الخميس 24 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
فتنة الإخوان وعدالة عبدالناصر

فتنة الإخوان وعدالة عبدالناصر






 
 
 
 
لم يعتكف البابا «كيرلس» فى عصر الزعيم الراحل «جمال عبدالناصر» فى الخمسينيات والستينيات فى دير الأنبا بيشوى احتجاجاً وغضباً لأسباب سياسية أو لأسباب تمييز دينى تمارسه السلطة ضد الأقباط رافضة الاستجابة لمطالب العدالة والمساواة بين أبناء الوطن الواحد.. كما حدث فى أيام «السادات» وأيام «حسنى مبارك» مع «البابا شنودة».
ولم يبرز حادث فتنة طائفية واحدة فى تلك الحقبة العظيمة التى عشناها مع «عبدالناصر» منذ قيام ثورة 1952 وحتى وفاته.
والاعتكاف عرف من الأعراف الرهبانية وأحد أدوات الاحتجاج الصامت بالصلاة والصوم اعتراضاً على سياسات النظام تجاه الأقباط والضغط عليه لتغيير هذه السياسات المجحفة فى التعامل مع شركاء الوطن.
 
 
 
 
 
وعدم اعتكاف البابا «كيرلس» لا يعود فقط للعلاقة الشخصية الراسخة والودودة التى كانت تربطه «بعبدالناصر» والتى أدت إلى موافقة الأخير على بناء الكاتدرائية وتخصيص مبلغ 001 ألف جنيه لذلك وتكليف إحدى شركات القطاع الخاص بعمليات البناء.. وحضوره حفل وضع الأساس والافتتاح.. وإصدار قرار بالتنازل عن ديون الكنيسة للدولة. إن السبب الرئيسى فى عدم وجود حوادث طائفية فى الخمسينيات أو الستينيات هو سعى «عبدالناصر» أولاً إلى تحقيق عدالة اجتماعية تشمل كل شرائح وأطياف وطبقات وفصائل الشعب المصرى وإعلاء شأن المواطنة تحقيقاً لمبدأ «مصر لكل المصريين». دون تفرقة بسبب الجنس أو العقيدة، وتجلى هذا السعى منذ اليوم الأول لثورة 32 يوليو 2591. لقد استجاب «عبدالناصر» -  كما يرى د.«جلال أمين» فى كتابه المهم «ماذا حدث للثورة المصرية - لمشاعر طبقة متوسطة مستنيرة كانت تعرف واجبها نحو الغالبية العظمى من الشعب.. كما استجاب لظروف دولية كانت فكرة العدالة الاجتماعية فيها حية وقوية وتسعى مختلف الحكومات إلى تطبيقها بدرجات وأشكال مختلفة.

وإذا كانت العدالة الاجتماعية تتعلق بالفلسفة العامة للدولة.. فإنها بسياستها الاقتصادية العامة لا يرتبط الأمر بالموقف الأخلاقى من قضية الغنى والفقر ونمط التنمية المطلوب ونوع النهضة المنشودة، ولكن الأمر يرتبط أيضاً بالمساواة فى الحقوق والواجبات.. فمما لاشك فيه مثلاً أن أنصاف أبناء الطبقة الوسطى والدنيا من خلال مكتب التنسيق وقانون القوى العاملة أدى إلى عدم التمييز -  ليس فقط بين الأغنياء والفقراء - بل وبين المسلمين والأقباط.. كذلك بناء المساكن الشعبية لمحدودى الدخل - الذين يمثلون الأغلبية - وفتح أبواب التعليم المجانى أمام الفقراء وتحمل الدولة مسئوليات كبيرة فى توفير السلع والخدمات الأساسية فى التعليم والصحة والمسكن بأسعار زهيدة كما تم تخفيض البطالة إلى أقل حد ممكن.. وضمنت الحكومة توظيف جميع الخريجين الجدد فى الجامعات والمعاهد العليا.
ثانياً: كان عصر «عبدالناصر» محكوماً بقضايا كبرى وطنية وسياسية تختلف حولها الجماهير مثل قضية القومية العربية والوحدة والحلم ببناء مجتمع جديد.. لذلك كان العمل الجاد فى شحذ الهمم.. واستنهاض العزائم فى لم الشمل حول مشاريع وطنية تنموية تستوعب طاقات وجهود أفراد المجتمع دون تمييز دينى فى اتجاه البناء وصنع المستقبل فى جميع المجالات.
ثالثاً: كان ذلك العصر متشدداً جداً فى الفصل بين الدين والسياسة.. وبناء عليه فلم تظهر بشكل مباشر أفكار.. وأنشطة التيارات الدينية.. لقد ضرب «عبدالناصر» بيد من حديد أى تطرف دينى.
لكن الزمن يدور دورته ونصل إلى زمن تخرج فيه ثعابين الفتنة الطائفية من جحورها لتشكل ناراً متأججة قبل خلع المخلوع ابتداءً من مذبحة «نجع حمادى» مروراً بمذبحة «القديسين».. ثم المواجهة الدامية فى «المقطم» والقلعة وهدم كنيسة «صول» وصولاً إلى إشعال كنيستى إمبابة.. وهجمات السلفيين المتتالية والاعتداء على قبطى بقطع أذنه تنفيذاً لما يتصورونه إقامة الحد.. وقد علقت صحيفة «النيويورك تايمز» وقتها على ذلك بأن الهوة بين المسلمين والأقباط فى «مصر» اتسعت بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة.. وكان أحد ردود الأفعال الخطيرة إزاء ذلك لجوء بعض المتشددين من الأقباط إلى الدعوة إلى التدخل الدولى لحماية المسيحيين المصريين والتظاهر أمام السفارة الأمريكية للضغط على الكونجرس لتفعيل قانون الحماية الدينية الذى صدر عام 8891 وبناء على ذلك فقد ورد فى تقرير الحريات الدينية الأمريكى لعام 1102 أن «مصر» واجهت مشاكل خطيرة من التمييز والتعصب أثناء حكم مبارك وأن المشاكل مازالت قائمة على الرغم من خلع «مبارك».. واتهم التقرير الحكومة المصرية بالفشل فى حماية الأقليات الدينية خاصة الأقباط الأرثوذوكس.. كما لفت التقرير إلى احتمال تزايد العنف ضد الأقليات خلال الفترة الانتقالية التى تعيشها «مصر» الآن.
وقد كان.. وحدثت مذبحة ماسبيرو - أو مذبحة الأحد الدامى - واستشهد شباب الأقباط بعد دهسهم بالمدرعات.. وغسل وقتها الجميع أيديهم من دماء الشهداء الطاهرة قبل أن تجف أمام ماسبيرو.. وبينما كانوا فى المشارح لا يجدون توابيت لدفنهم أكد أشاوس الداخلية أنهم أوغاد من البلطجية الذين لا يستحقون شرف الحياة على أرض الكنانة الغالية.. وتسابق الصفوة من الحنجوريين أصحاب الياقات المنشاه والمثقفين الدجالين فى الإشارة بأصبع الاتهام إلى مؤامرات الأچندات الأجنبية الخبيثة التى تستهدف تقويض دعائم نهضتنا الحضارية العظيمة.. وهرول المثقفون والملتحون وسماسرة الفلول إلى شاشات الفضائيات يطالبون بتجاهل المذبحة إبقاء على موعد الانتخابات يؤيدهم فى ذلك رئيس الوزراء الرومانسى البكاء الرقيق الذى ما لبث أن انصرف إلى منزله بعد إقالة وزارته وهو يوصينا بالهدوء والاستكانة والرضوخ والرضا بالمقسوم.

