الجمعة 20 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

وثائق تاريخية تكشف الأطماع التركية فى سيناء

وثائق تاريخية تكشف الأطماع التركية فى سيناء
وثائق تاريخية تكشف الأطماع التركية فى سيناء


على وقع الاحتلال التركى لمدينة عفرين السورية، وتغلغل الجيش التركى فى مناطق سيطرة الحزب الديموقراطى الكردستانى فى كردستان العراق إلى نحو ثلاثين كيلومترًا فى المناطق المتاخمة للحدود التركية- العراقية، تصبو عين أنقرة فى الأساس إلى محاولة إحياء الإمبراطورية العثمانية.. هى أحلام وردية بلون الدم، تداعب مخيلة الرئيس التركى بقيام الخلافة الإسلامية من جديد، مرتكزًا فى ذلك على جماعات الإرهاب والعملاء من داخل الدول ذاتها.. فمنذ اندلاع الأزمة السورية حاولت تركيا أن يكون لها دور سياسى فى حل الأزمة السورية، وبالفعل استطاعت أن تكون ضلعًا مهمًا فى الأزمة، نظرًا لدعمها العناصر المسلحة على الأراضى السورية التى تدعى أنها من المعارضة، ومع مرور الوقت استطاعت تركيا أن تخترق الأراضى السورية عسكريًا فى إطار مزاعمها الحفاظ على أمنها القومى.. وفى العراق تدعى تركيا أنها تتدخل لمحاربة تنظيم داعش الإرهابى فى حين أنها عنصر مهم فى استقواء داعش سواء فى سوريا أو العراق، من خلال شراء النفط المسروق منه، كما أن اعترافات عناصر داعش الذين يسقطون فى أيدى الأمن العراقى أثبتت أن تركيا سهلت لهم عملية نقل وانتقال أكثر هذه العناصر الإرهابية إلى العراق وسوريا.

تحركات أردوغان الأخيرة والمثيرة للريبة مؤشر على أن الخلافة العثمانية التى انتهت عام 1923 بتوقيع اتفاقية لوزان مع انتهاء الحرب العالمية الأولى ما زالت أحلام إحيائها تداعب مخيلة مخبول إسطنبول الذى يتعامل مع الدول العربية على أنها إرث ضائع يجب عودته تحت الزعامة التركية.
ولم تكن مصر غائبة عن تلك الأطماع التركية وتجلى ذلك فى واقعتين بالقرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين توضحان بما لا يدع مجالاً للشك ألاعيب وحيل العثمانيين لبسط نفوذهم مرة ثانية على مصر وكانت سيناء هى جائزتهم الكبرى التى يسعون للفوز بها.
جاءت الواقعة الأولى فى عام 1892 وقد زادت الأهمية الاستراتيجية لسيناء بعد حفر قناة السويس، فبدأت الدولة العثمانية ذات التأثير الضعيف فى العالم تحاول استعادة قوتها مرة أخرى بالاستيلاء على الشريان العالمى الجديد وإقرار وضع تاريخى لها مع الإنجليز المحتلين لمصر حينئذ . ارتأت الدولة العثمانية الفرصة سانحة لذلك عند وفاة الخديو توفيق وتولى الخديو عباس حلمى الثانى عام 1892 فأصدرت فرمان التولية يتضمن تحديد الأراضى المصرية التى تتبع الوالى الجديد باستثناء شبه جزيرة سيناء، حيث أسندت تبعيتها إلى ولاية الحجاز.
وأدركت بريطانيا الهدف من وراء ذلك فبادر اللورد كرومر بإرسال خطاب إلى وزير الخارجية المصرية «تجران باشا» يستنكر هذا التصرف مؤكدًا أنه لا يمكن حدوث تغيير فى الفرمانات الخاصة بتولية حكام مصر بدون رضا ملكة بريطانيا العظمى وأن الفرمانات السابقة بولاة مصر كانت تعتمد على الخريطة التى تم تسليمها إلى محمد على باشا وتقر بتبعية سيناء إلى مصر وبيان حدودها.
وتدارك السلطان العثمانى الأمر وأرسل يقر ببقاء الوضع كما هو وتظل إدارة شبه جزيرة سيناء فى يد الخديوية المصرية.
