الثلاثاء 10 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

صفحات «كارويكا» المجهولة !

صفحات «كارويكا» المجهولة !
صفحات «كارويكا» المجهولة !


- القاسم المشترك فى علاقتها بكل الحكام الذين عاصرتهم هو إصرارها أن تتصرف معهم دون حسابات المكسب والخسارة وقالت لـ«فاروق» إن الملهى مكان لا يتناسب مع مكانته كملك وواجهت «مبارك» بالحقيقة (الناس مش لاقية تاكل يا ريس)


أيام قليلة تفصلنا عن الذكرى العشرين لرحيل «تحية كاريوكا»، تلك السيدة التى توجتها موهبتها لتكون ملكة للرقص الشرقى، وتوجها المصريون أميرة على قلوبهم، ولعل المكانة الكبيرة التى نالتها فى قلوب عشاقها  لم يكن سببها موهبتها فقط، بل مزيج من حكايات ترددت هنا وهناك عن شجاعتها و«جدعنتها»، وجرأتها فى الحق، مهما كانت مكانة من تواجهه، وفى ظنى أن عثور الكاتب الصحفى «محمد توفيق» على مذكرات «كاريوكا» التى كتبها لها رائد أدب الجاسوسية «صالح مرسى»، وصدورها مجموعة فى كتاب مطلع هذا العام بمناسبة مرور عشرين عاما من الرحيل ليس من قبيل الصدفة، فالمذكرات لا تروى فقط سيرة راقصة ثائرة على القيود، كما أنها لا تعكس فقط حال الفن والفنانين فى زمن كان فيه شارع عماد الدين هو المُصَدر الأول للنجوم، لكنها تحكى سيرة مصر على امتداد ثمانين عاما، شهدت خلالها أحداثا سياسية، وتغيرات اجتماعية، كانت «تحية» شاهدة عليها، وجزءا لا يتجزأ منها، وهو ما جعل كتاب «محمد توفيق» الذى يحوى مذكراتها وأجزاء آخرى عكف الكاتب على التحقق منها من مصادر مختلفة، مخاطبا للعقل، وجاذبا للقلب، حيث يبحث كلاهما فيما طوته صفحات الكتاب فيحاول العقل أن يستوعب كل هذه المواقف والأحداث التى جعلت من «تحية» سيدة تمتلك كل هذه الصلابة  بينما يرق القلب أمام كل ما عانته من مصاعب وآلام، جعلت منها نصيرا للمقهورين والضعاف.
> رحلة شاقة
ما المجهود الذى بذله «محمد توفيق» عندما قرر نشر مذكرات نشرت قبل قرابة نصف قرن مسلسلة على صفحات مجلة الكواكب بخط كاتب فى قيمة «صالح مرسى»؟ ذلك أن «مرسى» كتبها بعد فترة من التردد  استمرت لأكثر من ثمانى سنوات بدأت فى نهاية الخمسينيات عندما قالها لها لأول مرة (نفسى أكتبك) وانتهت بعد أن سجلا سويا عشرين ساعة من الحكايات والأسرار؟ كان هذا السؤال يهاجمنى كثيرا قبل الشروع فى قراءة الكتاب، ولعل هذه السطور فرصة لأن أعتذر للكاتب عن هذا السؤال الذى يحمل بين طياته ظنا سيئا، فالكتاب لا يقتصر على جمع المذكرات فقط، حيث احتوى الربع الأول منه على كثير من المواقف، والأحداث التى عاشتها «كاريوكا»، لكنها لم ترد فى المذكرات التى ختمها «صالح مرسى» بسؤال (هل يستطيع أحد آخر أن يمسك الخيط، ويكمل الطريق؟)  وهو السؤال الذى كان دافعا لإكمال القصة التى توقفت أحداثها مطلع الخمسينيات، فأبحر الكاتب داخل أرشيف ملىء بحواراتها الصحفية، والتليفزيونية، والإذاعية، وعثر فى طريقه على يوميات كتبتها بنفسها، وقرأ بعض الكتب التى تناولت سيرتها، واطلع على أحاديث المقربين وعلى رأسهم نجلة شقيقتها الفنانة «رجاء الجداوي»، حتى يسد ثغرة اقتصار المذكرات على سيرة «تحية» كراقصة فقط، حيث تجنبت مع «صالح مرسى» الحديث عن معاركها السياسية، وتجاهلت أيضا الحديث عن قصص الحب التى عاشتها، والأزواج السبعة عشر الذين تزوجتهم، أما السبب الأهم الذى يعلى من قيمة هذا الكتاب فهو أن المذكرات نفسها كانت مختفية، واحتاج العثور عليها رحلة طويلة من التنقيب بين أرشيف مكتبة الإسكندرية، ودار الكتب والوثائق، وسور الأزبكية، وسور السيدة زينب، حتى اكتملت المجموعة، وفى السطور التالية نختار بعض الحكايات الاستثنائية التى وردت فى كتاب (مذكرات كاريوكا) نحاول من خلالها أن نختصر سيرة عطرة تمتعت بها هذه السيدة على مدار سنوات عمرها الثمانين.
