الأربعاء 22 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
الرجل الذى قال «لا» لحرب فلسطين!

الرجل الذى قال «لا» لحرب فلسطين!



 
 
 
مضت 65 سنة كاملة على «حرب فلسطين» 1948 بالنهاية الحزينة والمؤسفة التى نعرفها جميعا، ويتوارث العرب آلامها عاما بعد عام!! فى حرب فلسطين تجسدت خيبة العرب بامتياز نادر، حيث قرر العرب دخول الحرب دون رؤية أو استعداد أو تخطيط! ولم يخطر ببال عربى واحد من المحيط إلى الخليج أن تنتهى تلك الحرب بتلك الكارثة وهى «ضياع فلسطين»!وقبل أسابيع من بدء الحرب راحت الصحف العربية تبشر بالنصر القادم على العصابات الصهيونية، وراحت الأقلام تكتب عن القوة الساحقة والماحقة والبطولات التى سوف تحدث فى معركة تحرير فلسطين من تلك العصابات! كان الحكام العرب أول من يعلمون بحقيقة قدرات وتسليح جيوشهم، وكان قادة هذه الجيوش على معرفة تامة بهذه الحقائق، لكن الصحافة راحت تبشر الناس بأشياء من نوعية «ذعر اليهود فى أمريكا من شدة بأس العرب وقوة جيش مصر واليهود يستغيثون بمجلس الأمن ليوقف تدخل مصر فى فلسطين».

فى الكواليس والغرف المغلقة وبعيداً عن الرأى العام الملتهب حماسة وحرارة كانت غالبية القادة والحكام وقادة الجيوش ضد دخول هذه الحرب، ولكن لم يجرؤ أحد من هؤلاء على الجهر وإعلان رفضه لدخول الحرب!صوت واحد فقط خرج عن هذا الموقف، وأعلن رأيه الرافض والمعارض لدخول «مصر» الحرب، فقامت الدنيا ولم تقعد عليه واتهمته بالخيانة والكفر الوطنى والسياسى والعمالة للصهونية!!هذا الرجل هو «إسماعيل صدقى باشا» رئيس وزراء مصر لأكثر من مرة!!
وكان الملفت للنظر أن رأى ورؤية «إسماعيل صدقى باشا» قد ظهر منشوراً صباح يوم 15 مايو 1948 فى جريدة «أخبار اليوم» - أى فى نفس اليوم الذى تحركت فيه الجيوش العربية إلى فلسطين».كان حديث «إسماعيل صدقى» قنبلة سياسية قبل أن يكون قنبلة صحفية، وهو ما دعا الكاتب الكبير الأستاذ «مصطفى أمين» أحد صاحبى الصحيفة مع توأمه الأستاذ على أمين - إلى الاتصال تليفونيا بصدقى باشا لعله يراجع نفسه ويتراجع عن نشر الحوار فيسحبه لكنه رفض، فقال له «مصطفى أمين»:
- إننى مستعد لنشر الحديث وإنما من واجبى أن ألفت نظرك إلى أن هذا الحديث سيثير الشعب وبخاصة أنه سينشر يوم دخول الجيش فلسطين!فقال إسماعيل صدقى: أنا لا أخاف الشعب، إن واجبى هو تبصير بلادى بعواقب وخيمة متوقعة وإذا لم أفعل أكون مجرما!!وعاد مصطفى أمين يقول: إن الشعور العام ملتهب وأخشى أن تكون عواقب النشر سيئة!!ضحك إسماعيل صدقى ضحك الوطنى الجرىء الذى قدر موقفه وحده إزاء شعب بأسره - حسب وصف مصطفى أمين نفسه - وقال فى إصرار:
- يعنى سيقتلوننى؟! خير لى أن أتركهم يقتلوننى من أن أترك هذا الشعب يقتل، فانشر الحديث وليكن ما يكون!! ألا تعرف أن الرجل الذى اقترح إدخال «التليفون» فى الأزهر اتهم بأنه كافر؟! إننى يا سيدى أحاول أن أدخل «التليفون» فى السياسة المصرية!
 
