الأربعاء 22 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
سنة من عمر مصر

سنة من عمر مصر


كانت سنة صعبة ومؤلمة على «مصر والمصريين»!
أتحدث عن سنة 4191 لا سنة 4102، لا أتحدث عن مصر الآن، ولكن أتحدث عن أحوال مصر قبل مائة سنة بالضبط!!
فى تلك السنة من «عمر مصر» شهدت مصر أزمات وهمومًا سياسية واقتصادية تكفى لكسر أى وطن، من عزل الخديوى «عباس حلمى الثانى» ونفيه إلى قيام الحرب العالمية الأولى، وما جرته على مصر من مصائب، ومن التفكير فى إعلان استقلال مصر إلى وضع مصر تحت حماية بريطانيا، ومن وضع حجر الأساس للجامعة المصرية إلى بيع سكك حديد مصر!!
وفى كل الأحوال لم تنكسر مصر، وبقيت كعادتها عبر التاريخ، وطنًا لكل المصريين، ذهب واختفى كل من حاول قتلها أو حتى خدشها بسوء، وكل من حاول أن يحفر لمصر حفرة وقع فيها، وبقيت مصر دائمًا هبة المصريين، كما كانت هبة النيل، والتاريخ وأحداثه ووقائعه لا تكذب ولا تتجمل!!
 
كانت مصر تشهد حدثًا سياسيًا بالغ الأهمية حيث صدر قانون أحل «الجمعية التشريعية» محل مجلس الشورى والجمعية العمومية، وانتخب «سعد زغلول» وكيلاً للجمعية، أما رئيسها فقد كان بالتعيين وهو «أحمد مظلوم باشا»، وقد حضر حفل الافتتاح الخديوى عباس حلمى الثانى فى 22 يناير ,1914 وحسب شهادة د.«محمد حسين هيكل باشا» فى أن هذه الجمعية التشريعية هى النواة الأولى للنظام البرلمانى المصرى، وأذكر أن موضوع عقوبة الإعدام وبقائها أو إلغائها كان موضوع بحث فقهى ذات صبغة جدية استدعت مناقشات طويلة.
ويطالب «سعد زغلول» بإعطاء الصحافة الحرية اللازمة لزيادة نجاحها وارتقائها فى خدمة الأمة، وإصدار قانون تكفل بمقتضاه حرية الصحافة ويصان به النظام العام إذا ما حدث وخرجت الصحف عن جادة الصواب.
كان الخديوى «عباس حلمى الثانى» على خلاف مستمر مع رئيس الوزراء «محمد سعيد» باشا المسنود تمامًا من «المندوب السامى البريطانى» «اللورد كتشنر» الحاكم الحقيقى لمصر، كان الخديو قد أنشأ سكة حديد مريوط فى عام 1899 بمسافة 280 كيلو متر وأراد بيعه لإيطاليا فاعترض «كتشنر» و«سعيد باشا» الذى نجح فى شراء خط سكة حديد لحساب الحكومة بمبلغ 390 ألف جنيه «ثلاثمائة وتسعون ألف جنيه»، وغضب الخديو من رئيس الوزراء لاعتقاده أن هذا الثمن بخس وضئيل فأقاله يوم 4 أبريل 1914 وتولى الوزارة بدلاً منه «حسين رشدى باشا».
∎∎
بدأت الحرب العالمية الأولى بحادث تافه عندما تم اغتيال ولى عهد النمسا يوم 28 يونيو بيد أحد المواطنين «الصرب»، فأعلنت النمسا الحرب على الصرب فى نفس اليوم.
ودفعت «مصر» التى كانت تحت الاحتلال الإنجليزى فاتورة هذه الحرب فقد أصدرت الحكومة قانونًا لمنع التجمهر والعقاب عليه، واعتبر تجمهرًا كل اجتماع من خمسة أشخاص على الأقل فى الطريق أو محل عمومى ولو لم يكن له قصد جنائى متى رأى رجال السلطة أنه يجعل السلم العام فى خطر، وخولهم هذا القانون أن يأمروا المتجمهرين بالتفرق، ومن لم يطع هذا الأمر يعاقب بالحبس لمدة أقصاها ستة أشهر أو بغرامة أقصاها عشرون جنيهًا.
وتم إعلان الأحكام العرفية ووضع الرقابة على الصحف ابتداء من 2 نوفمبر 1914 وقرر «أمين الرافعى» صاحب جريدة الشعب يوم 27 نوفمبر تعطيل جريدته احتجاجًا.
وأوقفت سلطات الاحتلال صحيفة «الاستقلال» التى كان يصدرها «سلامة موسى»، ولم يكن مسموحًا للصحافة أن تنشر ما من شأنه أن يكدر السلم العام أو يزيد كراهية الناس تجاه بريطانيا.
