الجمعة 15 أغسطس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

وديع إدوارد سعيد: لن أعيش فى جلباب أبى!

وديع إدوارد سعيد: لن أعيش فى جلباب أبى!
وديع إدوارد سعيد: لن أعيش فى جلباب أبى!


قبل 16 عامًا من الآن، مات إدوارد سعيد (1935 - 2003) ولا يزاله إرثه قيد الجدل والمناقشات العنيفة. فى المحاضرة التذكارية التى تنظمها الجامعة الأمريكية بالقاهرة سنويًا فى شهر نوفمبر، ذكرى مولد سعيد، حضر هذه المرّة وديع الابن. منظورٌ جديدٌ غائب ربما فى الميديا عن إدوارد سعيد فى طيفه العائلى، إدوارد الأبّ مع المفكّر، وازدواجية العربي/الأمريكى فى هويّة الأب والأبناء.
ومع ذلك؛ بدا وديع سعيد الذى يشغل مهام وظيفته البعيدة نسبيّا عن تعريف الأبّ، حيث يعمل أستاذًا للقانون فى جامعة ساوث كارولينا فى الولايات المتحدة الأمريكية، وصاحب دراسات عديدة فى القانون الدولى، واللجوء السياسى، وحقوق الإنسان؛ بدا حذرًا وتعمّد التطرّق إلى هذه الزاوية الشخصيّة والحسّاسة جدًا فى عُجالة ودون استفاضة توقّعها وانتظرها الجمهور الوفير الذى حضر المحاضرة مطلع الأسبوع الماضى.
وديع يؤرّقه كما نستنتج من حديثه أن يحمل ظلّ الأب ويتكلّم بلسانه أو نيابة عنه. وقال فى ختام محاضرته التى ألقاها بالإنجليزية من قلب ميدان التحرير إن أزمة التلقّى العربى لسعيد حتى اليوم، هى أن الجميع تعوّد الحكى بلسان إدوارد سعيد، والإغراق فى تفسير منهجه واستنطاق مواقفه، طوال حياته وبعد مماته، وأن هذا لم يحدث مع «الاستشراق» فقط؛ أطروحته الأكثر والأعنف والأقوى جدلًا حتى يومنا هذا. فى محاضرة ثانية، عن الحقوق، ألقاها منتصف الأسبوع الماضى، فى كلية الدراسات الإنسانية والاجتماعية بالجامعة الأمريكية، بدت حماسة وديع واستفاضته أكثر وضوحًا ورغبة فى الإعلان عن نفسها.
سنعرف من وديع الابن لاحقًا، أن والدته، السيّدة مريم قرطاس، تعمل حاليًا على تيسير الترتيبات والخطط لظهور ترجمة جديدة للاستشراق تتلافى الصعوبة والانغلاق فى الفهم والتقعّر الذى شاب الترجمة الأولى للنصّ. أما عن الدعوة إلى تبسيط منهج سعيد للنشء، كما طالبت إحدى الحاضرات فى سؤال طلبت توجيهه بالعربية؛ فكان ردّ وديع بالعربية المتقنة التى درسها وتعلّمها فى مصر: «أتصوّر أن شيئا كهذا لم يكن ليروق لوالدى لو كان بيننا». ثم أعقب: «وفى نفس الوقت لا يسعنى التكهّن بموقفه، ولهذا لا يمكننى الإجابة عن هذا السؤال، الأمر ليس بيدى».
لم يسلم وديع، مؤلف كتاب «جرائم الإرهاب: القانون والسياسة فى قضايا الإرهاب الفيدرالية»، بعدما فرغ من قراءة محاضرة قصيرة جدا وموجزة من جهاز الكمبيوتر المحمول عنْوَنها «إدوارد سعيد: تعاليمه والروابط الأسرية وغير ذلك»، من محاولات عديدة لاستحضار الأب الغائب جسديًا واستنباط مواقفه. سُئل وديع عن ماذا سيكون ردّة فعل الوالد المفكّر والنضاليّ من ثورات الربيع العربى لو كان شهدها، وماذا سيكون رأيه فى المظاهرات والاعتصامات الحالية فى بيروت - لبنان هى موطن رفات سعيد للآن حيث دُفن فى بلدة برمانا فى لبنان، فضلا عن والدته نصف اللبنانية - وهو السؤال الذى كرّر وديع سعيد فى الإجابة عنه نفس موقفه من إرث أبيه والتحدّث نيابة عنه. ولكنه أردف بأن إدوارد سعيد كان سينحاز قطعًا إلى الجماهير ومطالبها.
