السبت 18 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
مصر بعيون أول سفير سوفيتى!

مصر بعيون أول سفير سوفيتى!


كانت بداية العلاقات «المصرية - الروسية» فى زمن «محمد على» والى مصر و«إسكندر الأول» قيصر روسيا فى بدايات القرن الـ .18 عندما قام قيصر روسيا بتعيين «جورج سيفينى» قنصلا عاما لروسيا فى مصر، وكان ذلك فى أغسطس 1818أى منذ 195 سنة تقريبا!
 
وبعد 18 عاما قام «نيقولا الأول» الإمبراطور بتعيين الكولونيل «دوهاميل» ليكون قنصلا عاما لروسيا فى مصر، وكان ذلك فى يناير سنة 1834 وقد وصل إلى الإسكندرية بالباخرة بعد رحلة استغرقت 22 يوما.
 
بقى دوهاميل فى مصر حوالى ثلاث سنوات ونصف السنة انتهت فى أواخر نوفمبر سنة 1837 وطوال سنوات إقامته بمصر كتب الرجل لبلاده عشرات ومئات التقارير عن «الموقف فى مصر»، من لقاءاته بالوالى وكبار رجال الدولة وجولاته فى البلاد حتى دراساته العميقة عن أحوال مصر السياسية والاقتصادية والصحية والاجتماعية والتعليمية، وكان عدد سكان مصر وقتها حوالى مليونين ونصف المليون من السكان.
 
إن تقارير «دوهاميل» إلى بلاده تكاد تكون نسخة مهمة يمكن أن نسميها «وصف مصر بالروسى» وأتمنى أن أكتب عنها ذات يوم!
 
وما أكثر المقالات والدراسات والكتب الروسية عن «مصر والمصريين» طوال كل هذه السنوات، ومن بينها اخترت مذكرات أول سفير للاتحاد السوفيتى - السابق - فى مصر وهو «نيكولاى نوفيكوف»، حيث أقيمت العلاقات بين مصر والاتحاد السوفيتى فى 26 أغسطس سنة 1943فى زمن الحرب العالمية الثانية.
 
المذكرات عنوانها «يوميات دبلوماسى فى بلاد العرب» وصدرت فى موسكو عام 1987 من ترجمة الأستاذ «جلال الماشطة» ثم أعاد نشرها الأستاذ الكبير صلاح عيسى فى مارس 1990 ضمن سلسلة كتاب الأهالى، وأضاف إليها مذكرات السفير فلاديمير فينوجرادوف آخر سفير سوفيتى فى زمن الرئيس السادات.
 
«حصل فى حياتى تغير مهم، إذ عينت ممثلا للاتحاد السوفيتى فى مصر»!
 
بهذه الكلمات يبدأ السفير «نوفيكوف» مذكراته وذكرياته عن مصر والمصريين، ويقول: «كانت مصر دوما من البؤر الكبرى للنضال التحررى الوطنى فى الإمبراطورية الاستعمارية البريطانية، وغالبا ما حمل المصريون السلاح فى مسعى لنيل الحرية والاستقلال، وكانت ثورتا 1882 و1919 من أهم الانتفاضات المصرية».
 
وبعد يومين من وصوله إلى القاهرة زار السفير مصطفى النحاس باشا ليس بوصفه رئيسا للوزراء، بل بوصفه وزيرا للخارجية إذ كان يجمع المنصبين، ويقول عنه: «كان وافر الشجاعة والوطنية، كان يضع على رأسه الطربوش الأحمر التقليدى لدى المصريين، وارتسمت على محياه ابتسامة بشوش، تقدم لاستقبالى وصافحنى بقوة، ثم قال بنبرة ودية:
 
«يسعدنى أن أرحب فى شخص سيادتكم بأول مبعوث رسمى للاتحاد السوفيتى فى مصر، إننى أشعر بأعمق الارتياح لأن الحكومة التى أترأسها بادرت إلى إقامة العلاقات الدبلوماسية مع دولتكم العظمى، وأنا أعتبر مجيئكم إلى هنا نجاحا دبلوماسيا لمصر، بل بداية مرحلة جديدة لوجودها الوطنى».
 