ومن أحد دام إلى أحد دام آخر لا يقل دموية - فى ظل حكم الإخوان - وفى أثناء تشييع جنازة أربعة مسيحيين لقوا مصرعهم فى أحداث «الخصوص الطائفية» وقعت الواقعة وتصاعد استهداف أقباط «مصر» ليتحول الوطن إلى جحيم مستعر يفزعهم ويلفظهم طارداً وقد تجاوزت محاولات الإقصاء مرحلة اعتقال مطالبهم إلى مرحلة عدم الاعتراف بوجودهم أصلاً ككيان إنسانى.. وننتقل من التمييز القائم على أساس دينى إلى الاضطهاد الواضح.
ومن ثم كان اعتكاف البابا «تاوضروس» وكانت العودة إلى تفكير عدد من النشطاء الأقباط لدراسة تصعيد الأزمة دولياً وتقديم شكوى إلى المنظمات الدولية والأمم المتحدة ومحكمة الجنايات الدولية لتدويل القضية وطلب الحماية.. ثم استقر الأمر بتقديم «نجيب جبرائيل» رئيس منظمة الاتحاد المصرى لحقوق الإنسان مع عدد من النشطاء الأقباط بخطابا رسميا للفريق «عبدالفتاح السيسى» وزير الدفاع بطلب حماية الجيش للأقباط من بطش الإخوان بعد ضرب الكاتدرائية بالمولوتوف.. وهو الطلب الذى رفضته الكنائس الثلاث.. وحسناً ما فعلوا.. فالحماية تطلب من الشعب.. والأقباط شركاء وطن وجزء من الشعب وليسوا أفراد «جالية» أجنبية تبحث عن توفير الحماية لأفرادها فى وطن آخر.. من اعتداءات شهدتها قبلها بأيام قليلة مشيخة الأزهر الشريف.. وبالتالى يصبح طلب الأقباط من الجيش الحماية به تمييز.. ويؤدى إلى المزيد من الانقسام والاحتقان الطائفى.. والمحاولات الدءوب لإقصاء الأقباط تأتى ضمن المحاولات لإقصاء الأزهر.. والاعتداء على الكاتدرائية يتسق ويتزامن مع اقتحام المشيخة.. وحصار المحكمة الدستورية يتماهى مع حصار مدينة الإنتاج الإعلامى.. والسعى الحثيث لطرد المرأة المصرية من الشارع والميدان.. وعودتها مرغمة إلى البيت وإلى عصر الجوارى.. تقابله محاولات قتل التماثيل وتحريمها لأنها أصنام وفرض الوصاية على الفنون وحصارها فى دائرة المفاهيم المتخلفة.
لم يعد الأقباط وحدهم هم المطلوب إقصاؤهم.. وأتصور أن البابا أدرك ذلك فأنهى اعتكافه وعاد ليدافع عن حق وجود فى معركة مصير على أرض وطن يعبث به أرباب «التمكين» حتى الرمق الأخير.. حتى لو احترقت الأرض.. وغامت الشمس.. واسودت السماء.