الإثنين 5 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

نساء محمود سعيد!

نساء محمود سعيد!
نساء محمود سعيد!


يتكرّر هذا المشهد كثيرًا.. تتمدّد نساء الفنان البارز محمود سعيد (1897 - 1964) أمام الطبيعة كما لو وُلدن من جديد.. تَحتلّ الواحدة منهن صدارة لوحة زيتية ناريّة بينما يغيب عن المشهد البشر بماديّتهم وأعبائهم.
جرىء هو محمود سعيد!.. وهذه الجرأة مع الاقتحام كان ملفتًا وغريبًا على سليل عائلة مرموقة فى الإسكندرية وابن رئيس الوزراء، ومثيرًا لكثير من التساؤلات: أين قابل سعيد موديلات لوحاته؟ ومن أين استقدمهن؟ هل كُنّ جميعهن من خادمات قصور العائلة؟ وكيف هجر (اللورد السكندرى)- كما يناديه أصدقاؤه الأجانب- قاعات المحاكم المهيبة ليتسكّع فى حارات وحانات حىّ بحرى يُراقب غانياته؟

هل يغمرك الفضول لرؤية موديلات سعيد فى صورٍ حقيقية؟ نعم فى أرشيف الفنان، الذى يُكشَف عنه كاملًا ولأول مَرّة؛ سنتعرّف على الوجوه الحقيقية لنساء محمود سعيد والقصص وراءهنّ.
المعلومات والصور مستقاه من «كتالوج ريزونيه» النسخة الإنجليزية الصادرة حديثا من إعداد حسام رشوان وڤاليرى ديديه هاس.
إثارة العواطف
«حميدة» بشفاهها الحسيّة، فاطمة ونبوية، فايزة وتوحيدة وحياة.. كلّ نساء محمود سعيد من العوام والطبقات الدنيا فى المجتمع المصرى، أو «نساء من الشعب» كما أحَبّ أن يُطلق عليهن. ساعدت هذه النماذج «سعيد» على الاقتراب والتواصل مع شعب بلده واستكشاف أصولهم ومعادنهم الحقيقية. التقط عمق «النُبل» فى فتيات أتين من أعماق الفقر.
وفى حين عادةً ما يُلهم الفنانَ جسمُ العارضة وميزاتُها إلّا أن محمود سعيد مالَ إلى تجسيد معنى ما وراء الجسد الأنثوى، فألبس عارضاته فى بعض لوحاته ملابس غربية عصرية، أعينهنّ الخاضعة المُحاطة بظلامٍ آسر وبشرتهنّ البرونزية، ثم هذا القناع الأوروبى فى الملبس الذى استخدمه عن قصد؛ كان دلالة على إصرار «سعيد» التمسّك بعرق هويّته الوطنية والمحلية على حساب الحداثة.
حكى «سعيد» ذات مَرّة أنه فوجئ بامرأة شعبية تنتظره عند باب المرسم، وألهمت دهشته بها فى لوحة أنتجها عام 1947، قَدّم فى تلك اللوحة تفسيرًا إنسانيّا موحيًا لملامحها المصرية المُعدَمة بدلًا من مجرد رسم صورة واقعية للعارضة. كانت هذه أقوى دلالة على أن عارضات «سعيد» كانت لديهن القدرة على إيقاظ عواطفه الفنية بينما يَقُدن إلهامَه.
فى رسالة كتبها إلى صديقه هنرى القيّم فى عام 1942، كتب أن اللوحة التى يرسمها لواحدة من هؤلاء تجعله يُدرك «الحاجة التى لا تقاوم للتعبير عن عالم كامل من الرؤى والأحاسيس»، وهذه الحاجة فى الحقيقة هى التى حرّكت شغف محمود سعيد بالفن.
فيما يتعلق بالرسم العارى، كان محمود سعيد يُوقّع على ظهر اللوحة باسم صاحبتها إذا كانت من المعروفات فى محيطه، ويترك أخريات مجهولات من غير توضيح اسمها إذا لم تكن ممن يعرفهن فى محيطه. تم التعرّف على العديد من النماذج النسائية المصوّرة فى لوحات محمود سعيد، فقط بأسمائها الأولى، عدا ذلك فإن العديد من صور العُراة أو لوحات «سعيد» للنساء العاريات لا تحمل أى إشارة إلى اسم العارضة، فمَرّة يكتب تحت اسمه عنوان اللوحة بالفرنسية: (امرأة) ومَرّة (فتاة) ومَرّة (عارية) ومَرّة (راقصة) ومَرّة (موديل) أو (بروفايل) أو ببساطة (فلّاحة).
