الجمعة 4 أكتوبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

سكوت ح نصور!

سكوت ح نصور!
سكوت ح نصور!


لم يكن الصمت الذى يعيشونه منذ أن قدموا إلى الدنيا إلا حافزًا ودافعًا للتألق فى مجال لو قلت لواحد من الأصحاء أن يتعلمه ويبدع فيه لاعتبر حديثك ضربًا من الخيال.
إنهم أصحاب الإعاقات السمعية من الصم والبكم، الذين تحدوا اختبارهم الإلهى وقرروا تعلم فنى صناعة السينما والتصوير الفوتوغرافى، بعد أن اعتبروا المجالين فرصة لـ«التعبير عن أفكارهم والتواصل مع غيرهم من أفراد المجتمع بدون مترجم أو لغة إشارة».
البداية
آمن المسئولون عن مبادرة «سينما فى كل مكان» بإمكانية تعليم فاقدى السمع أساسيات صناعة السينما، فأطلقوا فى سبيل تحقيق هذا الهدف مشروع «Deaf Film Lab»، والذى يهدف كذلك إلى تدريبهم على استخدام السينما بصفة عامة كلغة تواصل بينهم ومع المجتمع الذى يعيشون فيه، ووسيلة للتعبير عن طموحهاتهم وآمالهم.
فبعد النجاح الكبير الذى حققه «مختبر الصم للفنون البصرية والرقمية»، أحد مشروعات «سينما فى كل مكان»، والذى تضمن عقد ورشة لتدريب الصم على التصوير الفوتوغرافى فى الإسكندرية عام 2018، والاقبال الواسع من هذه الفئة على الورشة وتنظيم معرض لإبداعاتهم، قرر أصحاب المبادرة تدشين «Deaf Film Lab».
يشرح وجيه اللقانى، مؤسس ومدير المبادرة، الأساس الذى يقوم عليه المشروع بقوله: «Deaf Film Lab مبادرة غير ربحية تأسست فى العام 2018، واستطعنا من خلالها اكتشاف القدرات والطاقات الابداعية لدى شباب الصم، بعد أن وصلنا إليهم وعلمناهم صناعة السينما بأسلوب منهجى ومتطور واحترافى».
«الفكرة مصدرها شباب الصم أنفسهم»، حقيقة يؤكدها «اللقانى»، موضحًا: «كانوا يشاهدون مجموعة من الأفلام المستقلة، بعد أن ترجمناها بلغة الإشارة، وما أن شرحنا لهم أن هذه الأفلام من صناعة شباب مثلهم بإمكانيات بسيطة ومحدودة، طلبوا منا تدريبهم على تلك الصناعة».
وافق مسئولو «سينما فى كل مكان» على مقترح وطلب شباب الصم، وأعلنوا تدشين المبادرة وبدأوا مهمة نشرها، بداية من عقد لقاءات تعريفية بها وبأهدافها داخل مؤسسات الصم بالإسكندرية، وطرح مقطع فيديو تعريفى بلغة الإشارة، وصولاً إلى إعلان قبول متدربين للانضمام إلى الورشة الأولى.
الورشة
شارك فى الورشة 15 شابًا وفتاة من الصم، وذلك لمدة 24 يومًا متواصلة، بحد أدنى 6 ساعات فى اليوم الواحد، وفى بعض الأيام امتدت ساعات التدريب حتى 9 ساعات، ما يعكس الحماس الكبير بين المشاركين ورغبتهم فى التعلم، مع العلم بأن جميع المشاركين من الإسكندرية، وتدربوا خلال الورشة على السيناريو والتصوير والإخراج والمونتاج.
وبعد الانتهاء من التدريب، بدأ شباب الصم مرحلة الإنتاج الفعلى للأفلام، وتنظيم عروض خاصة لها، ومحاولة توزيعها فى السوق السينمائية، فى إطار دمجهم فى سوق صناعة السينما فى مصر والمنطقة العربية، باعتبارهم صناع سينما محترفين.  
يوضح «اللقانى»: «أنتج المشاركون فى الورشة 3 أفلام قصيرة، تتراوح مدة كل منها بين 4 و6 دقائق، ولم يتدخل أحد سواهم فى كل مراحل إنتاج الأفلام من تصوير ومونتاج وإخراج»، مشيرًا إلى أن هذه الأفلام «عبرت عنهم وعن أحلامهم وأفكارهم وتجارب حياتهم فى المجتمع كونهم من الصم، وننقل لنا عالمهم الفريد».
