الأربعاء 30 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

سماسرة «العناية المركزة» على أبواب مستشفيات الحكومة!

سماسرة «العناية المركزة» على أبواب مستشفيات الحكومة!
سماسرة «العناية المركزة» على أبواب مستشفيات الحكومة!


هل جربت أن تجد عزيزا عليك على بعد خطوات من الموت؟، وقتها لن يكون بوسعك أن تدخر جهدا أو مالا حتى تنقذه بأى مقابل، تضيق الأرض بما رحبت، وتنظر للعالم من ثقب إبرة، وتتلخص أحلامك فجأة فى مجرد سرير واحد داخل غرفة عناية مركزة، ماذا لو أغلقوا باب الأمل فى وجك وتركوك تواجه شبح الموت وحدك؟
هنا قد تجد نفسك فريسة سهلة لشبكة من السماسرة نشرت أذرعها فى كثير من المستشفيات الحكومية، لتتاجر بالحالات الحرجة لحساب بعض المستشفيات الخاصة ومستشفيات بير السلم غير المرخصة، وهو ما تكشفه «روزاليوسف» من خلال التحقيق الذى اقتحمنا فيه هذا العالم الذى يديره من داخل المستشفيات الحكومية بعض العاملين بالاتفاق مع بعض الأطباء الذين يملكون تلك المستشفيات بالخارج وبعض رجال الأعمال.
خلال رحلتنا للبحث عن سرير فى غرفة رعاية مركزة داخل مستشفى قصر العينى، لم تكن المناديل المنتشرة فى طرقات المستشفى ولا ورق الطعام بجانب بقايا السجائر الملقاة على الأرض هى ما يشغلنا، كما لم يكن ما يهمنا الباعة المتجولين الذين يملأون أرجاء المستشفى لبيع العصائر والمياه المعدنية، والأطعمة الأخرى، وينادون على بضاعتهم بأصواتهم العالية أمام لافتات مكتوب عليها «الهدوء لراحة المرضى»، كل ما كان يشغلنا هو أن نعيش المعاناة اليومية التى تعيشها أسر مئات المرضى يوميا داخل تلك المستشفى.
أمام بوابة طوارئ الباطنة، طلبنا من أحد العاملين مقابلة طبيب بقسم الطوارئ، قلنا له: معنا حالة تعانى من جلطة بالقدمين تسببت فى أزمة فى عضلة القلب، وهى فى حاجة إلى دخول العناية المركزة، حسب التقرير الطبى المرفق معنا، وبعد اطلاع استشارى طوارئ الباطنة بقصر العينى على التقرير، رفض استقبال الحالة، وطلب منا التوجه إلى مستشفى آخر بالحالة، بسبب عدم وجود سرير خال بالرعاية.
هنا انشقت الأرض ليظهر أحد العاملين يقف عند بوابة طوارئ الحالات الحرجة، نصحنا بالذهاب إلى مركز خاص للأشعة، قلنا له: «إنه مركز أشعة، فما هو علاقته بالعناية المركزة»؟!؛ فكان رده: أن أحد العاملين بالمركز جاء منذ فترة وقام بتوزيع كروت بالأرقام الخاصة بالمركز بهدف إرسال المرضى الذين يحتاجون إلى رعاية إلى المركز، وتابع قائلا: المركز منذ فترة أصبح يستقبل الحالات وخصص 10 أسرّة للعناية المركزة.
بالفعل توجهنا إلى المركز المذكور ومقره بالسيدة زينب، وقابلنا شخصا يدعى «محمد حسين» أخبرناه أننا من طرف «عم ن» العامل بمستشفى قصر العينى، اتفق معنا على استقبال الحالة مقابل 5 آلاف جنيه تأمينا بالإضافة إلى ألف جنيه مقابل كل ليلة يقضيها فى العناية و800 جنيه مصاريف علاج ورعاية باليوم.
