الخميس 23 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
روز اليوسف وقضية الآنسة عائشة راتب

روز اليوسف وقضية الآنسة عائشة راتب


 
 
 
 
ما أصعب الكتابة عن السيدة الفاضلة الدكتورة «عائشة راتب» التى رحلت فى هدوء وصمت.. حياة د. عائشة راتب سلسلة متصلة من المعارك والبطولات من أجل كرامة الإنسان عامة والمرأة على وجه الخصوص! لم تكن معاركها بحثا عن الشهرة والأضواء وجنى الأموال والمناصب، بل كانت دفاعا عما تراه حقا وصدقا وعدلا ومشروعا!!
حصلت الآنسة «عائشة محمد سعاد راتب» على شهادة التوجيهية من مدرسة الأميرة فوزية بشبرا سنة 1945 وكانت فى السابعة عشرة من عمرها - وجاء ترتيبها السادس على جميع الناجحين فى ذلك العام!
كانت تريد الالتحاق بكلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية لتفوقها ونبوغها فى تلك اللغة، لكن خالها السفير «زهير الشبينى» دفعها للالتحاق بكلية الحقوق ودراسة القانون، وهكذا التحقت بكلية الحقوق جامعة القاهرة ودرست القانون الدولى، وعندما حصلت على ليسانس الحقوق كان ترتيبها الخامس على الدفعة، وتم ترشيحها للعمل بمجلس الدولة، لكن رئيس الوزراء فى ذلك الوقت «حسين سرى باشا» اعترض على تعيين فتاة بالمجلس!!
 
وهنا تبدأ أولى معارك الآنسة «عائشة راتب» وكان ذلك فى صيف عام ,1949 ولم تكن صدفة أن تتبنى «روزاليوسف» -السيدة والمجلة- قضية ومعركة عائشة راتب!
 
فى عدد روزاليوسف رقم 1107 «بتاريخ 31 أغسطس سنة 1949»  كتبت روزاليوسف تحقيقا صحفيا جريئا بعنوان «مجلس الدولة يعين أول امرأة مصرية فى منصب القضاء!» وجاء التحقيق الصحفى على النحو التالى: «كان السنهورى باشا - رئيس مجلس الدولة - قد اختار الخمسة الأول من خريجى كليتى الحقوق بجامعتى  فؤاد الأول وفاروق الأول للعمل معه فى مجلس الدولة.
 
وفى أحد أيام الأسبوع الماضى توجه الخريجون الذين وقع عليهم الاختيار إلى المجلس لمقابلة سعادة «السنهورى» باشا وكان الطريف الجديد أن بينهم فتاة هى الآنسة «عائشة راتب»، وقد بالغ «السنهورى باشا» فى الترحيب بهم واستقبلهم واقفا فى منتصف غرفة مكتبه، ولما جلسوا وجه سعادته الحديث إلى الآنسة بقوله:
 
∎ هل تستطيعين القيام بأعباء القضاء والحكم بين الناس ؟!
 
وأجابت الآنسة بالإيجاب!وهنا احتج أحد المستشارين بقوله: إنه لا يجوز أن تعتلى امرأة منصة القضاء لتحكم فى قضايا الناس!!
 
وبدأت مناقشة حامية بين الآنسة وبين المستشار المعارض فى تعيينها وتمسكت الآنسة بأنها وقد أتيح لها العلم فيجب أن تتاح لها نفس الفرصة التى تتاح لزملائها سواء بسواء!
 
وتدخل أكثر المستشارين فى مناقشة الموضوع من النواحى الفقهية والدينية والاجتماعية، وفجأة قال أحدهم: إن المجلس إذا رفض قبول الآنسة بين موظفيه، فإن للآنسة أن ترفع قضية على مجلس الدولة أمام المجلس نفسه!
 