وأعقبت تلك الأزمة زيارة الخديو عباس لمدينة الطور فى عام 1896 فزار معالم المدينة من الجامع والمحجر وحمام موسى وبعدها بعامين قام بزيارة العريش وتابع رحلته حتى وصل إلى مدينة رفح وتم تسجيل الزيارة على عمودى الحدود الفاصلة بين المتصرفية الفلسطينية ومصر فنقشت على عمود الحدود المواجهة لمصر تلك العبارات «إنه فى يوم السبت المبارك 12 شوال سنة 1215 هجرية و5 مارس 1898 ميلادية أشرقت شمس طلعة الجانب الأعظم ولى النعم سمو عباس حلمى الثانى الأفخم فى سماء الحدود المصرية. فكتبت هذه العلامة الكائنة برفح.
وانتهز عباس الفرصة وقام بتجديد جامع العريش ورمم بئرًا قطية وحفر بئرًا جديدة عند النبى ياسر على ساحل العريش.
لم يكن ما يحدث بعيدًا عن مجريات الأمور فى سائر بلاد الخلافة، حيث ظهر جمال الدين الأفغانى داعيًا إلى لم شمل جميع الدول الإسلامية فى جامعة إسلامية كبرى لمحاربة الاستعمار الأوروبى تحت شعار «لا جنسية للمسلم خارج دينه» على أن يلتف المسلمون حول الخلافة ويؤيدوها وهذا ما دعا مصطفى كامل إلى اتخاذ موقف موالٍ تمامًا للسلطان العثمانى وكان من رأيه أن بريطانيا هى التى تشكل الخطر الحقيقى على مستقبل مصر وقد شجعت السلطنة العثمانية هذه الحركة على قدر استطاعتها لاستعادة نفوذها فى مصر مرة أخرى وليس لتحرير مصر من قبضة الاستعمار.
الواقعة الثانية
فى عام 1905 بدت الظروف مهيأة لاسطنبول إذ كان الرأى العام المصرى يؤيدها فى كل مبادرة تتخذها لمناهضة للاستعمار البريطانى.
وانحياز الإمبراطورية الألمانية لها والتى لم تحظ بنفوذ فى أى دولة شرق أوسطية وتم تقسيم هذه الدول بين إنجلترا وفرنسا، وهو ما سُمى «بالاتفاق الودى» والذى تلا معاهدة التحالف الروسية الفرنسية وبدأ التوغل الألمانى فى السلطنة العثمانية فعرضوا إعادة تنظيم الجيش وشق طرق السكك الحديدية ومن بينها مشروع مد طريق الحجاز بفرع من معن إلى العقبة، وبالتالى عاد نفوذ العثمانيين على العقبة مرة أخرى وكانت الطريق إلى التدخل لتنفيذ خطة العثمانيين لفصل سيناء عن مصر.
احتلال طابا
قام العثمانيون بإنشاء نقاط عسكرية داخل حدود سيناء فى القصيمة ومشاش الكنتلا فى وادى الجرافى وإنشاء السلطان قائمقامية جديدة فى بير سبع، مما استرعى انتباه الحكومة المصرية وقامت وزارة الحربية بإرسال بعثة إلى سيناء كان ظاهرها التحقيق فى جريمة قتل ومحاكمة المتهمين، وفى باطنها التحقيق فى نشاط الأتراك على الحدود مع مصر.
وكان من نتيجة ذلك تعيين الحكومة المصرية لشاب إنجليزى يسمى براملى مفتشا على شبه جزيرة سيناء، وقام الأخير بإجراء بعض الإصلاحات الإدارية، وعندما توجه إلى المرشش على الجانب الغربى من رأس خليج العقبة اعترضه قائد الحامية التركية ووضع براملى تقريرًا عن ذلك فطلبت الحكومة المصرية من الباب العالى تعيين لجنة مختلطة من المصريين والأتراك لترسيم الحدود بين سيناء والممتلكات التركية فى الحجاز والشام.
ولما لم تجب إسطنبول على هذا الاقتراح أسرعت وزارة الحربية المصرية بإرسال بلوك من العساكر النظامية مع الأميرالاى سعد بك رفعت كومندان إلى سيناء و«براملى» لاحتلال موقع طابا.