> حكايتها مع الرؤساء
ملك و4 رؤساء عاصرتهم «تحية»، كانت لاتزال تخطو خطواتها الأولى فى عهد الملك «فاروق»، والرئيس «محمد نجيب»، اشتد عودها ونالت شهرة واسعة فى الرقص والسينما فى عهد الرئيسين «جمال عبد الناصر، وأنور السادات» بينما كانت (حاجة) تخطت الستين فى عهد الرئيس «مبارك»، ورغم اختلاف المراحل العمرية فى كل عصر، فإن القاسم المشترك فى علاقتها بكل الحكام الذين عاصرتهم هو إصرارها أن تتصرف وفق ما يمليه عليها حدسها دون حسابات المكسب والخسارة، فعلى سبيل المثال يحكى الكتاب عن واقعة حدثت عندما كانت ترقص فى أحد الملاهى الليلية، ولمحت الملك «فاروق» جالسا مع حاشيته، فأنهت فقرتها، وذهبت إليه تعاتبه وسط ذهول الحاضرين قائلة (هذا المكان لا يليق بملك مصر والسودان الأفضل أن تعود إلى قصرك) فأنصت لها الملك وغادر على الفور، الأمر الذى تكرر أيضا مع «السادات»، الذى عرفته تحية مطلع الأربعينيات، عندما كانت تساعد الفدائيين فى مواجهة قوات الاحتلال، وتخبئ من يلجأ لها فى بيتها، ومن بين هؤلاء الضابط «محمد أنور السادات» الهارب من السجن الذى أخفته عند زوج شقيقتها بالإسماعيلية، وعندما صار رئيسا والتقيا قال لها (أنا اشتغلت فترة مع زوج أختك) فردت (مع احترامى لك يا ريس أنت كنت هربان واحنا خبيناك) فصمت ولم يعقب، أما فى عهد «مبارك»، فلها العديد من المواقف الحاسمة، ومنها أنها التقته فى إحدى حفلات تكريم الفنانين عن أعمالهم، وحضرت يومها على كرسى متحرك لكبر سنها، فقالت له (يا ريس فيه ناس بتنام من غير عشاء) وعندما أخذ يتحدث عن زيادة المواليد، والكثافة السكانية أجابت (أنا ما أفهمش فى كلامك التخين ده، ماتبيتش حد من غير عشا يا ريس)
> حكايتها مع الحب
تزوجت «تحية» سبعة عشر رجلا، من بينهم ضابط، ومطرب، وسياسي، وممثل، ودبلوماسى، ومخرج، وطيار، ومسيحي ، ويهودي أشهرا إسلامهما من أجل عينيها، لكن الملفت للنظر حقا أن «كاريوكا» عاشت قصة حب ملتهبة مع الكاتب الساخر «أحمد رجب»، لكن «مصطفى وعلى أمين» تدخلا ليمنعا زواجهما، لأنهما كانا يريان أن «تحية» ستقضى على حياة «رجب» المهنية، فافترقا.
ومن بين كل الزيجات، كان اقترانها بزوجها الأخير الكاتب المسرحى «فايز حلاوة» هو الأطول، حيث استمر لمدة ثمانية عشر عاما، ولعل قصة نجاحهما سويا بتأسيس مسرح كانت هى بطلته ومصدر دخله معروفة للجميع، تماما كما كانت قصة خيانته وطرده لها من بيتها بالملابس التى كانت تصلى بها معروفة أيضا، فعاشت فى حجرة فوق سطح إحدى عمارات حى العجوزة، حتى قامت إحدى شيخات الأسرة الحاكمة بالكويت بشراء شقة لها أثثتها لها «فاتن حمامة» بما يليق بمكانتها.
