البابا شنودة معجزة الكلمة

روزاليوسف الأسبوعية
أربعون عامًا قضاها الراحل الكبير البابا شنودة على كرسى الباباوية، عاصر رئيسين واختلف معهما واتفق، لكنه ظل هادئًا حكيمًا، يرفض التصعيد ليس لأنه «ضعيف» وإنما إيمانًا بمبادئ السيد المسيح عليه السلام، التسامح والترفع عن الصغائر.
إن قلت إنه رجل سياسة، فلن تكون مخطئًا، وإن وصفته بالقامة الروحية التى حظيت باحترام العالم بأسره فلن تكون جاوزت الصواب، وفى حال ارتأيت أنه فيلسوف كبير، فأنت على حق، أما إذا اعتبرته شاعرًا وخطيبًا مفوهًا، فإن الحقيقة ستكون إلى جوارك.
رجل استثنائى ابن من أبناء الكنيسة المصرية، التى لم تخرج يومًا عن «طوع الوطن».
مثقف كبير، يملك المنطق السلس، يحفظ الكثير من القرآن الكريم، لأنه كما يقول لويس عوض: مصرى قبطى لا ينسى أن الإسلام مكون من مكونات ثقافته، وجزء من تراثه الحضارى.
فى ذكراه الثالثة، نوقد له الشموع، ونفتح النوافذ على سيرة رجل قلما يتكرر، فهل حقًا غادرنا؟!
رغم تواتر القصص التى تحكى عن شذرات كمعجزات لذهبى الفم، فإن البابا شنودة الثالث كانت معجزته الحقيقية هى «الكلمة» التى تترجم تلك العبقرية التى تجول فى عقله.
وقبل الخوض والإبحار فى عقلية البابا شنودة يتوجب علينا أن نحدد مناطق إبحارنا، فمهما توسعنا فى البحث، فإننا لن نحتوى تلك العقلية المتفردة والمتميزة والتى قلما يجود الزمان بمثلها، لكننا نحاول الإبحار على قدر طاقتنا وجهدنا فى منطقة محددة بعينها ألا وهى العقيدة الأرثوذكسية، كيف تعاطى معها قداسة البابا؟ الأمر ليس بالهين ولا السهل، فالعقيدة الأرثوذكسية هى الأصل والمنبع والمصب لكل تعليم إنجيلى نافع وصحيح، تزخر بثراء لاهوتى وعقائدى وتاريخى وهى المشتملات التى جعلت العقيدة محددة واضحة نقية تتخلص من شوائبها أولاً بأول، والأرثوذكسية دائماً ما كانت وستظل راسخة صامدة قوية فتية لأنها تأسست بأيدى السيد المسيح.
تأثير فكر البابا على العقيدة قد يبدو حديثاً غير مستساغ أو مقبول فالعقيدة لا يمكن لأحد مهما كان أن يؤثر فيها فهى ثابتة غير قابلة للتغيير فكيف إذن يجوز لنا القول بأن البابا شنودة الثالث رغم عظمته وتفرده أنه يؤثر فى العقيدة؟ وهنا ينبغى علينا أولاً عدم الفصل بين العقيدة وفكر البابا لأن الاثنين يدوران فى دائرة تأثير مغلقة ومستمرة ومتفاعلة، ففكر البابا هو الممتلئ عن آخره بالعقيدة هذا الامتلاء أدى بقداسته إلى إعادة إحياء العقيدة من جديد، وكلما نجح فى إحياء إحدى منظومات العقيدة أثر هذا الإحياء بدوره فى فكره، فيتجه إلى إحياء منظومة أخرى.. وهكذا تستمر علاقة التأثير والتأثر بين فكر البابا والعقيدة فى متوالية لا نهائية.
وهكذا ندخل إلى دوائر التأثر والتأثير دخولاً فى منطقة ثراء التشامخ الفكرى الذى ميز ذهبى الفم.