الخطّ الجامع بين مجموعات الصور الأنثوية التى جسّدها محمود سعيد هو سعى الفنان إلى التقاط جَمالها الداخلى والخارجى. ويخترع لها خلفيات أحيانًا.
الأسطورة مصدر إلهام
رسم محمود سعيد عارياته من وحى المثيولوجيا.. فها هو ينحت جسد إحداهن بنسَب تُشبه أفروديت بجسم برونزىّ، عيناها لا تتطلّعان نحونا، بل إلى عالم مجهول لا نراه، ولا يُمكننا أن نرى ما تراه رُغم تفاعلنا مع عالمها. هذا الوجود الأنثوى المحاط بالطبيعة، هو اتجاه معروف فى الفن الشرقى، وبرز أكثر مع آلهة الجَمال وبطلات الأساطير فى التقاليد الغربية، هذا النهج الأسطورى فى خَلق علاقة بين المرأة والطبيعة.
ذكر «سعيد» فى حديثه مع الدكتور مصطفى سويف أن «لدىّ لوحات أرسمها من الذاكرة.. أستخدم فيها خيالى فقط». ومن هنا نكتشف أن قسطًا كبيرًا من وجوه «سعيد» النسائية فى لوحاته هى من وحى الخيال. أدخَل خيال محمود سعيد على لوحاته نماذج جديدة مستمدة من عالمه الأسطورى، نماذج قد لا يكون هناك مقابل لها فى الواقع.
وصف الفنان والناقد رمسيس يونان لوحة سعيد «ذات الجدائل الذهبية» 1933 بأنه بورتريه «لامرأة ذات خَدّين بارزين وجفون دائرية وشفتين غليظتين فاتنتين»، هذا الوجه المميّز بين رسومات «سعيد» يقود الناظر إلى عالمه الأسطورى، فيه تشويهٌ للجَمال الأنثوى لتحقيق إمّا الإغواء أو التعبير عن القهر أو حتى نقل الشعور الجارف بالروعة.
هذه واحدة من تكنيكات سعيد فى الرسم المثيرة للجَدل. تبدو المرأة فى هذه اللوحة صورة لمخلوق أكثر وحشية وغموضًا، امرأة ذات أصول مجهولة، بجَمالها البغيض ونظرتها الجريئة وأكتافها الضخمة، «تُجسّد إغراء الإناث الشيطانى والحيوانى فى آن» كما كتَب يونان.
فى لوحته الأشهر «القط الأبيض» التى رسمها عام 1939، تصوّر شابّات «بحرى» المُغنّجات. هذا الحىّ سيئ السمعة فى الأدبيات الاستشراقية، فى صورة منطقة الصيد الفقيرة بحاناتها الرخيصة والبحّارة المسلمين والصيّادين يتراصون لبيع السَّمَك، كانت تجوب فيه النساء من الطبقات الدُنيا والعاهرات.
فى لوحة «بنات بحرى» يظهر اعتناء «سعيد» بانحناءات الأجساد وخلفها الصيادون يدفعون أو يسحبون زوارقهم من وإلى الماء، مما يَخلق حركة فى التكوين. رسم محمود سعيد نسخة طِبق الأصل من هذه اللوحة إلى صديقه عزيز أماد، وأخرى فى نسخة مصغّرة لشاعر أرمينى.
فى هذين الإصدارين الزيتيّين للّوحة، قرّر «سعيد» إضافة القط الأبيض الغريب فى أقصى يسار أسفل الصورة.
يقف قط محمود سعيد فى أسفل لوحة «بنات بحرى» بمظهره المُغوى كحامٍ للمشهد وللصيادين وللناظرين من إقدام النسوة القاتلات وتِجوالهن المدلّل وبلا حساب فى المنطقة.
النساء هبة الطبيعة
وجْهٌ آخر لنساء «سعيد»، هو المُغويات المنغمسات فى هيئةٍ حسيّة مُلهمة داخل الغرف المغلقة. هنا تغيب الملامح الأسطورية، وتظهر الحسيّة وتعلو الأصوات الغريزية المتسارعة.
أجسادٌ عارية داخل منظر مفتوح على الطبيعة الحيّة.. هكذا تُحرّض لوحات محمود سعيد على اعتبار النساء هِبةً من الطبيعة الأم، وبيانًا فنيّا مُناهضًا للصورة المتزمّتة التى عزلت النساء بتروسٍ من المحرّمات عن أى محيطٍ خارج أسوار البيوت والحرملك، وحبست الجسد الأنثوى باعتباره القوّة المحرّكة للإغواء.
