دولة «تُجرّم» ارتداء «الجينز»
عنوان مقالى هذا كان ضمن معلومات فى كتاب استفزنى بشكل إيجابى للكتابة عنه؛ ليس لأنه من تأليف شاب عشرينى يكتب عن بلد زاره وهو فى الخامسة عشرة من عمره ومكث به عامًا كاملًا هو وأسرته عندما رافقوا رب الأسرة الذى عمل ملحقًا عسكريًا بهذه الدولة، لكن الغريب فى الأمر هو ذاك المخزون الحى الذى ظل بعقله لم يبارحه طوال خمسة أعوام حتى خرج ذلك للنور فى كتاب يحمل عنوان (بلاد خارج إطار الزمن) للشاب الباحث بالفطرة والذى يبشر بحالة واعدة من الإبداع بحق ودون أدنى مجاملة… عندما أهدانى (أحمد وليد السيد) كتابه منذ أسابيع قليلة نظرت للعنوان وقلت له هل هذا كتاب فى أدب الرحلات، فأجاب بنعم، وسألته ما هو نوع دراستك؟ فقال أدرس حقوق إنجليزى، ولكنى أحب الكتابة والقراءة وشغوف للمعرفة منذ صغرى، انشغلت بأشياء عدة ثم عكفت أقرأ الكتاب حتى انتهيت منه فى حوالى ساعتين من المتعة والمعلومات والتحليل عن شعب وبلد (كوريا الشمالية) وبعد القراءة رأيت أننى أمام باحث (انثروبولوجى) متخصص فى علم الإنسان وعاداته وتقاليده والتأثير والتأثر بينه وبين بيئته الذى طبعها ببصمة خاصة جدًا … قام الكاتب بعمل وصف دقيق لحالة شعب يعيش حالة تجربة خاصة يُسخِّر فيها كل إمكانياته حتى لا يعود إلى سنوات الحرب؛ سواء الأولى التى تحرر فيها من الاحتلال اليابانى عام 1945 أو الحرب المدمرة التى علّمته الكثير والتى كانت مع أمريكا فى أعوام من 50 : 1953 وولّدت لديه كرهًا لأمريكا وشعبها وكل ما يتم بصلة لها حتى وصلت إلى تجريم ارتداء الجينز لأنه موضة أمريكية ومنع مأكولات مطاعمهم الشهيرة، ولا تجد لهذا المنتج أثرًا يذكر بأسواقها. ويصف لنا أحمد كيف تقوم الدولة بإعداد وتنشئة هذا الشعب منذ مراحل حياته الأولى بالمدرسة فتأجيج الشعور الوطنى القومى ملازم للشخصية لا يبارحها قط، وهذا الشعور ليس تحية علم وخطبًا حماسية تجعلهم يجهشون بالبكاء ولكنها أيضا فى تقديس الزعماء الحكام لهم بدرجة لا يتصورها أحد؛ حتى إنهم قاموا بتحنيط جثامين المتوفين منهم ووضعهم فى متاحف فاخرة مُزيّنة بالذهب رغم أن الشعب يعيش حالة تقشف غير عادى لكنهم يَرَوْن أن الزعماء يستحقون هذا وأكثر فهم من جلبوا لهم النصر وهم ليسوا أشخاصًا ًعاديين بل لديهم قوى ومواهب خارقة حتى إن الزعيم الأكبر (كيم إيل سونج) وهو جد الرئيس الحالى (كيم جونج إيل) قام بكتابة دستور البلاد بمفرده ودون تدخل من أحد ويرونه مشرعًا عظيمًا ومؤسس كوريا الحديثة، والأكثر أنهم يضعون فى إحدى المدارس خريطة لخط سيره عندما ذهب لزيارتها وجعلوا المدرسة متحفًا مفتوحًا للزيارة … هذا الشعب النابغ فى العلوم الطبيعية والهندسة من أجل صناعة سلاح يحميه ويكون رادعًا لمن يفكر فى الاعتداء عليه، خاصة تطوير النووى وصناعة الصواريخ، يعشق بجانب هذا الزهور بكل أنواعها، ولديه زهرته المفضلة (الاوركيدا)، ولديه مسارح وفنون كثيرة ومتنوعة يعشقها ويحبها من الصغر جنبًا إلى جنب فى إعداده كمواطن قومى ملتزم، هذا الشعب الذى يفتخر بذاته وقادته وتاريخه يحتفظ بالزى التقليدى (الهانبوك) الذى ترتديه النساء بألوان مبهجة فى المناسبات، إنه شعب بشوش رغم مشقة الحياة والعمل. هذا الشعب ذو الزِّى الموحد قميص أبيض وبنطلون اوجيب أسود حسب الجنس لا يشكو، يعمل ويجل ويفخر، يمتلك قصورًا يستخدمها متاحف لتخليد أعماله، شعب لا يؤمن بأى دين فالزعماء هم الآلهة بكل ما يصدر عنهم. وفى روايات الكاتب (أحمد وليد) عن هذا الشعب أجد أن بيننا وبينهم متشابهات فى الأحداث وذلك عندما ذكر قذف الأمريكان قنابل على مدرسة أطفال فتذكرت (مدرسة بحر البقر التى قذفتها إسرائيل عام 1969 بمساعدة أمريكا وقتلت أطفالنا) وهم يتفاخرون بالانتصار العظيم على دولة بحجم أمريكا ونحن كذلك فحرب 73 لم تكن مع إسرائيل بمفردها ولكنها معها بكل قوة أمريكا … يعتبر الكاتب أن كوريا الشمالية هى آخر الكيانات الشيوعية الباقية، وأنها دولة لديها جهاز مراقبة على المواطنين والمقيمين طوال الـ24 ساعة ودون مواربة، حتى إنهم يدخلون المنازل وأصحابها بالخارج ويتركون الأبواب مفتوحة ليعلموا قاطنيها أنهم قاموا بالتفتيش علاوة على التنصت، ولا يتركون مجالًا للتواصل مع الأجانب إلا بحدود وفى مجال العمل فقط، هذا الشعب الذى يملك من الحدائق العامة الكثير، هناك قلة منهم يعيشون حياة منعمة إلى حد ما إنهم كريمة أو صفوة المجتمع والذين ينتمون إلى حزب العمال الحاكم أو الذين حصلوا على شهادات علمية عليا . هذا الشعب وتلك الدولة فى عيد ميلاد الرئيس الحالى يمنحون طلبة المدارس فى أرجاء البلاد علبة حلوى فاخرة ويقال لهم إنها هدية من الرئيس فيفرحون ويشبون محبين لشخص رئيسهم الذى تربوا أن يجلوه ويقدروه، وهم يقومون بالاحترام للأشخاص الاًكبر سنًا، وجميعهم فتيات وفتيان يؤدون خدمة تجنيدية إجبارية بالجيش. الحقيقة لم أوف هذا الكتاب حقة لمساحة المقال ولكنه ملىء بالمفاجآت والمعرفة لثقافة وحياة شعب فى الشرق الأقصى من السلالة الصفراء التى اهتم بها علماء الأنثروبولوجيا مثل (أحمد وليد)، ولا يفوتنى أن أتوجه للقائمين على منتدى شباب العالم أن يقرأوا هذا الكتاب ويضيفوا كاتبه إلى المبدعين المتميزين من الشباب الذين يتمتعون بموهبة خصها بهم الرحمن.