الخميس 1 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

البابا كيرلس.. أبوالمعجزات

البابا كيرلس.. أبوالمعجزات
البابا كيرلس.. أبوالمعجزات


«عِيشُوا كَمَا يَحِقُّ لإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ» بهذه المقولة بدأ القديس بولس الرسول فيلسوف المسيحية الأول دعوته للمسيح فى كل أنحاء العالم لتتداول تلك العبارة فى المسكونة كلها وتصبح دستوراً للمسيحية وتستقر فى قلب «البابا كيرلس السادس» ليصبح أنجيلا يمشى على الأرض وسط الناس كان يجول «يَصْنَعُ خَيْرًاً» مثل سيده يسوع المسيح وتدفقت المحبة من قلبه أنهاراً وينابيع لتروى جميع «الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِى الأَحْمَالِ» لم يدخر مالاً أو سعى إلى جاه أو سلطة لأنه كان يرى أنه «مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ».

فى ذكرى نياحته «9 مارس» نعود إلى تلك السيرة العطرة والتى يحتفل بها الأقباط فى كل أرجاء الكنيسة القبطية فى العالم كله.
كان يوسف عطا والد «البابا كيرلس السادس» ينتمى إلى عائلة «الزيكى» نسبة إلى «الزوك الغربية» بمحافظة سوهاج واستقرت فى دمنهور لاحقاً، وقد عمل لدى العديد من كبار ملاك الأراضى الزراعية بالبحيرة والغربية والمنوفية، كما أنه كان من أبرع نساخ الكتب فى الكنيسة وكثيراً ما قام بتنقيح كتب التراث القبطى خاصة سير الآباء ونسخها وحفظها، وكانت أسرته أسرة كنسية محبة للكنيسة وخدمتها فى كل المجالات حريصين على الاحتفال بتذكارات القديسين وحفظ سيرتهم العطرة وخاصة القديس مارمينا العجائبى وكانوا يذهبون سنوياً لقضاء عيده فى ديره بأبيار الغربية وهو القديس الذى ستكون له علاقة خاصة فيما بعد بالعائلة وولد لـ«يوسف عطا» ثلاثة أبناء يتوسطهم عازر «البابا كيرلس» الذى ولد يوم السبت 21 أغسطس سنة 1902 بين أخين الأكبر «حنا» والأصغر «ميخائيل».
∎ الطفولة والشباب المبكر
 تربى عازر وسط جو عائلى روحى، ونشأ منذ طفولته المبكرة محباً للكنيسة وآبائها من رجال الكهنوت والتصق بالرهبان بشكل ملفت للنظر خاصة الراهب الشيخ القمص تادرس البراموسى وهو ابن أربع سنوات، ويحكى أنه فى يوم جاءت أمه لتأخذه من الكنيسة فوجدته نائما على صدر أحد الرهبان وارتجفت الأم واعتذرت للأب الراهب فكيف يجرؤ صبى فى مثل سن «عازر» أن ينام على صدر الراهب فهدأ الراهب من روعها قائلاً «لا داعى للاعتذار لأنه من نصيبنا» لم تدر الأم معنى نبوة الراهب ولم يدر بخلدها أن هذا الطفل الذى تحمله بين ذراعيها سوف يكون راهباً بل أب لكل رهبان البرية وفى عام 1933 انتقلت أسرة «عازر» إلى الإسكندرية حيث ذاع صيت والده فى الأمانة فعمل وكيلاً لدائرة أحمد يحيى باشا والد عبد الفتاح يحيى باشا رئيس الوزراء، وكانت هذه الدائرة مقراً لرجال الوفد ومركزًا للحركة الوطنية المصرية.