ويقول سعد فى التقرير الذى قدمه عن مهمته: عندما وصلنا إلى ميناء طابا رأيت العساكر العثمانية قد انتشرت على التلال التى تطل على طابا من الشرق وقائدهم ضابط برتبة بكباشى واقفًا على الشاطئ والذى استقبلنى سائلا عن الخبر فقلت: «جئت ببعض العساكر المصرية لاحتلال طابا» فقال إن طابا فى حد العقبة وجزء منها فلا أسمح لأحد أن ينزل فيها. فقلت: بل طابا فى حد سيناء وقد أقمت فيها بنفسى بعد إخلاء العقبة عام 1892 وحفرت فيها بئرًا، فأصر القائد العثمانى على رأيه وأنه سيقاومنا إذا أنزلنا العساكر إلى البر وانتشرت عساكره على التلال وصوبت نيرانها علينا.
ورأى سعد اجتناب سفك الدماء ونزل فى جزيرة فرعون على نحو ميلين من طابا وأرسل تقريره إلى الحكومة المصرية فى انتظار الرد.
تطور الأزمة
شرعت السلطنة العثمانية فى تعزيز قواتها وأرسل السلطان برقية فى يناير 1906 إلى خديو مصر بأن ما حدث لا يتوافق مع «الرضا العالى» ويحثه على سحب القوة المصرية بإثارة الحمية الدينية لديه، وكان الغرض من البرقية إجبار الخديو على الاصطدام بالإنجليز وإما فقدان شعبيته أمام الرأى العام المصرى(الموالى حينئذ للسلطنة العثمانية) بفضل مقالات مصطفى كامل بجريدة اللواء.
ولا شك أن كلا من السلطنة العثمانية والإنجليز يعملان لمصالحهما الاستعمارية، ولكن كانت المرة الوحيدة التى اتفقت فيها مصلحة مصر المستقبلية والوطنية مع مصلحة الإنجليز فى الاحتفاظ بشبه جزيرة سيناء، ورد الخديو عباس على السلطان بأن من القديم فإن موقع طابا تحت إدارة الحكومة المصرية وذلك ثابت فى فرمان تولية الخديو عباس حلمى ومنعًا لأى سوء تفاهم فقد أمر الخديو بسحب القوات المصرية إلى جزيرة فرعون ورجا الخديو السلطان بتعيينه مندوبًا ليتفق مع المندوب المصرى على الحد الفاصل وحتى لا يقع تعرض آخر لإقامة العساكر المصرية التى تستدعى مهمتها حفظ الأمن على الحدود ومنع تهريب الأسلحة.
ولم يتلق الخديو ردا، بل أرسل السلطان شكوى إلى السفير البريطانى فى الأستانة يطالبه فيها بسحب العساكر المصرية من مراكزها. وأعقبه برقية من السلطان جاء فيها «لعدم وجود خلاف بنقطة طابا المجاورة للعقبة فلا محل لتعيين خط فاصل ونرجو بذل همتكم فى منع الخطر الذى يحدث فى إنشاء نقطة عسكرية مصرية هناك. وكان الهدف هو استقطاع أجزاء من سيناء بعدم ترسيم الحدود بين مصر وغزة».
وهنا بدأ اللورد كرومر التعامل بصورة مباشرة مع السلطان العثمانى، بعد أن كان مستترًا خلف الحكومة المصرية فأرسل إلى سفيره فى إسطنبول يخبره باستمرار الأزمة نظرًا لعدم تعيين الحدود بصفة حاسمة.
وكشفت السلطنة العثمانية عن وجهها بخطاب إلى خديو مصر جاء فيه «ما دامت مصر ولاية عثمانية فلا يمكن أن يوجد بينها وبين بقية الولايات الخاضعة للإدارة العثمانية مباشرة حدود وتخوم»، وطالبت بسحب البارجة الإنجليزية. ودافعت جريدة اللواء (برئاسة مصطفى كامل) عن تلك النظرية التى تهدم من الأساس الاتفاقات الدولية المبرمة بخصوص مركز مصر الخاص تحت ولاية بيت محمد على.
وكتب السلطان العثمانى ما يريده بالضبط فى مذكرة للخديو كان فيها «ظلت شبه جزيرة سيناء تحت إدارة مصر ونستردها عند اللزوم، ولذا لايمكن قبولها بصفة حدود. والعساكر العثمانية الموجودة بموقع طابا هى للمحافظة على هذا الحق، ومن حق الدولة العثمانية إرسال عساكرها لغاية جهة السويس».