ما وجدناه فى طوارئ الباطنة تكرر أمام بوابة قسم طوارئ الجراحة والعظام بمستشفى قصر العينى، حيث التقينا اثنين من العاملين على تنظيم الدخول والخروج بالقسم، كانا لا يسمحان بدخول حالات المرضى وذويهم بالقسم، إلا بعد تقاضى مبلغ من المال نظير الدخول، وقال لنا أحدهما «اسألوا داخل مستشفى المنيل الجامعى على مكان بالعناية المركزة، لو مفيش ارجعولى تانى» وهناك اعتذر لنا أطباء العناية المركزة لعدم وجود سرير فى الوقت الحالى، وقال: اتركوا نسخة من التقرير ورقم تليفون، وسوف نضع المريضة على قائمة الانتظار، بمجرد وجود مكان بالعناية المركزة سنبلغكم...وتابع الطبيب قائلا: «لو الحالة مستعجلة اتصل برقم الطوارئ بوزارة الصحة هم سيوفرون لكم سريرا فى أى من مستشفيات العامة».
فى مستشفى المنيل قال لنا أحد العاملين بالتمريض: «لو معاكم واسطة من أحد الأطباء هنا سيوفر المستشفى لكم سريرًا على الفور»، مؤكدا أن أسرة العناية المركزة تتوفر للمرضى التابعين لدكاترة المستشفى، وأكمل: «النظام هنا معروف: كل مريض تابع لدكتور بعينه».
توجهنا مرة أخرى إلى قسم طوارىء الجراحة والعظام بمستشفى قصر العينى وأمام القسم وجدنا «ممدوح» الذى اتصل بأحد الدكاترة، قائلا له: «فى حالة محتاجة سرير بعناية»، رد الطبيب مستفسرا عن نوع الإصابة فتحدثنا إليه فطالبنا بالذهاب بالحالة إلى مستشفى خاص بجاردن سيتى، وأخبرنا أن شخصا اسمه «حسن» سيكون فى استقبالنا هناك.
 فى أحد شوارع جاردن سيتى وجدنا لافتة أعلى جراج عمارة مكتوبا عليها اسم المستشفى ولافتة أخرى تحمل اسم الطبيب «أ.ع»، إخصائى طب والفم والإسنان، زميل كلية الجراحين الملكية بلندن، وهو الأمر الذى أثار استغرابنا، فقد أكد لنا عامل مستشفى قصر العينى أن صاحب المستشفى استشارى بقصر العينى.
تجاهلنا رائحة المياه الكريهة التى تنبعث من العمارة التى يقع المستشفى بالدور الأرضى منها، ودخلنا إلى المستشفى الذى ينقسم إلى وحدتين سكنيتين متجاورتين إحداهما مخصصة للرعاية المركزة، والثانية تضم غرفة للاستقبال المرضى وغرفة مدير المستشفى.
بالفعل كان «حسن» فى استقبالنا، هو يعمل فى الحسابات، جلسنا معه فى غرفة صغيرة، للاتفاق على الأسعار، فقال إن علينا أن ندفع 3  آلاف جنيه كتأمين علاوة على 500 جنيه مقابل الليلة الواحدة، بالإضافة 300 جنيه نظير الأدوية ورعاية والمبلغ الأخير قابل للزيادة.
سألناه هل المستشفى مجهز لإجراء العمليات الجراحية فأكد لنا أن المستشفى يجرى عمليات عديدة كالقلب المفتوح، لأنه يضم أكبر أطباء مستشفى قصر العينى فى جميع التخصصات، وهنا قطع موظف الحسابات حديثه معنا وطالبنا بالانصراف قائلا: «لو عايزين حاجة ابقى خبطوا على باب الرعاية، لأن عندى حالة دخلت الرعاية ولازم أدخل»، وكان مدهشا أن محاسب المستشفى له حرية الدخول والخروج من وإلى غرفة الرعاية والتعامل مع المرض، سألناه: هل من الممكن أن ندخل للغرفة لنتمكن من معاينتها قبل قدوم الحالة؟! فأجاب: بالطبع، لكن بعد 10 دقائق.
بالفعل استطعنا دخول الرعاية التى كانت تضم 9 سرائر، ويشرف على المرضى طبيب واحد ويساعده المحاسب وعدد من الشباب الذين يتضح من هيئاتهم أنهم ليسوا أطباء أو حتى ممرضين، بعد تبادل الحديث مع الطبيب داخل شقة الرعاية عن طبيعة الحالة، واتفق معنا على استقبال الحالة بالرعاية دون الاهتمام باستلام التقارير الطبية الخاصة بالحالة.