> حكايتها مع أهلها
طفولة  معذبة عاشتها فى الإسماعيلية (بدوية تحية محمد على النيدانى) –اسم مركب-  خاصة بعد رحيل الأب، واضطرارها للعيش فى بيت أخيها لأبيها «أحمد»، وقد كان يعاملها بكل ما أوتى من قسوة، وقد حكت «تحية» فى مذكراتها أهوالا، بداية من المنع من الذهاب إلى المدرسة، والضرب المبرح وحلاقة الشعر، ومعاملتها كخادمة، وصولا إلى تكبيل قدميها بقيود حديدية منعا لها من محاولات الهروب المتكررة، التى نجحت فى إحداها وذهبت إلى شارع عماد الدين، باحثة عن الراقصة «سعاد محاسن» التى التقتها فى أحد أفراح الإسماعيلية قبل سنوات طويلة، وعندما رقصت أمامها داعبتها بقولها (تيجى معايا مصر) لكنها استقرت فى نفس الصغيرة كحلم ظل يراودها حتى حققته، أما الأم «فاطمة الزهراء» فقد كان لها مكانة خاصة فى قلب «تحية»، رغم أنها لم تمض معها سوى سنوات طفولتها الأولى، فقد عادت الأم إلى المنزلة بمجرد رحيل الأب، وكانت الزيارات بينهما مقطوعة بأمر من «أحمد»، ومع ذلك توضح المذكرات مدى الحنين الجارف الذى كانت تشعر به «تحية» لأمها حتى بعد أن احترفت الرقص، ذلك الحنين الذى كان يتنازعه شعورها بالخوف من أن تعرف أمها أنها امتهنت الرقص، ومع ذلك، استدعتها للعيش معها، بعد سنوات من الحرمان، وانتقلت الأم لتعيش مع ابنتها فى القاهرة وهى تظن أنها تعمل فى شباك تذاكر أحد المحلات.
> حكايتها مع الرقص
مشوار طويل ملىء   بالمحطات الصعبة سارت فيه «تحية» لتسيطر على مقاليد حكم دولة الرقص الشرقى، سأختار أن أتحدث عن محطة «بديعة مصابنى» معلمتها الأولى، التى يرجع إليها الفضل فى تكوين شخصيتها الفنية، لكن هذا لا يمنع حدوث صدامات عديدة بينهما، فـ «تحية» لا تقبل بالظلم، ولا ترضى بأن يشتم والدها، و«بديعة» زالفة اللسان، كثيرة العصبية، لكنها محبة لها  بصدق، فقد كانت علاقتهما أشبه بأم وابنتها، فقد عاشت «تحية» مع «بديعة» فترة فى منزلها فى حدائق القبة، وعرفت عن أزماتها وانكساراتها التى لم يكن يعرف عنها أحد، بل كانت شاهدة على محاولتها للانتحار بتناول جرعة كبيرة من الاسبيرين بعد مرورها بضائقة مادية تسببت فى الحجز على ممتلكاتها، وسببا فى نجاتها عندما منحتها كوب لبن قبل مجىء الطبيب الذى خاطب «تحية» قائلا (هو انت اشتغلتى دكتورة قبل كده) فى إشارة منه إلى أن اللبن كان هو العلاج الصحيح فى مثل حالة «بديعة».
مواقف عديدة وقفت فيها «بديعة» فى ظهر «تحية»، ومواقف قليلة خذلتها بها، ومنها على سبيل المثال يوم أن قصت لها «نرجس» والدة الراقصة «حورية محمد» أول بدلة رقص تمتلكها، حيث ظلت «تحية» لفترة طويلة ترقص رقصة جماعية وذات يوم قررت أن تغامر، وذهبت لمسيو «جورج» تطلب منه تفصيل بدلة لها بالتقسيط  بواقع ريال كل شهر، وعندما استلمتها استأذنت «بديعة» أن يكون لها فقرة بمفردها فى برنامج الملهى، والتى استقبلت بحفاوة لدرجة أن طلب جمهور الصالة تكرارها، وهو ما ترتب عليه فعلة والدة «حورية محمد» التى اعترفت بفعلتها أمام الجميع قائلة (أيوة أنا اللى قطعتها دى بتقلد بنتى) لكن «بديعة» أبت أن تضحي بـ(الفيديت) وقتها «حورية محمد» وقالت (خلاص بلاش ترقصى شرقي يا تحية). >