أجبت - السفير - على هذه التحية التى كان من الواضح أنها تخرج عن إطار المجاملة البروتوكولية الرسمية بقولى:
 
إنه لشرف عظيم بالنسبة لى أن أمثل الاتحاد السوفيتى فى بلد مثل مصر له تاريخ عظيم مجيد يمتد إلى قرون عديدة، فى بلد هو فى وقت واحد عريق وفتى ينزع بكل جوارحه إلى المستقبل، لقد قدرت الحكومة السوفيتية تقديرا عاليا إرادة مصر الطيبة، وهى من جانبها لن تدخر جهدا لتطوير العلاقات الودية بين بلدينا».
 
يقول السفير «إنه بعد ذلك استمر الحديث ثلاثة أرباع الساعة، وكان بالفرنسية، وتناول حديثنا عددا من القضايا الدولية الحيوية، بدءا من العمليات الحربية الجارية على الجبهة السوفيتية الألمانية، ولم يبخل «النحاس باشا» بكلمات الثناء والإعجاب عند تطرقه إلى جبروت الجيش الأحمر الذى كان يدحر العدو - الألمان - على جبهة هائلة الأبعاد».
 
وقام السفير بتسليم النحاس باشا الترجمة الفرنسية لأوراق اعتماده وهى رسالة الرئيس السوفيتى «ميخائيل كالينين» إلى الملك فاروق حول تعيينه مبعوثا للاتحاد السوفيتى بغية إقامة علاقات ودية بينه وبين مصر.
 
وعندما سأل السفير عن موعد تسليم أوراق اعتماده إلى الملك فاروق أجابه النحاس باشا بأن ذلك قد يتأجل لثلاثة أو أربعة أسابيع بسبب بقاء الملك فى المستشفى بعد حادث القصاصين الشهير!
 
كانت زيارة السفير لرئيس الوزراء مثار اهتمام الصحافة، ويقول السفير: «فى اليوم التالى نشرت جميع الصحف أنباء حول زيارة المبعوث السوفيتى إلى وزارة الخارجية، وفى الوقت نفسه أوردت بعض المعلومات عن سيرة حياتى استقتها من قسم التشريفات، لكن بعض الصحف حرفت الحقائق وأحيانا بشكل مضحك، كما يحصل لأى خبر تتناقله الألسن ويضيف له كل من عنده «توابل».
 
وضربت الرقم القياسى فى هذا المجال صحيفة «الإصلاح» الصادرة فى الإسكندرية لا أعرف لماذا أسمتنى «نيقولا جودينوف»، وأنقصت عمرى عشر سنوات تقريبا، وحرمتنى من ولدىّ، لكنها رزقتنى بفتاة عمرها سبعة أعوام، ادعت أنها ظلت فى موسكو لحين انتهاء دراستها!
وقدمت الصحيفة كذلك «وصفا» مفصلا لطباعى وهيئتى وملبسى، وكل ذلك بالطبع كان مخالفا للحقيقة، بيد أن ذروة الاكتشافات تمثلت فى نبأ يزعم أن «نيقولا جودينوف» يتقن العربية ويتكلمها مثل الفقهاء ويعرف بديعها كالدكتور طه حسين، ومهما دغدغ هذا النبأ مشاعرى فقد اضطررت إلى تكذيبه! فللأسف كانت معرفتى بالعربية سطحية تماما»!
 
وكان لابد للسفير من زيارة «اللورد كيلرن» السفير البريطانى وعميد السلك الدبلوماسى فى القاهرة، وحسب كلامه فقد استقبله ببشاشة تفوق بشاشة «النحاس باشا» وطوق كتفه بذراعه وكأنه صديق قديم، ويقول السفير:
 
«كنت ميالا إلى التصديق بحفاوة رئيس الوزراء المصرى، إذ إنها لم تكن تناقض المنطق السياسى فإن وجود ممثل للاتحاد السوفيتى - النصير الأمين لحركة التحرر الوطنى فى القاهرة كان بالنسبة للنحاس باشا واحدا من عوامل تعزيز سيادة مصر الوطنية، ولكن هل ترى كان هذا مدعاة حماس سفير بريطانيا العظمى التى اضطرت على مضض إلى القبول بإقامة علاقات سوفيتية مصرية؟!
 
وأعرب اللورد كيلرن عن استيائه مع ولع أعيان البلد بالمآدب التى ينجر إلى دائرتها الدبلوماسيون شاءوا ذلك أم أبوا، وقال:
 
- لن تصدق يا سيادة السفير كم من الوقت الثمين نهدره هنا لحضور الولائم والاحتفالات! حتى ليفكر المرء أن القاهريين ليس لهم من شغل سوى الانتقال من صالة الاستقبال إلى صالة الطعام، ومن صالة الطعام إلى صالة الاستقبال!»
 