قضى «عازر»  فترة الدراسة الثانوية فى الإسكندرية وبعد حصوله على البكالوريا (الثانوية العامة) التحق بالعمل بشركة كوكس شيبينج للملاحة كمستخلص جمركى وكان أميناً مخلصاً ملتزماً لعمله ولم يكن مثل بقية جيله من الشباب الذين تأخذهم الحياه بمتعها وصخبها ولكنه وضع المسيح هدفاً له أينما سار أو نزل يحافظ على حضور صلوات القداس الإلهى والتقدم للأسرار المقدسة، ويقضى الليل ساهراً فى دراسة وقراءة الكتاب المقدس ويناجى الله فى صلاة عميقة طويلة ويطيل التأمل فى أحكامه وحكمته الإلهية ويطالع سير الآباء القديسين والآباء النساك المتوحدين، وأصبحت الحياة الروحية للشاب «عازر» محطاً لإعجاب الكثيرين من أبناء جيله أصبح وصار مثلاً يحتذى ونبراساً يضئ ويؤثر فى الكثير من هؤلاء الشباب.
∎ الاشتياق إلى الرهبنة
اشتاق «عازر» منذ نعومة أظفاره إلى حياة الرهبنة المكرسة لله فكتب عن مشاعره قائلاً «من صغر سنى كنت أميل إلى الهدوء والوحدة ولبس الملابس السوداء ولما بلغت سن الرشد كنت أسمع كثيراً عن الأديرة والرهبان  فكان يلتهب قلبى ناراً وأشتاق للذهاب إلى الدير».
البابا الراحل قضى خمس سنوات فى العمل كمستخلص جمركى وعلى الرغم من نجاحه فى عمله فإن ذلك لم يعقه على ممارسة طقوسه الروحية ودراساته الكتابية وسط صلاه حارة وأصوام منقطعة، وكان يجاهد فى حياة نسكية كاملة فعاش زاهداً فى بيته، وبالرغم من هذه الحياة الفريدة لم يلاحظ من حوله شيئاً عليه فكانت كل عباداته تتم فى الخفاء كما أوصى المسيح. فكان ينام على الأرض بجوار فراشه ويترك طعامه مكتفياً بكسرة صغيرة وقليل من الملح  واشتاق «عازر» لخدمة الكنيسة متشبهاً بآباء الكنيسة وقرر أن يسير فى طريقهم وأخيراً فاضت محبته لله واشتاق للانطلاق إلى حياة الرهبنة.
لم يكن الأمر سهلاً أو يسيراً أمام «عازر» ليترك العالم ويذهب إلى الدير ويترهبن ولكن كانت هناك الكثير من العواصف فى انتظاره فلقد قام بتقديم استقالته من عمله وكتب فيها: «بما أن لدى أعمالاً مهمة لا يسعنى أن أتخلى عنها لذلك أقدم استقالتى من العمل وأرجو أن يتم قبولها»، وقامت الدنيا وثارت على «عازر» خاصة والديه وأخيه الأكبر فكيف يفعل هذا وهو الشاب الوسيم الناجح فى عمله، والمشهود له بالسيرة الحسنة من الجميع وينتظره مستقبل مشرف ولم يسانده أحد فى مسعاه فلجأ إلى رب المسعى وطلب منه العون فى صلاة حارة متضرعاً أن يلين قلوبهم ويسمحوا لى بالذهاب إلى الدير فسمع الرب صوت تضرعه واستجاب إلى طلبه، وفعلاً سمح له والداه بالذهاب إلى الدير وقصد «عازر» البابا يؤنس البطريرك الـ113 وشرح له البابا مدى صعوبة طريق الرهبنة وتجاربها المتنوعة ولكنه كان مصراً إصراراً عجيباً وطلب قبوله فى سلك الرهبنة فى دير البراموس بوادى النطرون فأجابه وأجاب البابا قائلا: «هذه كلها رسمتها أمامى ولى الآن خمس سنوات أمارس طريق الرهبنة بكل حرص وأنا فى بيت أبى»، وبارك الأنبا يؤنس اختياره ووعد بترتيب الأمر وقال الأنبا يؤنس «سأدبر لك