الفيلم الأول بعنوان «اللعبة»، ومدته 3 دقائق ونصف الدقيقة، وتدور قصته حول إحدى الألعاب الخاصة بالصم، والثانى بعنوان «مش فاهم»، ومدته 4 دقائق ونصف الدقيقة عن معاناة أحد شباب الصم كونه أميًا لا يجيد القراءة أو الكتابة، ما جعله لا يتكلم ولا يسمع ولا يقرأ ولا يكتب، والثالث باسم «صدفة»، وتدور أحداثه فى 7 دقائق حول لقاء مجموعة من الصُم مع أصم لم يتعلم لغة الإشارة بعد، فيدعونه للانضمام إلى عالمهم وتعلم هذه اللغة.
والممثلون كافة الذين شاركوا فى الأفلام الثلاثة من شباب وفتيات الصم، وكذلك مترجمى لغة الإشارة الذين عملوا على ترجمة المحتوى، وفق «اللقانى»، والذى يضيف «الهدف من تدريبهم هو إتاحة فن السينما للصم، ليس كمتلقين فقط وإنما كصناع أيضًا».
المشاركون
قال شباب الصم المشاركون فى الورشة التدريبية ومنتجو الأفلام الثلاثة، إنهم لم يواجهوا أى معوقات حالت دون إنتاج هذه الأفلام، وذلك لأن مسئولى «Deaf Film Lab» كافة، وفريق الورشة الفنى والإدارى، كان لديهم إصرار على نجاح التجربة، ما جعلهم يبذلون جهدًا مضاعفًا لتحقيق ذلك، مضيفين: «جميع ورش التدريب مجانية، ولا يتحمل المتدرب أى نفقات».
وبالعودة إلى مؤسس المبادرة وجيه اللقانى، وسؤاله عن الفئة العمرية المستهدفة قال: «نهتم بفئة شباب الصم من الجنسين، وذلك فى الفترة العمرية بين 15 و35 عاماً، بجانب التحضير لبرامج تدريبية خاصة بالأطفال تمهيدًا لتنفيذها فى الفترة المقبلة».
وحظت المبادرة بتشجيع عدة جهات مثل: «الصندوق العربى للثقافة والفنون- آفاق»، و«أتيليه الإسكندرية»، و«بساريا» و«السفينة» وغيرها، بجانب دعم وتشجيع عدد كبير من فنانى ومثقفى مصر بشكل عام والإسكندرية خاصة.
ويختتم «اللقانى» حديثه بالإشارة إلى وجود عدد محدود من الأفلام المصرية التى تطرقت إلى الصم، لكن لم يشارك أصحاب هذه الفئة فى كتابتها أو تصحيح أفكارها، وكانت تحمل وجهة نظر مؤلفيها ومنتجيها فقط، وهو ما تتجاوزه الأفلام التى يصنعها الصم من خلال «Deaf Film Lab»، لكونها تعبر عنهم وعن وجهة نظرهم الخاصة، ولا يتدخل أى أحد غيرهم فى جميع مراحل إنتاجها.
تقدر
قبل ما يزيد على 9 سنوات فى العام 2010، أطلق المصور صلاح الرشيدى مبادرة تحت عنوان «تقدر»، لتدريب ذوى القدرات الخاصة على التصوير الفوتوغرافى، والوصول بهم إلى مرحلة الاحتراف فى فن التصوير وتأهيلهم للمشاركة فى عدد كبير من المعارض الفنية، سواء كانوا من الصم والبكم أو أصحاب «متلازمة داون».
متى جاءتك تلك الفكرة؟ يجيب «عم صلاح»: «أحد أصدقائى طلب منى تعليم التصوير وكيفية استخدام الكاميرا لنجله الأصم، ونجحت بالفعل فى تعليم الفتى التصوير بكفاءة عالية، فقررت خوض التجربة مع مزيد من الأطفال ذوى الاحتياجات الخاصة».
«فيسبوك» كان طريقه الأسهل لنشر مبادرة «تقدر» وإعلان تفاصيلها، وساعده فى ذلك أصدقاؤه عبر نشر «بوستات» دارت معظمها حول فكرة: «من لديه ابن أو ابنة من ذوى الاحتياجات الخاصة ويرغب فى تعليمه التصوير فليتواصل مع المصور الصحفى صلاح الرشيدى، وحتى من ليس لديه فلينشر الإعلان بين جيرانه ومعارفه».
وبالفعل، استجاب كثيرون للإعلان وتقدموا إلى «الرشيدى»، حتى تجمع لديه فى الدفعة الأولى 37 متدربًا من الصم والبكم عام 2010، وبعد التصفية وصلوا إلى 12 شخصًا، ودربهم على موبايلات وكاميرات لا تتجاوز جودتها 3 ميجا فقط، ثم نظم معرضًا لإبداعاتهم فى «بيت السنارى».