ساءت أحوال الناس الاقتصادية وصدر قرار الحكومة بمنع تصدير المواد الغذائية، وزادت نسبة العاطلين مما دعا إلى تجمع حوالى ألف وخمسمائة عاطل أمام مديرية الإسكندرية طالبين عملاً أو قوتًا يسد جوعهم، وفى 3 سبتمبر قامت مظاهرات صاخبة للعاطلين فى القاهرة، وألقى البوليس القبض على 150 منهم، وقامت نقابة عمال الصنائع اليدوية بتوزيع الخبز مرتين فى الأسبوع على العمال العاطلين.
ووصلت المأساة إلى ذروتها عندما راح البعض يهجم على محلات البقالة والمخابز ويلتهم ما فيها، وأخذ التجار يخبئون ما عندهم من البضائع فارتفعت أسعار المأكل والملبس ومواد الوقود كالفحم، كما ارتفعت أسعار التبغ والشاى والأحذية، وكثر الغش فى كل شىء فى الوزن والصنف!!
فى نفس الوقت شهدت مصر العديد من الأحداث المهمة فى حياتها، ففى 30 مارس تم وضع حجر الأساس للجامعة وتحملت الأميرة «فاطمة» كل النفقات وتبرعت بوقف ستمائة فدان من أملاكها لتقام عليها الجامعة، وشهد حفل الافتتاح خديو البلاد وكل الأمراء وقاضى مصر وشيخ الجامع الأزهر، وصدحت الموسيقى العسكرية بالنشيد الخديوى، وغنى المطرب «زكى عكاشة» نشيدا من تأليف أمير الشعراء «أحمد شوقى بك».
وفى 5 مايو حصل الشاب الضرير «طه حسين» على رسالة الدكتوراه فى تاريخ أبوالعلاء المعرى، فكان أول طالب يتخرج فى الجامعة المصرية، ثم تقرر إيفاده إلى فرنسا ليتم دراسته العليا، ويستقبله الخديو فى قصره بالإسكندرية، وعندما أخبره طه حسين بأنه سيحاول السفر إلى فرنسا لدراسة الفلسفة أو التاريخ قال له: إياك والفلسفة فإنها تفسد العقول!! وأضاف: ولكنها تفسد الذوق أيضا!!
وفى صيف هذا العام انتهت مدة خدمة عالم الآثار الشهير «ماسبيرو» والذى كان يشغل منصب مدير الآثار المصرية وأقامت الجامعة حفل تكريم للرجل برئاسة الأمير «أحمد فؤاد» الذى كان رئيسا شرفيا للجامعة.
ومن عجائب ما تحدثت عنه مصر وصحافتها وصول الطيار «جول فدرين» إلى مصر بعد فوزه فى مسابقة للطيران مع اثنين فرنسى وإنجليزى، فوصل «فدرين» بطائرته أولا وطار بطائرته فى بعض الأماكن بمصر، ويوم الاحتفال بعيد جلوس الخديو فى 8 يناير حلق فدرين بطائرته فوق الميدان وألقى العلم المصرى فى مكان الاحتفال بين دهشة وذهول الجميع من هذا الاختراع.
وفى أبريل من نفس العام لاحظت رائدة المرأة «هدى شعراوى هانم» وجود نهضة أدبية بين السيدات الراقيات، فقررت تأسيس ناد أدبى لهن، يجتمعن فيه للبحث فى الشئون الأدبية والاجتماعية، وعرضت الفكرة على بعض الأميرات فوافقن، وكانت الاجتماعات تعقد فى منزلها برئاسة شرف الأميرة أمينة حليم وعضوية الأميرات والأديبة «مى».
وتقول هدى شعراوى فى مذكراتها «إنه فى يوم الخميس ليلة الجمعة 6 أغسطس الجارى تمثل جوقة «فرقة» من السيدات الممثلات اللائى لهن شهرة كبرى فى فن التمثيل رواية العشاق الثلاثة وهى رواية غرامية جديدة وسيكون جميع ممثليها من الملك والوزير والقواد والشعب والخدم من السيدات!! وتختتم الليلة حضرة الممثلة الكوميدية الشهيرة الست «أندرينيكا» الرومية بفصل مضحك جديد، هذا بخلاف القصائد الغرامية والمنولوجات الهزلية التى تلقيها جوقة السيدات خلال تمثيل الرواية التى ستكون فى تياترو «برنتاينا» الكائن خلف التلغراف المصرى بأول شارع بولاق.
وهذه أول مرة تظهر فيها النساء على المسرح تمثل أدوار الملوك والقواد ومحاربة الأعداء والدفاع عن الوطن، فنرجو أن يكون الإقبال عظيما على تلك الليلة التى لم يسبق لها مثيل فى مصر».
وعلى ما يبدو فقد كانت أحوال التمثيل وقتها محل انتقادات شديدة وتنتقد صحيفة «المحروسة» «8 يوليو 1914» احتفاء تونس وتكريمها للشيخ «سلامة حجازى» وهو ما لم يحدث له من الحكومة المصرية!! ولم ينل منها أدنى مساعدة أو أقل وسام، وكان باى حاكم تونس قد منح سلامة حجازى الوسام الثانى من درجة أوفيسيه!!