فى إحدى لوحاته؛ قدّم «سعيد» تمثيلًا أكثر جرأة وأشدّ غرابة للقروىّ المصرى فى تاريخ الفن المصرى؛ حيث تقف المرأة عاريةً بشكل صارخ فى وسط منظرٍ مفتوح على السماء والحدائق، كأنه وضَع عنصرًا غير مألوف فى مشهدٍ تقليدى للغاية. ففى الخلفية تقبع فلّاحات يملأن بهدوء «القُلَل» من النهر إلى جِوار بعض القوارب الشراعية ومآذن مساجدَ متراصة فى الأفق الأبعد، فى مشهدٍ ريفىّ مكتمل غير مُكترث بالعُرى المفاجئ لهذه المرأة.
لوحة تسترجع صورة حوّاء بطبيعتها البِكْر، كأنه نوى تحرير المرأة للعودة إلى حالتها الأساسية.. ابنة الطبيعة (الأم)، ذات الجَمال الغامض، والعيون الجاذبة والمشرقة تُبرز وتُضىء المشهد بينما يُبحر قاربٌ فى زاوية إحدى اللوحات مع لطمات أمواج البحر المستعرة تتقاطعها خطوط الرَّعد والبَرق، فكأن السماء تندمج مع الأرض كاشفةً عن «حورية البَحر».
حورية بحر حقيقية
شابة عارية الصدر ككتلة ضوئية، يحددها انعكاس الضوء والظلال، وتلمع على خلفية سماء زرقاء. هكذا عمد محمود سعيد إلى تصوير «توحيدة» فى بورتريه ولوحة باسمها.
صهر جسدها مع مشهد السماء لإبراز سحر الفتاة.
«توحيدة» امرأة من العوام، ألهمت سعيد لرؤيتها فى صورة «الحورية» تصعد وتتحرك بين الأمواج إلى الرمل. ظلت شخصية «توحيدة» تلهم سعيد فى كل لوحاته العارية، وتقودنا بدورها لعوالم ظننا أننا نعرفها عن سعيد وما تلبث تفاجئنا.
السرّ وراء تشابه موديلاته
اختار «سعيد» نماذجه لتعبِّر باستمرار عن الجَمال الحاضر. لهذا يُمكن تفسير التشابه بين موديلاته، فجميعهن مشتركات حتى فى مظهرهن الجسدى، عدا بعض لمسات «سعيد» الخاصة، يظهر هذا من اختلاف وصفه لـ(هاجر) فى روايته الشفهية عنها وبين لوحته لها. لقد حوَّل «سعيد» هاجر هذه إلى «سيّدة خارقة ذات نظرة واثقة من نفسها تحمل روحَىَّ الطبيعة: الخلود والدمار على حد سواء».
على غرار ذلك تستلقى بطلات محمود سعيد العاريات، فائضات بالحيوية والسحر وكاشفات عن مزاج مُنفلت، والصورة الأبدية للغريزة.
هى أيقونة حبّه الأول، التى حفّزته على خَلق وإنتاج فنّ رائع. نساء لسن معطاءات كنساء بوتيتشيلى، ولا ينغمسن فى الراحة مثل نساء إنجرس ولا تلفّهن أحلام اليقظة مثل أحلام روفاييل. نساء محمود سعيد مخلوقات قويّات الإرادة ولا يُهزَمْن، تسير دماء الحياة فى أوردتهن، لسْنَ مذنبات كنساء ماساكيو.
إنهن يعرضن بفخر طبيعتهن الترابية الإنسانية، ومع ذلك فلا تغمرهن زينة واضحة كما نساء تيتيان، ولا يتّسِمن بالطبع بالبرودة مثل نساء تينتوريتو أو عبيد روبنز. تتقاسم امرأة «سعيد» مع الطبيعة قوّتها وشَرّها، ليست دُمية ساذجة مثل فتيات فرانسوا بوش، وفى الوقت نفسه ليست شابة مرحة تتمتّع بملذّات الحياة مثل نساء فريجونارد ورينوار.
ليست واحدة من فتيات بيكاسو الزرقاوات الهزيلات، لكنها المرأة ذات البشرة البرونزية من لفح الشمس الذهبية الجنوبية وكأن جسمها مدبوغ بالطين المحترق. امرأة «سعيد» خفية مثل امرأة جويا وقوية مثل امرأة مايكل أنجلو.
الفنُّ فِعلُ خَلْقٍ
كان تصوير «النموذج» العارى بمثابة تدريبٍ أكاديمى ضرورى لدراسة الفن فى جميع أنحاء العالم؛ خصوصًا فى مصر حتى نهاية السبعينيات. لكن مع «سعيد» كان الرسم العارى ببساطة انعكاسًا لافتتانه بالجسم الأنثوى؛ خصوصًا من فئة بائعات الهوَى كـ(حميدة)، أو الخَدَم كـ(هاجر)، أو حتى فتيات الشوارع كـ(حياة).