 
تماثل الملك فاروق للشفاء وعرف السفير «نوفيكوف» من الصحف موعد لقائه بالملك فاروق الذى تحدد بيوم 25 ديسمبر 1943 ويروى السفير كيف إسماعيل تيمور بك كبير مرافقى الملك كان قد وصل إلى السفارة السوفيتية فى عربة فخمة تجرها أربعة جياد مطهمة، وتتبعها عربة أخرى بمثابة الأخت التوأم لها، وعلى طول الطريق من السفارة إلى القصر كانت الميادين والجسور والشوارع المعبدة - المرصوفة - أفضل تعبيد مغطاة منذ الصباح برمل ذهبى اللون! وكان يجرى بمحاذاة العربة الأمامية مناديان يرتديان جببا صفراء وسراويل بيضاء وهما يعلنان للناس المحتشدين على الأرصفة عن اسم راكب العربة الملكية ووجهته وغايته!
 
وكان السفير يتطلع من نافذة العربة فيرى الناس فى كل مكان «تحيينا بالهتاف والتصفيق وترمى الطرابيش إلى السماء وتلوح بالأيدى والمناديل».
 
وانتهت المراسم الملكية ووصل السفير إلى «قاعة العرش» وتحت مراسيم تسليم الأوراق للملك! ثم يقول السفير «نوفيكوف»:
 
«جرى لقائى الشخصى بالملك بعد بضعة أيام «29 ديسمبر» وتوجهت إلى قصر عابدين - لم أستقل العربية الملكية، بل ركبت سيارة السفارة السوداء السوفيتية الصنع وعليها يرفرف العلم الأحمر، وفى القصر اقتادنى سكرتير «فاروق» الشخصى إلى مكتب الملك الفسيح، حيث كان يجلس وحيدا إلى مكتبه.
 
نهض الملك ورسم على شفتيه ابتسامة ترحيب وسار بضع خطوات فى اتجاهى، وضع السكرتير مقعدا لى قرب المكتب، وجلس الملك فى مقعده المقابل».
 
واستغرق الحديث بينهما حوالى الساعة، فى بدايته قدم السفير التهنئة للملك بمناسبة مولد ابنته الثالثة «فادية»، ثم خرج الحديث عن إطار الشكليات وتطرق إلى السياسة، «وأخذ الملك زمام المبادرة بيده فبدأ من الثناء على الجيش الأحمر، ووجه إلىّ سيلا من الأسئلة حول الاتحاد السوفيتى خاصة فى مختلف ميادين الحياة فى جمهورياته الإسلامية، وأجبت عن أسئلته دون توانٍ وعن دراية».
 
يقول السفير إن الملك فاروق رد علي أسئلته الاقتصادية بإسهاب وأورد أحيانا أرقاما إحصائية وأبدى قلقا عند تحدثه عن الغلاء الفاحش فى أسعار الحاجيات الضرورية التى ارتفعت 3-4 مرات بالمقارنة مع مستوى ما قبل الحرب.
 
«وعندما اقترب حديثى مع فاروق من خاتمته فاجأنى بدعوتى لرحلة صيد يعتزم القيام بها فى مزارعه قرب الإسكندرية».
 
يعترف السفير إنه وجد نفسه فى موقف محرج فهو لم يكن ميالا لهذه الهواية، ولم تكن لديه بندقية صيد أو الملابس اللازمة، وهنا لجأ إلى حجة مقنعة مقبولة ومؤدبة وبعد أن أطنب فى شكر الملك على الشرف الرفيع قال له مبتسما:
 
«ولكنكم يا صاحب الجلالة، لاتتصورون مدى المجازفة التى تقدمون عليها بدعوتى، فأنا لم أمسك بندقية صيد فى حياتى، ثم إننى قصير النظر إلى أبعد الحدود، أخشى أن مشاركة زميل مثلى فى الصيد سوف تحرمكم من نصف أفراد حاشيتكم فتطلبون استدعائى فورا، لذا فإننى لشديد الأسف مضطر إلى رفض الشرف المعروض على حفاظا على مصالح الدولة العليا.
 
تقبل الملك فاروق برحابة صدر خطابى الساخر وأعرب عن الأسف لأننى لن أكون بمعيته».
 
ثم يقول السفير: أبرزت الصحف كخبر مثير واقع أن لقائى بفاروق استمر فترة طويلة «حوالى ساعة» بشكل غير معهود!
 