وكانت البداية من دار الأوبرا المصرية، حيث اصطحبهم «الرشيدى» لتصوير عدد من العروض هناك، ثم انتقل إلى المعالم الأثرية المصرية المختلفة، فى صباح الجمعة من كل أسبوع، يجمع ابن الـ60 من عمره هؤلاء الأطفال والشباب فى منطقة أثرية معينة ويبدأ تعليمهم، وكل منهم ممسك بكاميرا أو موبايل، ومن هذه الأماكن «شارع المعز» و«مصر القديمة».
حنية حاسمة
«الأطفال عامة، وذوى الاحتياجات الخاصة تحديدًا، يحتاجون لرعاية واهتمام أكبر منا، لأنهم يستحقون أن يعيشوا بشكل طبيعى كغيرهم».. يعلق «الرشيدى» على مبادرته، واصفًا إياها بأنها «واجب» لهؤلاء الأطفال الذين وجدوا أنفسهم مختلفين -رغمًا عنهم- عن غيرهم من أفراد المجتمع.
ويوضح طريقته للتعامل مع ذوى الاحتياجات الخاصة قائلاً: «لا بد أن تجعل كل واحد منهم يحبك بشكل شخصى، حتى يطمئن لك ويعطيك ما لا تتخيل من حب وامتنان واستماع»، مضيفًا: «الأطفال معندهمش الأمراض البشرية زى الكره والكدب والنفاق، فلازم يرتاحوا للى بيعلمهم عشان يتأقلموا معاه ويتبعوا تعليماته بسهولة».
ويتذكر لقاءه الأول مع الأطفال، والذى كان «الأصعب»: «وقتها لم يكن لدى الخبرة الكافية للتعامل مع ذوى الاحتياجات الخاصة، ولم يكن لدى مكان مناسب للتصوير، حتى قررت الاتجاه إلى القاهرة الخديوية كمقر تصوير لي ولفريقى».
عدد المتدربين حتى الآن فاق الـ70 متدربًا، منهم من تمكن من العمل فى صحف كبرى، ومنهم من استقر فى العمل بالإخراج، وتتراوح أعمارهم بين 5 و32 عاماً، لأن «الرشيدى» لا يرفض أى متقدم مهما كان عمره.
حاول «الرشيدى» الحصول على فرصة للمنافسة بصور تلاميذه الصغار فى مسابقات الوزارات المصرية، لكنه لم يفلح، منتقدًا عدم الدعم الكافى لهم، ومقرًا -بنبرة حزينة- بأن المبادرة أصبحت تمثل عبئًا عليه، لأنه ينفق عليها من نفقته الخاصة، وإن كان بعض أصدقائه ساعدوه بعدد من الكاميرات مساهمة منهم فى المبادرة.
وعن مشروعه القادم يقول: «أتمنى إقناع الصحف والمواقع الإلكترونية بتوظيف المصورين من ذوى القدرات الخاصة بدون قلق، وأن يروا أعمالهم وليس إعاقتهم».
المصورون الصغار
فى تمام العاشرة صباح الجمعة الماضى، تجمع فريق «الرشيدى» فى منطقة «الغورية» لبدء مغامرة جديدة فى تعلم التصوير. بدأ «الرشيدى» يلقى تعليماته ودروسه، ثم تنقل بين الأطفال لرصد من وصلته المعلومة بدقة ومن لم يستعب.
ومن بين المتدربين اخترنا إحدى تلميذات «الرشيدى»، وتدعى نهى ربيع، والتى بدأت حديثها موجهة الشكر لأستاذها الذى تمكن من جعلها محترفة فى مجال التصوير والاخراج، رغم الصعوبات التى واجهتها، وكونها من فاقدى السمع.
تسترجع قصة إعاقتها قائلة: «لم يكن عمري يتجاوز الـ9 سنوات حين أُصبت بنزلة برد وارتفعت حرارتى وتوجه بى والدى إلى المستشفى لتلقى العلاج، وعن طريق الخطأ أعطانى الطبيب المعالج حقنة أفقدتنى السمع».
وتتابع: «التحقت بمؤسسة تعلمت بها فنون المسرح، وقررت أن أضيف لمسيرتى تعلم التصوير، ولجت إلى الأستاذ صلاح الرشيدى، الذى تتلمذت على يده لمدة 6 شهور، حتى تمكنت من احتراف المهنة وأبهرت أعمالى كل المتخصصين فى مجال التصوير والإخراج».