حديث الصباح والمساء.. وكفى

أتذكر جيدًا رمضان فى هذا العام، 2001، جلست لأتابع مسلسل انتشرت أخباره ومشاركة مجموعة هائلة من الممثلين به، ومن جميع الأجيال. وجدته يبدأ بما يسمى الـ(آفون تتر). شاب يطرق باب بناية عتيقة ويفتح له رجل عجوز جدًا، يجلس الشاب أمامه ويعطيه الرجل كتابا ليقرأ تاريخ عائلته وتبدأ الأحداث بعد واحدة من أروع أغانى التتر التى قدمت على الإطلاق.
مسلسل (حديث الصباح والمساء) والبداية بـ«مين فينا جاى مرساها مين رايح.. لحظة ميلاد الفرح كان فى حبيب رايح».
أتابع المسلسل الذى تبدأ أحداثه مع نهاية القرن الثامن عشر واحتلال الفرنسيين لمصر، وعفوا إذا ذكرت حدثا تاريخيا فالتاريخ خصلة تتضفر مع خصلة إنسانية وثالثة دينية لتغزل ضفيرة طويلة لصبية بارعة الجمال هى بلدنا مصر.. من هم كل هؤلاء الأبطال ومن هى تلك العائلات المتداخلة والمترابطة والممدود وصالها بالنسب. كيف غزلت تلك الحكايات وتشابكت العلاقات وولدت الأجيال تلو الأجيال.. كل بيت وله قصة وكل شخصية ولها تاريخ طويل من الميلاد وحتى الموت.. عدت للمصدر الأصلى وهو رواية للأديب الكبير «نجيب محفوظ»، غزلها ورتبها وركبها فى لوحة عظيمة واحد من كبار كتاب السيناريو الراحل «محسن زايد».
عندما قرأت الرواية ذهلت، كيف تمكن «زايد» من ترتيب (بازل) «محفوظ». الذى تعد تلك الرواية الأصعب والأعمق مضمونا وفى ذات الوقت الأسهل والأمتع شكلا. اتخذ أسلوبا فى السرد لم يحدث من قبل (ترتيب أبجدى لخمسة أجيال تنتمى لثلاثة عائلات) حكايتهم تصل لمائة عام. شاهدنا الأجيال من الأول للرابع وانتظرنا البقية بعد أن وعدنا صناع المسلسل أنه (للحديث بقية) ولكنها لم تأت حتى الآن بسبب وفاة السيناريست القدير الذى تمكن من الإمساك بقلب هذه الرواية العجيبة.
مع كل جيل كنا نجد المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كانت تتسع الهوة بين الأهل وتتضاءل صلة الرحم وتتفتت الروابط الإنسانية.. يحكى «محفوظ» ومن بعده «زايد» أحوال المصريين.. طباعهم، عاداتهم، تقاليدهم، سلوكياتهم. الكفاح ضد المحتل أيا كان من الفرنسيين للإنجليز من منظور اجتماعى إنسانى لم يتكرر بعدهم، رأينا رجال الحكم والمناضلين الضعفاء والأقوياء. شاهدنا كيف يفكر ويتعامل الجاهل والمتعلم، النبيل واللئيم، الشريف والخسيس، الصالح والطالح.
والأجمل من كل ذلك أننا عشنا مع كل قصة، مع كل حكايات البشر التى تبدأ فيها الطفولة مثل شقشقة النهار والشباب مثل زغللة العصر والعجز مثل الليل الذى يحنى ضهر الزين.. أوراق البشر الممتلئة بعبير العبر.. كما يقول الشاعر «فؤاد حجاج» فى كلمات أغنية البداية.
يبهرنا «محسن زايد» وهو يحكى تلك القصص الإنسانية العديدة ويبهرنا من بعده الأبطال فى تجسيدهم لها، كل نجم يظهر فى عدد محدود من الحلقات. يخبرنا حكايته ويرحل.. (جينا الدنيا ليه؟. كل حى جاى يشهد مكتوبه، جاى يشهد على اللى اتكتبله فى اللوح المحفوظ ويتوكل).
حكمة (حديث الصباح والمساء)، مع كل حلقة وجدنا ميلاد وزواج ووفاة. دايرة تدور بالبشر وحكاية متكررة وإحنا البشر كلنا أعمار ورق بيطير ولا شيء يعطر حياتنا يمد فى مداها غير سيرة عاشت هنا أكتر صاحبها ما عاش.كلمات النهاية.>