وأتوقف بالتأمل أمام هذه السطور من ذكريات السفير «نوفيكوف»:
 
«علاوة على الأمور الجارية شرعنا منذ الأيام الأولى بأداء المهمات الأساسية للسفارة، وقد كانت فى مقدمتها مهمة اكتشاف «مصر المعاصرة»، التى ظلت طوال عقود من السنين مغلقة فى وجه المواطنين السوفييت، باستثناء بحارة سفننا التى كانت قبل الحرب تمر عبر قناة السويس أو تشحن بالقطن فى الإسكندرية، ولم نكن نعتبر المعلومات التى فى حوزتنا عن هذا البلد عند وصولنا إليه سوى منطلق لدراسة متعمقة للواقع المصرى، وقد تناولنا بالمتابعة والتحليل جذور التناقضات الاجتماعية ومظاهرها الملموسة، وتغير تناسب القوى السياسية وأشكال صراعها على السلطة ومجالات النفوذ، ومدى نفوذ أفراد الحاشية وكبار رجال البلاد والساسة ورجال الثقافة وطبيعة شخصياتهم، والظواهر الجديدة فى شتى ميادين الحياة الروحية والاقتصادية.
 
ولقد كانت متابعتنا وتحليلنا لهذه الظواهر عونا لوزارة الخارجية لكى تحدد بمزيد من الدقة الخط السياسى فى تعامل الاتحاد السوفيتى مع مصر، ولما كنت أعتبر الاختلاط الشخصى مع الناس من جميع المراتب والفئات الوسيلة الأهم لمعرفة البلد، فقد صار الاختلاط بالناس واجبا لابد منه بالنسبة لكل من دبلوماسيينا».
 
وهكذا زار السفير بعض أفراد الأسرة المالكة، ولى العهد الأمير «محمد على» والأمير «عمر طوسون» والأميرة «شويكار».
 
 
كما حرص السفير على مقابلة معظم السفراء الأجانب فى مصر ومنهم «ألكسندر كيرك» مبعوث الولايات المتحدة لدى مصر وأيضا لدى السعودية، ثم خلفه من بعده «بينكنى تاك» «أصبح بعد ذلك مديرا لشركة قناة السويس» ويقول السفير إنه خرج بانطباع من أحاديثه معهما بأن الولايات المتحدة كانت منذ الحرب تهيئ التربة لتوسيع نفوذها السياسى والاقتصادى، وكان رهانها على أنه إثر ضعف مواقع بريطانيا وفرنسا فى الشرق الأوسط سوف تقدم الولايات المتحدة بلعب الدور الأول فى المنطقة، وكتبت الصحف الأمريكية صراحة عن مثل هذه الخطط!
 
ويحكى السفير عن لقاءين له مع وزير الزراعة «مصطفى نصرت»، حيث يقول:
«كان يجد فى مبعوثا عن جهة يمكن أن تشترى كميات كبيرة من القطن المصرى، وقد عززت فى نفسه هذه القناعة معربا عن الأمل بأن وقت الخطوات العملية سوف يحين عما قريب، ورغم أن الاتحاد السوفيتى نفسه بلد منتج للقطن، فإنه سوف يحتاج إلى القطن المصرى النفيس الطويل التيلة، وفى المقابل يوسع الصناعة السوفيتية بعد انتقالها من الإنتاج الحربى إلى السلمى، تزويد مصر بالماكينات والمواد الكيمائية وغير ذلك من السلع اللازمة لها».
 
 
«أيام عمل السفارة» «..تحت هذا العنوان يحكى السفير عن مهمة أخرى للسفارة السوفيتية بالقاهرة، وهى كيفية جعل المصريين على معرفة بالاتحاد السوفيتى لتبديد ضباب الكذب والافتراء والتضليل الذى ظل سنوات طويلة يلف تصورات المصريين عن بلدنا، وإزالة جدار الريبة إزاءه، وأن يبين الدور الذى لعبه الشعب السوفيتى وجيشه الأحمر فى سحق الفاشية ألد عدو للبشرية، واكتشاف أصدقائنا واجتذابهم نحونا وتكوين أصدقاء جدد وهذا أهم.
 
وتعددت الوسائل من إقامة صلات شخصية سريعة مع ممثلى أوساط الرأى العام وتنظيم معارض وثائقية وعرض أفلام سينمائية بمواد إعلامية وكان الهدف إرساء أساس الصداقة بين الشعبين السوفيتى والمصرى، وبقناعة راسخة من أن مصر سوف تنال استقلالها إن عاجلا أو آجلا، وعندها سوف يشيد على ذلك الأساس صرح العلاقات السياسية والاقتصادية الوثيقة بين بلدينا.
 