فى مدخل العمارة وعلى درجات سلمها، وفى مشهد يكشف عن الضحية الأولى لتلك المافيا، وجدنا الطبيب الخاص بالرعاية واقفًا ويحيط به أربعًا من الرجال البسطاء الذين تكسو وجوههم علامات التوتر والقلق، حيث كانوا يستعلمون منه عن وضع حالة من الواضح أنهم جاءوا بها قبل ساعات قليلة لإلحاقها بغرفة الرعاية، وكان الطبيب يحاول طمأنتهم قائلا: «هتدخلوله تشوفوه بس فى فترة الزيارة».
انتظرنا انصراف الطبيب لنذهب إلى هؤلاء الأربعة، ونحاول معرفة تفاصيل وضع الحالة وغرفة الرعاية التى تم إلحاقها بها، لتبادر إحدانا بسؤالهم عن مستوى غرف الرعاية فى تلك المستشفى إذا كان لديهم تعامل سابق معه وأن لدينا حالة طارئة نبحث لها عن غرفة للرعاية، ليردوا قائلين: «إحنا لسة مش عارفين أى حاجة.. أبونا تعب جيبناه ودخل لسه أول يوم».
لنرد مستعلمين عن الطريقة التى وقع من خلالها اختيارهم لذلك المستشفى، ونتفاجأ بأنها نفس الطريقة التى جئنا بها، حيث قالوا: «إحنا جايين عن طريق واحد معرفة من مستشفى قصر العينى، بعد أن لفينا كعب داير بالحالة إلى أكثر من مستشفى من بينها الدمرداش وسيد جلال وعين شمس.. بنمسك فى أى أمل نلحق بيه حياة أبونا وننقذه»، موضحين أن جميع المستشفيات رفضت حالة والدهم الذى يعانى من غيبوبة كبد، بسبب عدم توفر مكان بها، ومعبرين عن دهشتهم الكبيرة حينما علموا أن سعر السرير فى الليلة الواحدة بغرفة الرعاية المركزة بمستشفى عين شمس التخصصى هو ثمانية آلاف جنيه، وهو سعر كبير بالنسبة لهم ولأى أسرة فقيرة أو متوسطة الدخل.
حالة والد هؤلاء الأربعة واحدة من آلاف الحالات التى تبحث يوميًا عن غرفة عناية مركزة بأروقة المستشفيات الحكومية، دون أن يصلوا لشىء لتصبح المستشفيات الخاصة هى أملهم الوحيد، هربًا من أن يكون الموت المحقق هو نهاية رحلة بحثهم.
 مساومة المرضى مقابل سرير الرعاية
 تتغير الحالات لكن الطريقة واحدة، إذ بدأت رحلة بحث شابين عن غرفة عناية مركزة بعد أن تعرض والدهما ذو العقد السادس من عمره إلى جلطة دماغية من منطقة فيصل فى محافظة الجيزة، لتنتهى فى حى المرج بشمال القاهرة والمستشفى التعليمى هناك، وكان مستشفى «قصر العينى» بطلًا فى رحلتهم أيضًا، ليوضحا: «ذهبنا هناك لنجد غرفة رعاية أو يقوم قسم الطوارئ بإنقاذ والدنا من الموت، ولكنا وجدنا أنفسنا أمام مساومة نتيجتها هى موته».
وأضاف الشابان: «الطبيب خيرنا بين الإمضاء على إقرار بأن والدنا سيأخذ حقنة لتفتيت الجلطة، والتى سيتسبب تأثيرها فى واحد من ثلاث مضاعفات جميعها سيئة، أولها هو الدخول فى غيبوبة، أو الشلل، وآخرها الوفاة، وأنه بعد ذلك سيقوم المستشفى بتوفير السرير للحالة، وفى حال عدم الإقرار وأخذ الحقنة لا يمكن توفير السرير».
رفض الأبناء الخيار الأول ليختاروا استكمال رحلة البحث، ليقابلهم أحد العاملين فى المستشفى ويقترح عليهم مساعدتهم عبر توفير سرير بمستشفى خاص، لكن سيقابلهم عائق وحيد وهو سعر التكلفة الذى قد يكون عبئًا عليهم، ليتجاوبا معه ويتممون الاتفاق بأن يذهبا إلى ذلك المستشفى، خاصة باعتباره الحل الوحيد لإنقاذ والدهم من تبعات تأخر علاج الجلطة، ويستطردا: «أبونا كان بيموت أودام عينينا ومرور الوقت مش فى صالح حالته».