كان سؤال أخبار اليوم لصدقى باشا: سمعنا أن لك آراء تخالف القرار الجماعى الذى أصدره البرلمان بمجلسيه «النواب والشيوخ» فهل هذا صحيح وهل معنى ذلك أن دولتكم المعارض الوحيد فى السياسة التى تقررت والتزمت بها البلد؟!
وجاءت إجابة صدقى باشا بالحرف الواحد تقول:
- لم يبق فى الاستطاعة بعد أن وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه أن أتكلم فى مسائل ليس من السهل تقبلها وليس من الميسور التحول عنها وكل ما أقوله لك أنى آسف على حالة البلد، ولكنى لا أستطيع أن أقاوم تيارا جارفاً ولو أننى لم أتردد فى إعلان رأيى وتبصيرى أولى الشأن بما يجب أن يعملوه ويحتاطوا له.
وعادت «أخبار اليوم» تسأله:
- وماذا كنتم ترون دولتكم وما هو رأيكم الذى لم تترددوا فى إعلانه برغم التيار الجارف والقرار الجماعى؟!
أجاب «صدقى باشا: لقد قلت كل ما عن لى فى اجتماع اللجنة ثم فى الجلسة السرية «لمجلس الشيوخ» ولا أحسبنى الآن فى حل من نشره وحسبى أن أسألك الآن: هل أنت مرتاح للزج ببلدك فى حرب؟!وأجاب محرر أخبار اليوم قائلا: هذا شر يا دولة الباشا ما من ذلك شك ولكنه شر لابد منه، اقتضته الظروف وحتمه الأمر الواقع، فهل تريد أن نتخلى عن هذا الواجب؟!
رد «صدقى باشا» مدافعا عن رأيه قائلا:
- لا يا سيدى.. كان فى الإمكان ألا تصل المسائل إلى هذا الحد، وسبيل التفاهم كان مفتوحا بل ولايزال فى مقدورنا أن نوافق على «الهدنة» وقد قلت لدولة «النقراشى باشا» - رئيس الوزراء - وكررت له الرجاء بقولى:ياباشا قبل أن تطلب منا شن الغارة، وقبل أن تزج بنا فى الحرب سافر إلى دمشق واسع للهدنة وبذلك تكسب ثلاثة أشهر ومن يدرى ماذا يتم خلالها؟!ومن عجب أن المسألة يدور فيها البحث منذ عام ونصف العام ومع ذلك لا نستدعى ولايؤخذ رأينا إلا قبل دخول جيوشنا فلسطين بأربع وعشرين ساعة، ففيم كان الإغفال والإهمال طوال الوقت؟! وفيم كانت العجلة والحماسة فى الساعات الأخيرة؟!
ومضى إسماعيل صدقى باشا يقول:
- أنا متشائم ولا أجد غضاضة فى إعلان ذلك وأخشى ما أخشاه أن يفقد هذه الحماسة تشاؤم؟!
- هل أعددنا للأمر الخطير عدته؟! وهل قدرنا جميع العواقب؟! وهل استعددنا لأسوأ الفروض؟! وهل دار بخلد أولئك المتحمسين احتمال إغارة قاذفات القنابل اليهودية على بلادنا؟!
أين المخابئ وأين الاحتياطات لسلامة المدنيين وأين وأين مما قد لا يكون من المصلحة نشره؟!ألم يكن فى الإمكان والمسألة مطروحة للبحث منذ وقت طويل وليست طارئة ولا مفاجئة أن نستعد ونتأهب إذا كان لابد من خوض غمار الحرب؟!
ويفجر «صدقى باشا» هذه المفاجأة المدوية عندما يقول:
- أنا أعلم أن هذا الكلام قد لايعجب كثيرين، ولكنى آليت على نفسى أن أقول ما أعتقد، وكم كان عجبى عندما جلست مع حوالى 15 من شيوخنا «أعضاء مجلس الشيوخ»، فلم أر بينهم واحدا يحبذ الحرب، فلما انعقدت الجلسة «السرية» كانوا سباقين للموافقة وفى ترديد كلمة نعم.. نعم، مع أنهم كانوا قبل ذلك بنصف ساعة يقولون: «لا حول ولا قوة إلا بالله» ويعارضون فكرة الحرب!
وكم كان عجبى حينما تحدثت مع أحد الوزراء الأجلاء وعرضت فى كلامى للاقتصاديات فكان رده: اقتصاديات إيه يا باشا.. أنا راضى أمشى عريان فى سبيل التخلص من الصهيونيين؟!وهكذا تناقش المسائل الكبرى.. وممن؟! من المسئولين الذين بيدهم مصائر الأمور!!
ويختتم صدقى باشا حواره القنبلة بقوله:
إننا عانينا.. ولانزال نعانى وسنعانى باستمرار من سياسة الارتجال قصيرة النظر، ومن الحماسة المبنية على دوافع طارئة  أو شخصية وأسأل الله السلامة.كان هذا ما نشر صباح يوم 15 مايو سنة 1948 وجرى ما جرى بعدها، من نكبة وخيبة لاتزال حتى الآن!!متى ستحرر فلسطين بعيدا عن سماسرة الشعارات الجوفاء وتجار المبادئ الفاسدة، وترزية المقالات العنترية!