ثم يحكى السفير عن تفاصيل احتفالات السفارة بالذكرى السادسة والعشرين لتأسيس الجيش الأحمر وتم توجيه الدعوة لأكثر من ثلاثمائة ضيف بينهم عدد كبير من العسكريين وحضر من مصر «أحمد حسنين باشا» رئيس الديوان الملكى»و«صلاح الدين بك» سكرتير الخارجية المصرية واعتذر «مصطفى النحاس باشا» رئيس الوزراء لانشغاله فى أمور عاجلة وعدد كبير من الصحفيين والشخصيات الاجتماعية، ثم يقول:
 
«من بين أبرز المثقفين الذين حضروا الحفل الأديب والعالم المصرى المعروف «طه حسين» الذى لم يتسن لى فى تلك الأمسية التحدث إليه طويلا، فاقتصرنا على عبارات التحية، وقد تعرفنا عن قرب إلى بعضنا بعد شهرين، حينما شاءت لنا الصدف أن نكون زميلين فى «لجنة الصندوق المصرى لمساعدة المدنيين فى الاتحاد السوفيتى»، لقد كان طه حسين شخصية فذة»!!
 
وبعد مديح طويل من السفير عنه يقول:«وكان طه حسين الديمقراطى النزعة يعلن عن مقته للمعتدين الفاشيست وقرفه منهم ويتحدث بحرارة عن عواطفه إزاء الاتحاد السوفيتى الذى يخوض حرب تحرير مظفرة، وبدافع من هذه المشاعر بالذات وليس لاعتبارات شكلية انتمى إلى لجنة الصندوق المصرى، حيث كان لاسمه قوة جذب كبيرة بالنسبة للمثقفين المصريين، ولقد كان آنذاك فى الخامسة والخمسين وفى ذروة مجده الأدبى والعلمى».
 
ويحكى السفير هذه الواقعة الطريفة، فيقول: فى مطلع عام 1944 تفضل الفلكى القاهرى «محمد على الحسينى» بتهنئتى بمناسبة عيد رأس السنة وقد أرفق رسالته تخميناته لعام 1944 لكى نستفيد منها فى عمل السفارة!! ولا أعرف مدى اهتمام الفلكى بمتابعته، ولكن من المؤكد أنه تابع باهتمام الأحداث السياسية فى كوكب الأرض وحللها تحليلا سيئا!! لم ينفعنا تعب المنجم فى شىء، إذ إننا كنا فى عملنا نسترشد لا بالنجوم، بل بسير الأحداث الفعلى.
 
 
وتقترب الذكريات من نهايتها، حيث يتسلم السفير السوفيتى برقية من موسكو تفيد بالموافقة الرسمية على تعيينه وزيرا مفوضا فى واشنطن!
 
وبدأت رحلة الوداع ويزور السفير «النحاس باشا» ويخبره بأنه سيغادر مصر لتعيينه فى منصب جديد، كما أن مستشار السفارة «سولود» سيغادر مصر لتعيينه مبعوثا فى سوريا ولبنان، وأعرب النحاس باشا عن أسفه لرحيل دبلوماسيين سوفيتيين وأثنى كثيرا على عملنا فى تطوير العلاقات الودية بين مصر والاتحاد السوفيتى.
 
وطوال الأسبوع الأول من شــهر أكتــوبر 1944 انشــــغل السفير السوفيتى بتوديع زملائه فى السلك الدبلوماسى وكبار المسئولين المصريين كما ينص البروتوكول وفى نفس الوقت قام الملك فاروق بدعوته مع زوجته لزيارة الأقصر قبل سفره وأقام «مصطفى النحاس» مأدبة غداء له.
 
وفى يوم 13 أكتوبر يغادر السفير مصر بعد حوالى ثمانية أشهر ليبدأ مهام عمله فى الولايات المتحدة!! ولم ينس السفير أن تكون آخر سطور مذكراته: «شهدت مصر فى السنوات الأولى التى أعقبت الحرب نهوضا جبارا فى حركة التحرر الوطنى، وسرعان ما تمخضت عن ثورة 23 يوليو 1952 التى تزعمها الضباط الأحرار، وفى السادس والعشرين من يوليو تنازل فاروق عن العرش ونفى إلى الخارج، فدشنت مصر العريقة عهدا جديدا من عهود تطورها».