استعرض وديع فى عُجالة وتأمّل استعاديّ لم يخل من فكاهة لمواقف شخصية متفرّقة جمعته بوالده؛ فِكر إدوارد سعيد ورحلات متعددة قام بها معه فى الشرق الأوسط فى المرحلة الأخيرة من حياة والده. وحكى فى جملة واحدة كيف تبلورت مواقف إدوارد سعيد فى لحظات وظروف معينة: «كنت مشاغبا فأعاند نصائح الأب للولد الصغير بألّا أستزحلق حتى لا تنكسر قدماى مثلا، ولكنى لم أعارضه فى مواقفه الفكرية والإنسانية والسياسية، وإن كنتُ اخترتُ طريقا آخر، هو المحاماة».
طمح وديع إلى رصد العلاقة بين أطروحات سعيد ودوره كأبّ يُعلّم ابنه كيف يشقّ طريقه فى العالم، لكنه اكتفى بالاحتفاظ بما تركه سعيد الأب والمفكّر فى مكانٍ ومكانة تأمن لأفكاره بالصوْن دون المساس أو التعكير. وأكّد أنه شخصيًا لا يدرى لماذا وجد نفسه لا يرغب فى التورّط مع صورة الأب وأن يتمّ التعامل مع شخصه بناءً على هذه الخلفية، ابن إدوارد سعيد. الابن الذى يحمل الاسم ذاته للجدّ، والد إدوارد سعيد نفسه (وديع وليام إبراهيم سعيد). كان بديهيًا على خلفية كل ذلك إذن، أن تتوارى القضية والقضايا فى حديث وديع فى الجامعة الأمريكية.
نجلا، الشقيقة، ابنة إدوارد سعيد، كان لها موقفٌ معاكسٌ تماما، ومتورّطٌ أكثر مع الأب وسيرته وإرثه. وإن كانت على عكس شقيقها وديع، لم تستطع بعدْ؛ التماهى مع «الهويّة المزدوجة» للأبّ، وإلى الآن تعيش صراعا مع الهوّية العربية فيها. تتحدّث وتكتب بالإنجليزية فقط. تطرّق اللقاء بوديع فى أثناء محاضرته، إلى شقيقته. سألتْ إحداهن وديع لماذا يبدو سهلا على نجلا التعامل بتلك الحساسية مع إرث إدوارد سعيد والحديث عنه برحابة، وقد نجحتْ فى أن تجعلنا نقترب معها من الملامح الشخصية والعائلية أكثر مما تفعل يا سيّد وديع؟
لا يعرف! ربما علاقتها بالأدب والكتابة وخلفيتها الفنية، فنجلا ممثلة وكاتبة مسرحية ومؤسسة وعضوة فى المسرح العربى الأمريكى الجماعى «نبراس»، كل هذا سمح لها بهذه الانسيابية والتحرّر فى التكلّم والكتابة عن الأب.
كانت مُداخلة السائلة فيما يخص نجلا إدوارد سعيد، تُشير إلى نشاط الابنة على سوشيال ميديا المشتبك مع إرث الأبّ بلا دواعى الحذر والتخلّى اللذيْن يتّبعهما شقيقُها وديع، ربما على طريقة «لن أعيش فى جلباب أبى». كما أشارت السائلة كذلك إلى كتاب نجلا سعيد غير المترجم تحت عنوان «بحثا عن فلسطين.. النشأة المربكة بين عائلة عربية أمريكية» والصادر فى 2013. نعرف من سرد نجلا أن سعيد الأب من القدس الغربية، والأم لبنانية مسيحية من بيروت الغربية، «لذا فعائلتى مسيحية تقطن فى الجزء الخاص بالمسلمين فى بيروت، والشقّ الآخر من عائلتى عربى يقطن فى الجانب الإسرائيلى، وكأننا نخالف العرف السائد فى كل الأحوال. وكأننا فى حالة دائمة من الترحال. كأن الجميع يقولون لنا أنتم فى المكان غير الصحيح».