وكانت صحيفة المحروسة أيضا أول من كتب تقترح إنشاء مدرسة للتمثيل فى مصر، فى مقال كتبه «على عنايات» بتاريخ 6 نوفمبر ,1914 وجاء فيه قوله: حان الوقت للاهتمام بالتمثيل اهتمامنا بغيره، لا أدرى ما الذى أخرجنا حتى اليوم عن النظرة فى إنشاء مدرسة لتدريسه، مدرسة بسيطة توسع شيئا فشيئا، ويجب أن يكون بالمدرسة قسم للنساء ومع الأيام لا يبقى أدنى احتياج لجهلاء الممثلين والممثلات.
وتنشر الصحف قبل ذلك رسالة من قارئ صيدلى يقول فيها: إن اشتغال المرأة بالتمثيل أشرف لها من الاشتغال بالدعارة، وأنه إذا أصرت الفتيات المتعلمات على الإعراض عن الاشتغال بالمسرح فلا محيص من انتقاء الموهوبات من جامعات أعقاب السجاير لتلقينهن دروسا فى مبادئ التمثيل!!
وفى هذا العام أيضا- 1914- وجد الشاب «نجيب الريحانى» «22 سنة» نفسه مفصولا للمرة الثانية من شركة السكر بالصعيد، وعاد إلى القاهرة ليلتحق بفرقة «جورج أبيض»، وكانت أول مسرحية يظهر بها هى «صلاح الدين الأيوبى»، ولعب فيها دور ملك النمسا!! لكنه تقمص الدور على نخو مغاير تماما مما جعل الجمهور ينطلق فى عاصفة من الضحك على ما يراه، يقول «نجيب الريحانى» فى مذكراته عن ذلك:
«اندفع «جورج أبيض» ثائرا مثل ريتشارد قلب الأسد، ففوجئ بمظهرى هذا، وتبخرت حماسته وانطفأت شعلته، وأحسست بأنه يغالب عاصفة من الضحك تكاد تنفجر على شفتيه ومن أسارير وجهه، كل ذلك وأنا واقف فى مكانى لا أبتسم ولا أخالف طبيعة الموقف، أقول إن «جورج أبيض» دخل ثائرا وهو يصرخ مرددا كلمة ريتشارد المأثورة: ويل لملك النمسا من قلب الأسد!! ولكن ويل إيه وبتاع إيه!! ما خلاص جورج ما بقاش جورج والمسرح بقى عيضة والحابل اختلط بالنابل زى ما بيقولوا».أما عن الأجر الذى كان يتقاضاه «الريحانى» فلم يكن يزيد على خمسة وثلاثين قرشا!!
اختلف الأمر تماما بالنسبة للصبية «أم كلثوم» التى كانت الشهرة قد عرفت الطريق إليها فى محيط قريتها، وبعد الغناء كانت تأكل طبق المهلبية حتى ارتفع أجرها إلى مائة وخمسين قرشا فى إحياء الفرح، واعتبر والدها هذا المبلغ علامة الغنى والثراء فاشترى «حمارا» تركب عليه أم كلثوم بدلا من السير على الأقدام، ومنعا للحسد قام والدها بتعليق خرزة زرقاء فى رقبة الحمار!!
وتصف السيدة «روزاليوسف» أجواء تلك الأيام بقولها: فلما جاءت الحرب العالمية الأولى وامتلأت مصر بجنود الإنجليز والمستعمرات اكتسحت القاهرة، بالتالى موجة من الانحلال وشاعت الكباريهات والحانات حتى قتلت المسارح وانكمش المصريون فى حياتهم الخاصة تاركين الميدان للجنود السكارى، ولم تبق من فرق التمثيل إلا فرقة جورج أبيض.
∎∎
كان عدد سكان مصر فى ذلك العام- 1914- اثنى عشر مليونًا ومائتين واثنين وتسعين ألف نسمة، وتكتب مجلة «الكشكول» عن زحام الشوارع واختناق المرور، وخاصة شارع الموسكى، فإن الازدحام فى هذا الشارع وكثرة ما يجتازه من الناس والحيوانات والعربات والسيارات والدراجات والموتوسيكلات يجعل الذى يدخله فى حكم المفقود والخارج منه مولود.
وشهد ذلك العام مولد عدد من الأطفال شاءت الأقدار أن يلعبوا دورا مهما فى تاريخ مصر بعد سنوات ومنهم «التوأم» «مصطفى وعلى أمين» «21 فبراير» مأمون الشناوى، أمين يوسف غراب، أمينة السعيد، لويس عوض.
أما أشهر وفيات ذلك العام فكان «أحمد فتحى زغلول» القاضى وشقيق سعد زغلول وجورجى زيدان مؤسس مجلة الهلال، ومصطفى فهمى باشا أطول رئيس وزراء عرفته مصر «13 سنة متصلة»، وتزوجت ابنته «صفية» من سعد زغلول.
لقد رحل عن الدنيا كل الأسماء التى شكلت أحداث سنة 1914 بكل ما جرى فيه وبقيت مصر.