الأربعاء 22 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
أغرب حوار بين السادات وشيوعى!

أغرب حوار بين السادات وشيوعى!


لا أظن أن شباب هذه الأيام - سواء شباب الثورة أو شباب حزب الكنبة أو شباب «الأولتراس» - قد سمعوا باسم «محمود توفيق» فلا هو ناشط سياسى تتسابق الفضائيات على استضافته، ولا هو «ناشط حقوقى» يتكلم فى كل الموضوعات حتى الكروية منها، ولا هو «محلل استراتيجى» محترف تحليل ولا هو عضو فى حركات وائتلافات ما أنزل الله بها من سلطان !!
 
 ولأن «محمود توفيق» ليس واحدا من هؤلاء، لكنه أفضل وأصدق من أغلب هؤلاء بسيرته ونضاله ومواقفه الوطنية والسياسية بل الثقافية !!
 
«محمود توفيق» «87 سنة» أعطاه الله الصحة والستر من مواليد عام 1926 فى إحدى قرى محافظة بنى سويف، لقد ورث الوطنية عن والده «محمد توفيق على» - مواليد 1882 وتوفى 1937» الضابط بالجيش المصرى فى السودان والشاعر الكبير أيضا ومن دواوينه «قفا نبك والسكن وتسابيح الأطيار والروضة الفيحاء وترنيم الأوتار»، لقد ورث الابن «محمود» عن والده «الوطنية» وأيضا حب الشعر وكتابته أيضا رغم أنف السياسة والنضال الوطنى والثورى ضد الاستعمار، والنظام الملكى عبر انضمامه إلى تنظيم يسارى ماركسى «حدتو» أو «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى»، وكان ذلك عام 1946 عندما كان «إسماعيل صدقى باشا» رئيسا للحكومة وقام بأكبر حملة اعتقالات للشيوعيين والماركسيين بل جميع الأطياف الوطنية الأخرى.
 
 87 عاما حافلة بالنشاط الوطنى والثورى والثقافى والسياسى رواها محمود توفيق فى مذكراته التى بلغت صفحاتها حوالى تسعمائة صفحة أصدرتها «ميريت» فى جزءين مع «الأيام» و«أيام أخرى» ويجمعهما عنوان «ذكريات شاعر مناضل» فقد صدر لمحمود توفيق أيضا خمسة دواوين شعرية .
 
صحيح أن «محمود توفيق» اليسارى لم يُسجن فى زمن الملكية لكنه سجن فى زمن الجمهورية لمدة خمس سنوات فى القضية رقم 100 «مائة» لسنة 1954 مع زملائه وكان من بينهم الكاتب اللامع الأستاذ الكبير «صلاح حافظ» أحد ألمع رؤساء تحرير مجلة روزاليوسف .
 وما أكثر الحكايات والقصص فى ذكرياته لكنى أتوقف أمام محطة روزاليوسف فى حياة الأستاذ «محمود توفيق»، فما كان ينشره فيها من مقالات أو قصائد أثار من الأزمات له مع رفاقه اليساريين والماركسيين معارك وأزمات !
 
عندما كان «محمود توفيق» مستشارا قانونيا للهيئة العامة للسينما وشركاتها طلب منه وزير الثقافة د. ثروت عكاشة دراسة شاملة عن أوجه الفساد فى الهيئة وما أكثره، ومنه استيراد مائة فيلم من أردأ الأفلام فنيا وفكريا بقيمة نصف مليون جنيه بالعملة الصعبة، ولم تعرض فى دور السينما بل كانت نسخاً قديمة مستهلكة وغير صالحة للعرض أصلا . وفى خلال ثلاثة أيام انتهى «محمود توفيق» من كتابة تقريره وسلمه إلى د. ثروت عكاشة الذى أبدى إعجابه به قائلا : تقرير بديع !
 
 وفوجئ «محمود توفيق» بالوزير يخبره بأن من سيقرأ هذا التقرير بعده هو الرئيس جمال عبدالناصر، ويقول «محمود توفيق» :
 
بعد أقل من أسبوع رأيت الجزء الأول من تقريرى منشورا فى مجلة «روزاليوسف» وتعليق بقلم الكاتب الكبير زميلى «صلاح حافظ» ثم توالى نشر بقية أجزاء التقرير فى الأعداد التالية، وعلمت أن هذا النشر قد تم بطلب من «ثروت» إلى «صلاح حافظ» وبموافقه من الرئيس «جمال» !
 
