكر أكثر من مرة أن الله منحه منها الولد، والمعروف أن عائشة لم تنجب له أولادا، وطلب منها أن تستغفر لخديجة حتى يسامحها، فلم تكررها عائشة بعدئذ أبدا، بل كانت تسابقه إلى ذكر خصالها.
الموقف نفسه تقريبا تكرر مع زينب بنت جحش، وهى ابنة عم الرسول أصلا، وكانت تاجرة جلود ميسورة الحال جدا، وجميلة بشهادة نسوة عصرها، ولما أسلمت كانت تنفق وتتصدق من حر مالها وتخرج من بيتها للعمل بنفسها، وهى كانت زوجة لزيد مولى النبى الذى تبناه ومنحه اسمه ونزلت فيه آية التبنى، وبعيدا عن التفاصيل التاريخية التى يصيب بعضها ويخطئ أكثرها، فإن النبى قد رآها وهى فى عصمة زيد، ويبدو أن شيئا منها- كرجل- قد وقع فى نفسه، وطلقها زيد لاستحالة العشرة بينهما، ولم يتزوجها النبى وكتم مشاعره تجاهها، حتى نزلت فيها الآية «فلما قضى زيد منها وطرا...»، وهى الآية التى من الثابت أن عايش- كما كان يدللها النبى- علقت عليها معاتبة زوجها «وأنى لأرى ربك يسارع فى هواك»، فكانت زيجة النبى من زينب تحديدا من أكثر زيجاته التى رفضتها عائشة وتصدت لها بشدة، إذ يبدو أنها بحس المرأة استشعرت ميلا من رجلها لها، وهى من هى، عائشة؛ عايش التى فور أن دخلت بيته تخلت لها زوجته الأولى سودة بنت زمعة عن يومها، فكأنها هنا الزوجة الوحيدة.
ولعل عائشة أيضا بعد أن استشعرت ثمة عتاب من الله سبحانه وتعالى نفسه لنبيه على كتمان مشاعره مخافة غضب أزواجه فيما يخص زينب طليقة زيد، آثرت أن «تطويها» تحت جناحها بحس المرأة، فما انفكت تذكر محاسنها حتى أنها قالت عنها يوم أوفدنها زوجاته «أنها الوحيدة التى كانت تسامينى - أى تضاهينى- منهن فى المنـزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أر امرأة قط خيرا فى الدين من زينب وأتقى لله وأصدق حديثا وأوصل للرحم وأعظم صدقة وأشد ابتذالا لنفسها فى العمل الذى تصدق به وتقرب به إلى الله تعالى.
بين تسعة من النساء بينهن امرأة كعائشة- هى وحدها جملة نساء- كان النبى الرجل يعدل، وان كان قلبه لم يغبن من توفت عنه حقها، ومن اختارها من بعدها.