عودة إلى سعيد والابن المشاغب؛ الطموح واللغة العربية أو الروابط العربية بالعائلة. من المعروف أن حرب 1967 اقتلعت إدوارد سعيد من دائرة تركيزه الأساسى على الأدب الإنجليزى والأدب المقارَن، وتسببت فى ولادة ثانية له فلسطينيا وعربيا. وهو ما أعادت تذكيره للحضور الدكتورة فريال غزول أستاذ الأدب المقارن بالجامعة الأمريكية التى أدارت المحاضرة واللقاء بوديع سعيد. هكذا، وجد إدوارد سعيد نفسه يفكّر ويكتب بدافع من تجاربه العربية والأمريكية معا. فجدّد روابطه مع أفراد العائلة والأصدقاء الذين كانوا قد انضموا إلى الحركة الوطنية الفلسطينية. وفى سنة 1974، ترجم سعيد الخطاب الذى ألقاه ياسر عرفات فى الأمم المتحدة، قبل أن يقطع لاحقًا بحزم علاقته بعرفات. وكان قد التقى أوّل مرّة فى نيويورك الشاعر الفلسطينى محمود درويش، فى عداد الوفد الذى رافق الرئيس عرفات إلى اجتماع هيئة الأمم المتحدة.
رافق وديع ونجلا والدهما لأوّل مرّة عام 1992، فى أوّل رحلة عودة لفلسطين. «انخضّ إدوارد ورفض يفوت ع البيت» تقول الزوجة فى الفيلم التسجيلى. «حنين تلفّت كالّص حولى« كما قال محمود درويش.
وديع شابا يظهر فى الفيديو فى (لقطة أرشيفيّة) إلى جوار والده فى جولة حول منزل العائلة القديم. والأبّ يُشير بيده إلى هنا وهناك، مع رفيق ثالث من العائلة، ربما يُعرّف الابن على آثار بقيت من ذكرى الطفولة، أو يسأل عن أماكن غابت وأكشاك وبائعين هجروا المكان إلى وتركوه إلى آخر. لا يظهر وديع فى الفيلم يتحدّث عن الأب كما أخته ووالدته.
أمّا ما كتبه سعيد نفسه: «المنفى.. حقائق ولادتى، بعيدة جدّا وعجيبة. كما لو أنها عن شخص سمعت عنه، وليس عن شخص أعرفه. الناصرية.. بلدة أمى، القدس.. بلدة أبى، الصور التى أراها اليوم من تلك الأماكن، تُرينا البضائع الغذائية نفسها، نفس الناس يمرّون، يخفون الأسرار ذاتها، ويبحثون عن نفس النبوءات، لكن لا أتذكّر فى الحقيقة إلا القليل عن القدس والناصرية. قليلٌ لكنه يخصّنى. قليلٌ لكنه بعمق لن يتكرّر من الذكريات المحسوسة. إن فلسطين هى المنفى».
فى وديع أشياء كثيرة من والده المفكر الكبير، ليس الشبه أوّلها ولا الروح المرحة آخرها. الصبيّ إدوارد كان أيضًا فى طفولته «الولد الشقيّ» بالنسبة لأمّه. انتقل إلى مدرسة داخلية صارمة فى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1951، كان عمره بين الـ14 والـ15، بعدما طُرد من مدرسته فى الإسكندرية لأنه كان «يُعذِّب» - بالدارجة الفلسطينية - معلّميه ومعلّماته. بينما ورثت الابنة عاطفة والدها وحساسيّة مشاعره.
تظلّ صورة إدوارد سعيد، الأبّ والصديق إلى أولاده الذيْن يُعلنان دائما فى كل فرصة فخرهما بأبيهما. بينما تبدو تحفّظات وديع الابن تجاه سيرة الأبّ، وحرصه على المسافة التى رسمها بين طريقيهما، صورة من صور المقاومة، لما تحمّلته هذه الأسرة من كثير من الهجوم والنقد وربما الكراهية من المخالفين لإدوارد سعيد. وهى محاولة من جانب الابن، يمكن النظر إليها على جانب آخر، من رؤية أخلاقية جديرة بالاحترام. هذا الإرث الثقيل الذى يرغب وديع إدوارد سعيد فى الحفاظ عليه كما تركه والده من دون أن يُعكّره رأى أو استنتاج أحدٍ قريبٍ من سعيد ولو كان ابنه. إرث يريد أن يحميه ويتركه لشأنه ويفشل فى نفس الوقت فى مقاومته، تماما كما بدا مساء السبت الماضى، بتبديل تعبيرات وجهه بين الترحيب والانزعاج. 