وفى فبراير سنة 1967 - أى قبل شهور من هزيمة يونيو - يكتب «محمود توفيق» قصيدة «دوامة الكلام» فى مجلة روزاليوسف والتى عبر فيها عن استيائه من الأوضاع القائمة وعن تشاؤمه منها ومن عواقبها وتقول بعض أبياتها :
 
 يا صاحبى قد كرت الأيام
 
ومرت الأعوام
 
 ولم تزل دوامة الكلام
 
تدور بانتظام
 
 أصابنا الدوار
 
ولم تزل تدور باستمرار
 
 تشدنا إلى القرار ..
 
إلى الغرق !!
 
تفجر الكلام كالوباء
 
 يحمله المثقفون والنساء
 
 لو ينقص الكلام تنقص الآثام
 
 وتنقص الآلام
 
 لو ينقص الكلام يزهر العمل
 
 ويشرق الأمل
 
 وتسلم الأعراض والسير
 
وترتقى علاقة البشر» .
 
 أحدثت القصيدة المنشورة فى روزاليوسف ردود فعل متباينة و«كلمنى» نجيب محفوظ تليفونيا - يوم نشرها وقال لى : قرأت قصيدتك وهى قصيدة جميلة ولكنها وجعت قلبى !!
 
قلت له : سلامة قلبك ولكن ما باليد حيلة !!
 
 أما زميلنا المرحوم «زكى مراد» الشاعر المناضل الشيوعى فقد رد على القصيدة معارضا لها بقصيدة نشرت فى العدد التالى من مجلة «روزاليوسف» كان مطلعها : دوامة الكلام .. دورى على الدوامة»
 
 ويرحل «جمال عبدالناصر» فى 28 سبتمبر 1970 ويرثيه «محمود توفيق» بقصيدة طويلة تنشرها له روزاليوسف عنوانها «أيها الربان»!
 
وبتولى الرئيس أنور السادات حكم مصر بدأت مرحلة جديدة من تاريخ مصر، وتاريخ محمود توفيق وتمضى الأسابيع والشهور والسنوات وتندلع مظاهرات الأول من يناير عام 1975 وفى اليوم التالى يتم القبض على «محمود توفيق» واقتيد إلى سجن القلعة ثم ليمان أبو زعبل، وكانت التهمة «تأسيس وإدارة وعضوية حزب شيوعى سرى يدعو إلى قلب نظام الحكم» ثم صدر قرار الإفراج عنه فى جلسة 10 مايو سنة 1975؟
 
ويضيف «محمود توفيق» : وزرت «عبدالرحمن الشرقاوى» فى مكتبه، إذ كان قد عُين رئيسا لمجلس إدارة دار «روزاليوسف» وشكرته هو والصديق «صلاح حافظ» على ما أبدياه من شهامة وشجاعة فى الوقوف معنا فى تلك القضية الملفقة !
 
 ومن الحكايات ذات الدلالة تلك الحكاية التى وقعت عندما زار «محمود توفيق» مؤسسة السينما بالهرم وكان يرأسها «المهندس محمد الدسوقى» وكانت تربطه به علاقة ودية قديمة ويقول «محمود توفيق» :
 
 «قابلنى بترحاب وحفاوة ووقف يصافحنى وكان باديا أنه لم يعرف بأخبار اعتقالى إلا مؤخرا، قال فى لهجة بين المزاح والجدية :
 
- إيه يا محمود الحكاية دى ؟! هوه أنت صحيح يسارى ؟!
 
- فأجبته ! أيوه أنا يسارى !
 
فبادرنى بقوله : طب وليه تبقى يسارى ؟ ما تخليك يمينى أحسن !!
 
 ثم أضاف : ما هى الحكاية محصلة بعضها! اليسار واليمين حاجة واحدة، المسألة تتوقف على وجهة النظر !! ثم قال وهو يستدير فى موقفه :
 
- - بص الشباك اللى هناك دلوقتى على شمالى !! ثم أضاف وهو يستدير :
 
- بص دلوقت نفس الشباك بقى على يمينى يعنى اللى كان يسارى بقى يمينى كده ولا لأ ؟!
 