كانت الطبيعة مصدر إلهام «سعيد». أنتج فى المناظر الطبيعية أكثر من 160 لوحة معروفة حتى الآن. فضلًا عن لوحات أخرى عبارة عن لقطات صغيرة تُسجِّل الأماكن التى زارها. لكن ظلّ سرّ الإلهام كامنًا فى (الموديل)، سواء كانوا من الأقارب أو الأصدقاء، رجال ونساء مجهولين، وهؤلاء يشكّلون الموضوع الرئيسى لـ130 لوحة وصورة للبورتريه، ونحو 40 لوحة للرسم العارى لنساء، فضلًا عن مئات من الاسكتشات والرسومات التمهيدية أو التحضيرية التى تركها الفنان.
«لماذا ترسم؟» سأل الدكتور «مصطفى سويف» محمود سعيد فى مقابلة عام 1962، فأجاب الفنان: «إذا توقفتُ عن الرسم فى أى وقت؛ فإن العالم سيصبح بلا مذاق، ولا معنى للحياة.. تمامًا كما لو كنت ميتًا. أجمل اللحظات فى الحياة هى وقت الخَلق».
ورُغم أن فصول الرسم الحىّ كانت متاحة فى مدارس الفنون الجميلة فى جميع أنحاء مصر حتى الثمانينيات عندما فُرض الحظر على الرسم العارى فى كليّات الفنون المصرية، لكن كان من غير المتصوّر بالنسبة إلى قاضٍ فى مثل وضع محمود سعيد ومكانته العائلية أن يرسم عارضات عاريات فى مرسمه.
الفلّاحة أفضل من الأميرة
تنحَّى «سعيد» عن إبراز أى مفاتن لنساء الطبقة الاجتماعية العليا التى ينتمى إليها هو نفسه. ربما لم تجعله نبيلات البلاط يشعر بما شَعَر به مع النساء الشعبيات. وربما أراد أن يترفّع بهن فوق الغرائز الدنيوية؛ خصوصًا أن منهن شخصيات معروفة فى المجتمع الراقى.
لهذا مارَسَ «سعيد» جموح إبداعه الفنى وتحرُّره من أى قيود اجتماعية فى لوحاته العارية للعوام. وكثيرًا ما نظر أقرانه من الفنانين إلى لوحاته العارية على أنها فاحشة، بينما وقف النقاد الفنيون موقفًا مبجَّلًا من فن محمود سعيد ونهجه.
كتَب عبدالرحمن صدقى فى كتاب «الفن المصرى المعاصر»: «لا يمكن للناظر إلى لوحات محمود سعيد العارية إلّا أن يلاحظ السخرية من التقاليد على شفتىّ عارضته، وشهوة ساحقة تشتعل من جسدها. إنها قادرة على إراقة الدماء والنار والدمار من أجل المتعة السريعة، دون أى ندم أو إحراج». وأخيرًا كتَب: «النساء المصوَّرات فى لوحات محمود سعيد أغنياء بالشعور الذى يغذى الروح ويثير المشاعر».
تجاوزت اللوحات التى رسمها محمود سعيد عن النساء التصوير الحسى والافتتان الغريزى، نظرًا لتعليمه العالى ومشاعره الرقيقة ونهجه وارتباطه العميق بالطبيعة والحياة. كان هناك معنى أعمق وراء الشهوة والانفلات، لذلك نجد مهارته فى خلط الشهوانية بالطبيعة وربطها بالأساطير القديمة والأديان القديمة.
كان يُصوِّر النساء الحوامل كرموز لواهبات الحياة والسرّ المقدّس الذى ينمو فى رحمهن. قدّم صورًا للمومسات بتعاطفٍ صادق، وأدان المجتمع المذنب الأوَّل فى انحدارهن كما أدان انتهاك الجسم البشرى.
كان هَمُّ «سعيد» الأوّل هو تصوير النفوس البشرية التى خضعت للنضال المستمر فى الحياة، والتغنّى بالمشاهد الشعبية كنقيض لحياة النبلاء الأنيقة وبلاط القصور.
تخلّى هذا الشاب الغنى، الذى كان مُحاطًا بالنساء من الطبقة العليا، عن دائرته الأرستقراطية للبحث فى الأحياء الشعبية عن نساء مثل هاجر وحميدة ونبوية وناعمة وبدرية، منقادًا لشغفه الملتهب؛ وفى الوقت نفسه لمشاعره النقيّة الصادقة بلا ادّعاء.
كانت النساء من العوام المرآة الحقيقية لطبيعة محمود سعيد المتهوّرة والعاطفية. بينما الأميرات والمَلكات والنبيلات من نساء العائلة فكنّ المحجوزات خلف أقنعة، والملثّمات بالتقاليد المحافظة والمحاذير والملابس الأنيقة.