توجهنا إلى قسم الطوارئ بمستشفى معهد ناصر، وسمعنا صراخات ذوى المرضى، وأصوات آلام المرضى الذين يتراصون على سرائر تحيط بكل سرير منها ستارة داكنة اللون، وبسؤال بعض أفراد طاقم التمريض عن الطريقة التى نستطيع من خلالها إلحاق مريض بغرفة الرعاية، أرشدنا إلى أحد المكاتب الموجودة إلى جانب الغرفة ولقاء الطبيب المسئول عن الطوارئ، وبالفعل ذهبنا له وعرضنا عليه تفاصيل الحالة المريضة، ليبلغنا بأن هناك زحامًا شديدًا فى قوائم الانتظار ونصحنا بالذهاب إلى أى مستشفى خاص لعدم توفر مكان فى معهد ناصر أو أى مستشفى حكومى أيضًا.
لم نستسلم إلى هذا الخيار ولكننا خرجنا إلى الممر الخاص بقسم الطوارئ لنتظاهر بحاجتنا الماسة إلى سرير بأى غرفة رعاية لإنقاذ المريض الذى بات يصارع الموت، لنجد البعض يدلنا على شخص يدعى «محمد»، مؤكدين أنه سوف يساعدنا على الوصول إلى مكان يتوفر فيه سرير بالرعاية المركزة.
ذهبنا إلى محمد الذى كان جالسًا على أحد المكاتب الصغيرة بجانب بوابة الطوارئ وقال لنا إنه سوف يرسلنا لأحد المستشفيات الخاصة وبأسعار مخفضة، ليطلب منا الانتظار قليلًا حتى يتواصل هاتفيًا مع شخص ويبلغه أنه سوف يرسل إليه ‏حالة تحتاج لغرفة عناية مركزة، لنجد منه حماسًا شديدًا ويطلب منا بيانات الحالة وبعض التفاصيل حول وضعها الصحى لإعطائها للشخص الذى يتحدث معه هاتفيًا، مؤكدًا بعد انتهاء حديثه معه على أن نذهب له بعنوان المستشفى فى منطقة السيدة زينب أيضا.
توجهنا إلى المستشفى التى دلنا عليها والموجودة فى إحدى العمارات السكنية، تدل عليها لافتة صغيرة، حيث يقودك السلم المظلم إلى الدور الأول لنجد المستشفى عبارة عن شقة مقسمة إلى عدد من الغرف، لم يستقبلنا أحد إلى أن دخلنا إحدى الغرف المدون عليها لافتة رعاية لنجد سيدة مُسنة نائمة على سرير فقط دون وجود أى أجهزة.
وتوجهنا إلى ابنتها التى كانت تجلس بجوارها لنسألها عن مستوى المستشفى ورأيها فى الخدمة المقدمة لهم، لتفاجئنا بعدم وجود أى خدمة، وأنهم ضحية لخداع أحد الأشخاص بعد أن نصحهم بالتوجه لتلك المستشفى قائلة: «لما جينا استغلوا استعجالنا لإنقاذ الحالة وتنتهى الإجراءات بشكل سريع دون أن نعرف شيئًا عن مستوى الخدمة، وتم وضع والدتى على سرير وتركوها داخل الغرفة، وكل بضع ساعات يمر الطبيب للكشف عليها».
جاء أحد المسئولين الذى لم تدل هيئته على أنه طبيب، ليسألنا عن سبب مجيئنا لنخبره بأننا جئنا من طرف «محمد» ونحتاج إلى سرير فى غرفة العناية المركزة، ويطلب منا التوجه لغرفة السكرتارية لإنهاء الإجراءات، لتشرح الفتاة الجالسة بالغرفة أن تكلفة اليوم ‏الواحد ثلاثة آلاف جنيه، بخلاف الأدوية التى سنشتريها من الخارج، مشددة على ضرورة تسديد الحساب كل يوم قبل العاشرة صباحًا، بالإضافة ‏إلى ترك مبلغ مالى تأمين لثلاثة أيام تحت الحساب بالإدارة المالية أى ما يعادل تسعة آلاف جنيه.