أجبته ضاحكا: معاك حق .. أفكر فى الحكاية دى !
 
- ثم انتقلت إلى حديث أكثر جدية فأبلغته تعزيتى له فى وفاة خالته «أم كلثوم» ومدى حزنى عليها فشكرنى وعيناه تدمعان»!
 
- ويعود «محمود توفيق» ليكتب فى ذكرى هزيمة يونيو مقالا أثار غضب الماركسيين والناصريين بعنوان «المسئول عن هزيمة يونيو هو نظام الحكم» على صفحات روزاليوسف وانتقد فيه النظام الناصرى، رغم أنه كان قد نشر فى روزاليوسف قصيدة «خواطر عن عبدالناصر» تضمنت تقييما إيجابيا لدوره فى تاريخ مصر.
 
يقول «محمود توفيق» : تناول هؤلاء الإخوة الأعداء قصة مقالى فى روزاليوسف كما لو كانت سقطة شنيعة أو ثقبا أحدثته فى جدار الماركسية»!
 
 ونصل لأكثر فصول المذكرات إثارة عندما وقعت أحداث 18 و19 يناير 1977ومظاهرات الغضب التى شملت مصر كلها !! وهنا تبدأ القصة حيث يقول :
 
 «فى اليوم الأول 18 يناير صباحا كنت بالصدفة فى زيارة لـ «عبدالرحمن الشرقاوى» وكنت أجلس معه فى الدار مع: صلاح حافظ، أحمد حمروش، حسن فؤاد وآخرين حين هاجم المتظاهرون الدار محاولين إشعال النار فى المبنى كله بما فيه المطابع والمخازن والمكاتب، والتف المحررون والعمال حول المبنى واستطاعوا بعد جهد جهيد أن يدفعوا المتظاهرين بعيدا عنه، واشتركنا أنا والشرقاوى وزملاؤه - فى إقناع الجماهير بعدم التعدى على الدار مؤكدين لهم أن «روزاليوسف» هى أول صحيفة تدافع عن حقوق الجماهير العاملة» . و فى اليوم التالى كان «محمود توفيق» فى بيته يتابع أخبار الانتفاضة والمظاهرات وزاره اثنان من الرفاق من الحزب الشيوعى المصرى الجديد، ثم يقول :
 
 «فى هذا التوقيت تلقيت مكالمة تليفونية من أخى «عبدالرحمن الشرقاوى» يطلب رأيى فيها أو اقتراحى بالكيفية التى يتعين على الحكومة أن تلجأ إليها لمعالجة الموقف وأحسست من لهجته أنه مطلوب منه - حكوميا - استطلاع الرأى لدى بعض أصدقائه وربما كنت أحدهم - فقلت له مؤكدا يجب على الحكومة أن تبادر بإعلان عدولها عن قرارات رفع الأسعار . سمع هذا الرأى وأبدى إقراره له، وشكرنى ثم أنهى المكالمة وبقيت أنا فى المنزل أنتظر تطورات الأوضاع ولم يكن فى ذهنى أى شىء حول ما يجب على عمله».
 
وبغير الدخول فى تفاصيل كثيرة فقد جاء البوليس ليقبض على «محمود توفيق» لكنه تمكن من الهرب، وطوال فترة الهروب راح يتابع فى الصحف تطورات التحقيق فى قضية الانتفاضة التى أصبح متهما فيها . وكان «السادات» يسميها «انتفاضة الحرامية» .
 
وأثناء ذلك أصدر الحزب الشيوعى المصرى قرارا بفصل بعض أعضائه ومنهم «محمود توفيق» الذى يقول معلقا : «حمدت الله على أن حزبنا هذا لم يكن قد وصل إلى السلطة وتصورت أنه لو كان حدث ذلك وكانت مقاليد الحكم قد وصلت إلى أيدى هؤلاء الرفاق فقد كان من المحتم أن تنتهى مصائرنا ومصائر الكثيرين إلى التعليق على أعواد المشانق»، وهكذا انتهت قصة الكفاح المشترك بيننا وبينهم، الكفاح من أجل بناء حزب وتحرير وطن وإسعاد شعب».
 