لم يخل المنهج اللاهوتى لأى من آباء الكنيسة من البعد الجدلى حول المفردات والحقائق اللاهوتية المختلفة، وقداسة البابا مثل كل آباء الكنيسة وجد نفسه فى كثير من الأحيان محاطاً ببعض القضايا الجدلية التى كان لزاماً التعامل معها كفيلسوف لاهوتى بعيداً عن التعليم الجماهيرى المتدرج والمتبسط للعامة، ولقد حفل عصر قداسة البابا بالكثير من تلك القضايا ووجد فى الاشتباك مع الكثير منها إهدارًا للطاقة ومضيعة للوقت، فكان يترفع عن الدخول فى مهاترات جدلية لا فائدة ولا طائل منها ومع ذلك لم يخل منهجه من الحوار الجدلى فى بعض القضايا، فلماذا تحاور جدلياً مع بعض القضايا وعزف عن البعض الآخر؟
ذهبى الفم كان له من القدرات الجدلية والفلسفية ما يمكنه من مواجهة أى من تلك القضايا، لكنه لم يكن من ضمن ما سعى إليه من أهداف العمل بالفلسفة كفيلسوف، ولكنه كان يوظف طاقاته الفلسفية فيما يمكن أن يفيد فى مشروعه التعليمى الذى سعى إليه من خلال منهج لاهوتى متقن ومحكم ولأنه عرف عنه البساطة فى التعليم فإن هذا قد أعطى انطباعا بأن منهجه لا يرقى إلى المستوى الجدلى الفلسفى. وهذا لم يكن ليؤرقه أو يحرك ساكنًا لديه طالما ابتعد هؤلاء عن المساس بمشروعه التعليمى، ولكن إذا ما حاول البعض إثارة الجدل الذى يمكن له أن يشتت الأذهان ويبعد الناس عن صحيح الإيمان تصدى قداسته مرغماً لدحض المزاعم الجدلية ليفاجأ الجميع بالبابا المنتمى لأعرق مدرسة لاهوتية وفلسفية فى التاريخ، ألا وهى مدرسة الإسكندرية.
ومن أهم القضايا «التجسد» و«التثليث والتوحيد» فيقول: «نحن لا نؤمن بأن الله ثالث ثلاثة ونحن لا نقول ذلك. نحن نقول أن الله واحد ونحارب من يقول أن الله ثلاثة» كذلك قضية «الأب والابن» فيقول «نحن نؤمن بإله واحد الله الأب. فما هى حكاية الابن إذن؟ الابن بنوته ليست جسدية وليست بنوة تناسلية وليست بنوة من صاحبة إنما هى نوع آخر من البنوة الذاتية الفعلية الروحانية التى لا علاقة لها بالجسد والتناسل. مثال ذلك عندما نقول إن العقل يلد الأفكار «صحيح العقل يلد الفكر ولكن هل هذه الولادة تناسلية؟ إننا لا نؤمن بثالوث الله والمسيح والعذراء .. بل نحاربه».
خرج الخطاب الوعظى التعليمى اللاهوتى الآبائى لقداسة البابا عن كل ما هو مألوف ومتعارف عليه فى علم الوعظ الدينى، هذا الخطاب لم يكن نتاج منهج علمى دقيق وضعه البابا لنفسه وسار عليه فقط ولكن اعتمد المهارات الشخصية والكاريزمية التى استحق عليها جائزة أفضل واعظ للدين المسيحى على مستوى العالم. وهناك بعض السمات العامة لخطاب قداسته الوعظى.
ــ رغم ما كان يتمتع به البابا من ثقافة عالية خاصة فى مجال اللغة العربية فإن قداسته لم يلجأ إلى الحديث بالفصيحة ولكنه يفضل اللغة العامية إمعاناً منه فى التواصل مع المتلقى.
ــ احتواء خطابه على أدق تفاصيل الحياة اليومية للقبطى البسيط حتى يخيل للمتلقى أنه لا يستمع لبابا الإسكندرية وإنما يستمع إلى من يعايش مشاكله ويعانى معاناته وهو ما أدى إلى توغل هذا الخطاب فى وجدان الناس.
ــ إن الشعر المنظوم الذى أحكمت قوافيه واختيرت بحوره بعناية هو من أقرب الحديث إلى قلوب العامة، ولأن البابا شاعر لا يشق له غبار فلقد ساعده ذلك فى صياغة الكثير من المعانى الروحية واللاهوتية فى قوالب شعرية كانت الأقرب للوجدان الشعبى.
ــ تمتع البابا بروح الفكاهة والتى تم توظيفها فى التأكيد على بعض المعانى اللاهوتية من خلال ما يمكن أن نطلق عليه مجازاً أو اصطلاحاً الكوميديا الروحية، فمداعبات البابا لم تكن تأتى بشكل عفوى غير مقصود، فلاهوت العصور الوسطى على الرغم من أنه تمسك باللغة وحاول تأليهها إلا أن ذلك الخطاب اللاهوتى كان خطاباً كئيباً، وهو ما أعطى انطباعا بأن المسيحية ديانة كآبة وحزن فى حين أن السيد المسيح أوصانا «لاَ يَنْزِعُ أَحَدٌ فَرَحَكُمْ مِنْكُمْ».∎