وفى 12 فبراير قطع القائد التركى فى العقبة كل اتصال بالمراكز المصرية فى سيناء وأبلغها أنه يحملها عواقب عدم انسحابها منها وبدأوا فى تعزيز مواقعهم بمزيد من العساكر العثمانية.
مما حدا ببريطانيا فى 14 فبراير 1906 لإرسال البارجة «ديانا» إلى طابا لمنع القوات العثمانية من التوغل فى شبه جزيرة سيناء وتأمين القوة المصرية فى جزيرة فرعون. وعندئذ بدأ السلطان فى التراجع عن المواجهة العسكرية وبدأ فى أبريل من نفس العام التفاوض على تقسيم سيناء بالخريطة الأولى المبينة. بحيث يتم تقسيم سيناء بين مصر والسلطنة العثمانية وتمتد الأراضى التركية حتى شواطئ قناة السويس وتقع طابا فى الاراضى المصرية.
أما اقتراح رئيس وزراء السلطنة فكان تقسيم سيناء طوليا بحيث يكون شرق سيناء تابعا للسلطنة وغربها تابعا لمصر.
وفى ظل تعنت وتسويف السلطان العثمانى أنذرته بريطانيا بإخلاء طابا وعودة الجنود العثمانية إلى الحدود القديمة وإعادة عمودى الحدود فى رفح إلى مكانهما بعد أن أزالهما العساكر العثمانية.
وأجرت بريطانيا تعبئة بحرية فى ميناء بيريه باليونان انتظارا لرد السلطان العثمانى فإذا جاء بعدم الموافقة يتم احتلال جزر بحر إيجة التى يسيطر عليها العثمانيون، وبالفعل تم ذلك عندما ماطل السلطان فى تنفيذ الجلاء من طابا فقامت بريطانيا باحتلال جزيرتى لمنوس وميتلين من جزر بحر إيجة وفرضت الرقابة على خط التليغراف العثمانى المار من العريش، مما أدى إلى قطع الاتصالات مع اليمن.
ولم يجد السلطان العثمانى أمامه سوى سحب قواته وإخلاء طابا مُصدرًا أوامره للمندوبين العثمانيين بالتعاون مع من تنتدبهم مصر لتعيين الحدود.
وفى 26 مايو 1906 وصلت لجنة ترسيم الحدود إلى العقبة وبدأت عملها والذى استمر حتى أول أكتوبر 1906، حيث تم التوقيع على اتفاق ترسيم الحدود وتم نصب 91 عمودًا وكان الأول فى ميناء رفح على تل الخرائب والأخير على رأس طابا على هذا الأساس وبدأت محاظة سيناء فى إقامة نقط البوليس على الحدود فأنشأت مراكز فى « بئر التمد» و«شاش الكنتلا» و«القصيمة» و«رفح» ومدت الأسلاك التليفونية بينها.
وكان من أهم آثار أزمة الحدود إبعاد الخديو عن العرش وتوجيه حركة التحرر الوطنى نحو آفاق جديدة أبعدتها عن الجامعة الإسلامية وجعلتها تحتضن مبدأ الجامعة القومية.
وانتقد العقلاء من الأمة موقف الحزب الوطنى ومصطفى كامل والذى حاول إثبات وجهة نظره بقيامه بحملة دعائية واسعة فى أوروبا ليثبت للرأى العام العالمى بأن العالم الإسلامى بعيد عن التعصب الدينى وكان دائمًا ما يواجه بسؤال مُحير وهو: « كيف تفسرون موقفكم بعد رغبتكم فى التنازل عن أرض مصرية إرضاء للخلافة الإسلامية على حساب بلادكم؟
وتوفى مصطفى كامل بعد الأزمة بعامين واضمحل الحزب الوطنى وبدأت تظهر أحزاب أخرى ذات برامج وطنية وأكثر تحررا من الجامعة الإسلامية وتركه بعض زعمائه وانضموا إلى الوفد مثل مصطفى النحاس وحافظ عفيفى بعد موالاة الحزب الوطنى للألمان فى الحرب العالمية الأولى.