استغرقت رحلة الهروب والاختفاء عامين وتعددت زيارات الرفاق له ومنها زيارة الرفيق «وائل» - الاسم الحركى للأستاذ أحمد حمروش - وكان عبدالرحمن الشرقاوى قد طلب رؤيته على إثر مقابلة الشرقاوى للرئيس السادات . ويقول «محمود توفيق» :
 
 لخص لى وائل - أحمد حمروش - ما دار بين السادات والشرقاوى وليس فيه ما يستحق الذكر بشكل عاجل إلا موضوع واحد، فقد تكلم الشرقاوى عنك وأشاد بك وأعلمه أنك صهر المرحوم «يوسف صديق» «بطل ليلة الثورة بدوره البطولى»
 
ويقال إن عينيه - السادات - اغرورقتا، وقال إن المرحوم كان قد أوصانى بأولاده وأفهمه الشرقاوى أنك هارب طبعا وطلب منه مقابلتك ووافق السادات على ذلك وحدد ميعاد الساعة الحادية عشرة صباح الثلاثاء القادم أى بعد باكر» .
 
واستشار «محمود توفيق» بعض أصدقائه المقربين فى هذا الموضوع وعندما أبدى خشيته وتردده قال له «محمد على ماهر» الكاتب الكبير : أنا أعرف السادات جيدا، فطالما دعاك إلى بيته فهو فلاح أصلا فلابد أنه سوف يكرم وفادتك أما إذا رفضت الحضورى فسيطلب وزير الداخلية - «النبوى إسماعيل» وسينزل فيك ضربا بالشلاليت ويأمره أن يقلب الدنيا ليحضرك إليه وتحضر كل من يأويك مكبلين بالحديد، كده ولا تروح معزز مكرم مع الشرقاوى بناءً على دعوة رئيس الجمهورية!!
 
 واقتنع «محمود توفيق» بهذا الرأى، وفى اليوم التالى دارت مناقشة مستفيضة بينه وبين الزملاء الأساتذة «سعد كامل وأحمد حمروش ورشدى أبو الحسن» - حول نفس الموضوع انتهت بالموافقة على الزيارة، وذهب محمود توفيق إلى بيت «عبدالرحمن الشرقاوى» بالجيزة فى التاسعة صباحا، وهنا تبدأ قصة أغرب لقاء بين شيوعى هارب ورئيس جمهورية لا يخفى عداوته وخصومته للشيوعيين !:
 
 وصل «محمود توفيق والشرقاوى» بسيارة الشرقاوى إلى استراحة «السادات» بالقناطر حوالى الساعة العاشرة والنصف، ثم يروى «محمود توفيق» باقى القصة قائلا : بعد مرورنا بالحواجز الأمنية، جلسنا أنا والشرقاوى فى غرفة ملحقة بمكتب الرئيس بالدور الأرضى، بعد جلوسنا بقليل دخل شخص عرفت أنه السيد «حسنى مبارك» نائب رئيس الجمهورية وقتذاك، فسلم على «الشرقاوى» وعلىّ، ثم جلس وعلمت أنه ينتظر استدعاءه لمقابلة الرئيس هو الآخر!! تأخر نزول السادات عن موعده من محل إقامته بالدور الأعلى أكثر من ساعة، وعلمت أن هذه عادته فى اللقاء بزواره وفى بدء مباشرة عمله، ثم خرج «حسنى مبارك» للقاء الرئيس وعاد بعد أن قابله ولم يستغرق لقاؤه به أكثر من خمس دقائق ثم دعينا نحن لمقابلة الرئيس.
 
وجدناه جالسًا فى حديقة الاستراحة فى ظل أشجار وارفة الظلال وحوله حديقة غناء عامرة بالزهور اليانعة المختلفة الألوان، رأيت شخصًا يجلس مع «السادات» تبينت أنه المهندس «عثمان أحمد عثمان» وكان فى هذا الوقت هو أقرب شخص من «السادات» كان صديقه ووزيرًا لديه وكان صهره إذ كان أحد أبنائه قد تزوج من إحدى بنات السادات.
 
وقفنا فسلم «السادات» على «عبدالرحمن» باهتمام ثم سلم على وهو لا يكاد ينظر نحوى، وسلم علينا «عثمان» ثم جلس «السادات» وهو يأمرنا بالجلوس: اقعدوا!!
 