سبيل الرهبنة» وانتظر «عازر» بكل رجاء موعد الرحيل إلى الدير حتى استدعاه الأنبا يؤنس وحدد موعد السفر إلى دير البراموس فى 27/7/1927 ثم أرسله برفقة الأب القس بشارة البراموسى (نيافة الأنبا مرقس مطران أبو تيج وطهطا فيما بعد)، وكان القس بشارة يحمل خطاب توصية من الأنبا يؤنس لأمين الدير القمص شنودة البراموسى ليقبل «عازر» كطالب رهبنة فى الدير وعند وصولهما فوجئا بإضاءة الأنوار ودق الأجراس وفتح قصر الضيافة وخروج الرهبان وعلى رأسهم القمص شنودة البراموسى أمين الدير لاستقباله ظناً منهم أنه زائر كبير وعندما تحققوا الأمر قبلوه فى سلك الرهبنة فوراً مستبشرين بمقدمه، إذ لم يسبق أن قوبل راهب فى تاريخ الدير بمثل هذه الحفاوة واعتبرت هذه الحادثة نبوة لتقدمه فى سلك الرهبنة وتبوئه مركزاً كبيراً فى الكنيسة وقرأ أمين الدير مضمون الرسالة المرسلة من المطران أخذ عازر إلى القلاية التى سيقيم فيها فقام على الفور بتنظيفها وترتيبها وفرشها بورق سميك كان قد أحضره معه  وارتدى جلبابا أسود وطاقية سوداء.
يقول «البابا كيرلس السادس»:
(كان يوم تركت العالم من أسعد أيام حياتى فتوجهت إلى دير البراموس الكائن ببرية شهيت، ووصلنا إلى بلدة الهوارية الساعة العاشرة مساء ومنها وصلنا إلى الدير الساعة الثانية بعد منتصف الليل فدخلت الدير وكأنه الفردوس والآباء الرهبان شبه الملائكة فاسترحت قليلاً إلى أن دق الناقوس للصلاة فذهبت للكنيسة وحضرت القداس وأخذنا نعمة فوق نعمة وقضيت مدة الاختبار وكانت نحو تسعة أشهر، وبعدها أراد الرب أن ألبس شكل الرهبنة فأجمع الآباء الرهبان على تزكيتى فوافق الرئيس على ذلك ورسمت راهباً بالكنيسة القديمة التى بها أجساد القديسين، وكان الرهبان اختلفوا على الاسم، وأخيراً اتفقوا أن الاسم الذى بسنكسار اليوم- سجل قديسين الكنيسة -هو الذى يكون أراد به الرب - وفعلاً كان تذكار نياحة الشهيد العظيم مارمينا فدعيت بهذا الاسم المبارك الذى للشهيد فأخذت من هذا اليوم أتعلم قوانين الرهبنة من الآباء وكنت أدرس فى كتب القديسين ولا سيما كتاب القديس العظيم مار إسحق السريانى  فكنت أشعر بنعمة الرب تزداد على يوماً بعد يوم فمكثت أشعر بنعمة الرب نحو أربع سنوات  كنت مطيعاً للجميع لآخذ بركتهم وكنت أشتاق لخدمة الشيوخ كثيراً  فمكثت فى خدمة الراهب الشيخ عبد المسيح المسعودى العلامة مدة سنة وتعلمت التسبيحة قبطى على يد جناب القمص باخوم وهو أب اعترافى وخدمت القمص أنطونيوس مدة سنة).
هكذا أصبح «عازر يوسف عطا» راهباً فى تلك الحياة التى طالما أشتاق إليها وسعى نحوها كانت تلك الحياة هى مبتغاه ومنتهى آماله فلم يكل أو يمل من خدمة الجميع وكان يقوم بكل الأعمال الديرية إلا أنه ورث عن أبيه نسخ وحفظ الكتب الكنسية فكانت مكتبة الدير هى وجهته وفيها قام بإعادة تصنيف وفهرسة المكتبة وترميم ما تلف من كتبها ونسخ ما يحتاج إلى نسخ وخاصة تراث «مار إسحق السريانى» الذى قام بتجميع كل كتاباته ونسخها فى خمسة مجلدات.∎