ويمضى الأستاذ «محمود توفيق» قائلاً: جلست وبدأ «السادات» يتكلم مع «الشرقاوى» كلامًا عاديًا وكأنه يكمل معه حديثًا كانا قد بدآه من قبل وتركنى دون كلمة أو حتى نظرة، جعلت أنظر إليه من قرب فلاحظت شدة عنايته بنفسه وبصحته وبملابسه قدّ ممشوق معتدل ليس فيه جرام واحد ناقص ولا زائد وبشرة ناضرة تجمع بين السُمرة شبه السودانية والحمرة القانية، بدلة بالغة الأناقة، قرنفلية اللون وقميص وربطة عنق بالغى الإتقان فى تفصيلهما، بالغى الأناقة فى لونهما!!
 
بعد أن استنفد السادات غرضه من الحديث مع «الشرقاوى» وإهمالى التفت إلىّ قائلاً: هو ده بقى المتهم الهارب؟! أديك جيت لحد عندى، مانتش خايف؟!
 
أجبته بثقة وثبات: لا مش خايف، أخاف من إيه.. أنت طلبت منى الحضور وأنا جيت بناء على طلبك!
 
قال «السادات» وهو يشير إلى مبنى كبير يبدو على بعد قريب! ده سجن القناطر مش خايف منه؟!
 
قلت له بلهجة عادية لا هى بالخائفة ولا الساخرة: عارفه كويس وحافظه صم وعشت فيه كتير، وهو أرحم من الهروب على كل حال!!
 
قال «السادات» وكأنه يتذكر أيام هروبه هو: ده صحيح السجن أرحم من الهروب، ما أنا مجرب وعارف!! ثم قال وهو يغير مجرى الحديث: هربت قد إيه؟!
 
قلت له: سنتين وشهرين!!
 
فأجاب بدهشة: ياه ده كتير قوى، أنا هربت ستة أشهر طلعت فيهم روحى ثم حول مجرى الحديث قائلاً: وقعدت فين طول المدة دى؟!
 
فأجبته: قعدت فى حتت كتيرة ما أنت عارف إن الهارب لازم يتنقل من مكان لآخر!
 
فسألنى بمكر: وقعدت عند «الشرقاوى» قد إيه؟!
 
فأجبته بجدية: ماقعدتش عنده خالص، لأن اللى يهرب مايقعدش عند حد من قرايبه أو أصدقائه!!
 
ففاجأنى بسؤال غريب: طب ماجيتش هربت عندى ليه! طب والله العظيم، لو كنت جيت عندى كنت خبيتك.. وبدت عليه علامات الجد فى هذا الكلام!
 
فاندهشت وأجبته: استخبى عندك من مين؟! منك؟!
 
فابتسم وكرر قوله: والله العظيم كنت خبيتك!!
 
ثم انتقل السادات بالحوار إلى شىء آخر قال لى:
 
- صارحنى يا «محمود» لماذا شاركت فى الانتفاضة؟!
 
ابتسمت وأنا أنظر إلى «الشرقاوى» الذى تصدى للسادات قائلاً:
 
- ياريس محمود لم يشترك فى شىء، لقد كان معى فى مكتبى، وشارك معى ومع كل من كانوا فى الدار فى الدفاع عنها ضد الجماهير الغاضبة!
 
وانبرى «السادات» قائلاً للشرقاوى بغضب: اسكت أنت يا عبدالرحمن «أنا عارفك الشيوعيين يضحكوا عليك، وأنت تيجى عايز تضحك علىّ»؟!
 
قال له الشرقاوى على الفور: ياريس أنا محدش يقدر يضحك علىّ.. أنا منوفى يا ريس!
 
ابتسم السادات ثم التفت نحوى قائلاً: يعنى أنت ما اشتركتش فى انتفاضة الحرامية؟!
 
ضحكت وأنا أقول له: ياريس بص لى كويس، هل أنا شكلى قدامك شكل حرامية؟!
 
فضحك «السادات» وقال: يعنى المباحث جابت أساميكم منين؟! من القوائم؟!
 
قلت له: طبعًا من القوائم، كل أسامى الشيوعيين المتهمين فى القضية دست زورًا واستخرجت من القوائم!!
 
فهز «السادات» رأسه بتسليم قائلاً: أنا مصدقك، ما أنا عارف إن المباحث بتاعتى خايبة!
 
ثم سكت فانتهزت فرصة صمته وقلت له: تسمح لى ياريس، أنت أكرمتنى بدعوتك لى للقائك، وأحب أن أرد لك الجميل بأن أوجه إليك نصيحة صادقة!
 
فرفع «السادات» حاجبيه مندهشًا وسألنى: نصيحة، نصيحة إيه قول؟!
 
قلت له: أنصحك بسحب هذه القضية، إن الاعتراف بالحق فضيلة، وهذه القضية ملفقة، وأنا أقول لك وأنا محامى، إن هذه القضية التى تنظر الآن أمام المحكمة، هى قضية ملفقة، وسوف تحكم المحكمة فيها ببراءة المتهمين، ومن مصلحتك أن تحفظ بقرار منك لا بحكم المحكمة!!
 
انتفض «السادات» غاضبًا وهو يقول: أسحب القضية!! وأقول للناس إيه بعد كل ما حصل؟! أيوه يمكن فيه ناس دخلوا فى القضية غلط وأنا مستعد أن أصدر عفوًا عنهم! إيه رأيك أنت تعمل لى كشف بكل أصدقائك الذين تعرف إنهم لم يشتركوا فى الانتفاضة، وأنا أصدر أمرًا بالعفو عنك وعنهم!!
 
قلت له بصوت ارتفعت نبرته: آسف ياريس، أنا لا أكتب كشوفًا، وإذا كان ولابد أن أقدم لك كشفًا، فأنا أقدم لك الآن كشفًا بأسماء كل المتهمين فى القضية وأطلب منك لمصلحتك أن تأمر بالعفو عنهم جميعًا.
 
استاء «السادات» من كلامى ثم عاد وكرر عرضه بأن أكتب كشفًا بأسماء أصحابى ليصدر فورًا أمرًا بالعفو عنهم ورفضت طبعًا وقلت له:
 
- لو كتبت لك كل الأسماء ما عدا اسمًا واحدًا فكأننى أنا الذى أحبسه!
 
انتهى الحوار عند هذا الحد وقال «السادات»: على كل حال أنا هاشوفك تانى بس فكر فى الكشف اللى أنا قلت لك عليه فقلت له: وسيادتك تفكر فى سحب القضية كلها.
 
وأنهى السادات الحديث بقوله: عايز أقولك إن المرحوم «يوسف صديق»- عمك- كان صاحبى وغالى على، وقبل ما يموت بعث لى جواب يوصينى فيه على أولاده، وهو الجواب ده عندى هنا، ممكن أوريه لك لو حبيت، ولذلك فأنا هأصدر أمر دلوقت إنك تروح بيتك، وإن المباحث لا تتعرض لك!
 
ثم ضغط على جرس أمامه فهرع إليه شخص من مكتبه فقال لى: كلم «النبوى إسماعيل» دلوقتى وقل له إن «محمود» معايا دلوقتى وأنا قلت له يروح بيته وقل له محدش يتعرض له!!
 
قلت للسادات وأنا أتاهب للانصراف: متشكر ياريس، بس أنا هتقدم للمحكمة وهى تفعل معى ما تشاء!!
 
وقمت أنا و«الشرقاوى» وخرجنا وركبنا سيارته منصرفين دون أن يتعرض لنا حرسه، وفى الطريق رويت للشرقاوى أن «عثمان أحمد عثمان» الذى كان يجلس إلى جوارى ويبدو أنه كان معجبًا بالحوار ومنفعلاً به، فقد كان كلما احتدمت المناقشة يغمزنى بيده من تحت المنضة إشارة لى بعدم الانفعال، كما كان يرسل لى إشارات تهدئة بعينيه من حين لآخر».
 
وافقنى «الشرقاوى» على ذلك وقال لى: أنت احتديت على «السادات» أكثر مما احتد هو عليك، ولو كنا مع «عبدالناصر» لما خرجنا من عنده- أنا وأنت - سالمين».
 
وقال لى- الشرقاوى- فيما بعد أنه التقى بـ«عثمان» فقال له «عثمان» عنى كلاماً طيبًا وقال له إنه بعد انصرافنا أنا وهو فى ذلك اليوم، علق «السادات» على كلامى معه قائلاً:
 
شايف يا عثمان.. شايف الرجالة؟! أنا عايز رجالة زى ده!!
 
ولم يكن ذلك فقط أبرز ما فى مذكرات الأستاذ «محمود توفيق».