ثم أردف: وإذا رفعت هذه القضية فإنها ستكون فى دورتى، ومن المؤكد أنى سأحكم لها ضد المجلس لأننى مقتنع بالموضوع سلفا عن دراسة عميقة وتفكير دقيق
 
وهنا سكتت الضجة وأخذ الموجودون يهنئون أول آنسة مصرية تتولى القضاء!!، ولقد سأل «السنهورى باشا» عن أى المستشارين يختارها للعمل معه ؟! فتسابق المستشارون  - أنصار المرأة - لاختيارها وأبدى كل استعداده وترحيبه لأن تعمل فى قسمه!
 
وعاد المستشار المعارض فقال: الأمر لكم لكنى لا أحتمل أن أرى فى مستقبل حياتنا فتاة تدرجت فى مناصب القضاء حتى تصل ذات يوم إلى رئاسة محكمة النقض مثلا أو رئاسة مجلس الدولة!
 
فرد زميله قائلاً: كان الواجب أن نبحث هذا قبل أن نسمح لها بدخول الجامعة.ومن ناحية أخرى يجب ألا نتناسى أنها ستكون كذلك فى عصر غير العصر الذى نحن فيه «!!»
 
وتعلق روزاليوسف فى نهاية تحقيقها قائلة بسخرية لاذعة:
 
 «ومن حسن الحظ - حظ الآنسة طبعا - أن تعيينها هذا قد تم بعد انتهاء عهد معالى «مرسى بدر بك» فى وزارة العدل، كما أن أشد ما يخفى عليها أن يعود معاليه من وزارة المعارف إلى قواعده الأولى بوزارة العدل، فيقضى على آمال طالبات الحقوق بجرة قلم رصاص»
 
وبعد مرور خمسة أشهر عادت روزاليوسف لتنشر موضوعا مثيرا تحت عنوان أكثر جرأة وإثارة يقول: «الفتاة التى قررت أن تكون رئيسة وزراء!» كان ذلك فى العدد 1129 بتاريخ 31 يناير 1950 وقالت فى سطوره:
 
 «تم فى الأسبوع الماضى ولأول مرة فى مصر تعيين فتاة فى منصب معيدة بكلية الحقوق، فعلى الرغم من أن جميع الكليات التى تخرجت منها فتيات، قد  أخذت بمبدأ  مساواة الجنسين فى حق الالتحاق بمناصب التدريس إلا أن كلية الحقوق ظلت حتى هذا الأسبوع ترفض بشدة أن يكون بين أساتذتها آنسات أو سيدات!!
 
ولعل الكلية لم تقدم على هذه الخطوة «الجريئة» إلا مرغمة!! فهذه القصة تبدأ يوم  تقدمت الآنسة «عائشة راتب»  خريجة كلية الحقوق فى العام الماضى بدرجة جيد جدا إلى مجلس الدولة تطلب تعيينها مندوبة فى المجلس! وفوجئ المجلس بهذا الطلب الأول من نوعه والذى تؤدى إجابته إلى جلوس المرأة المصرية فى كرسى القضاء وأراد «السنهورى باشا» أن يتصرف بلباقة فاقترح إقامة امتحان للمتقدمين على أمل أن تسقط الفتاة فى هذا الامتحان فلا يكون هناك ما يدعو إلى مواجهة المشكلة بصورة مباشرة!
 
ولكن هذا الأمل قد خاب، إذ كانت الآنسة هى الوحيدة التى نجحت من بين المتقدمين وعددهم 15 ونجحت أيضا بدرجة جيد جدا «!!وهنا أسقط فى يد «السنهورى باشا» وأحال المسألة إلى مجلس المستشارين فرفض هذا المجلس تعيينها!
 
ومن الطريف أن الآنسة لم تيأس، بل ذهبت فى اليوم التالى ورفعت دعوى على مجلس الدولة أمام مجلس الدولة لتخطيها فى التعيين، وفى هذه المرة أيضا صادفها نفس التعنت إذ إنه رفض شكواها لعدم وجود سوابق لهذه الحالة فى المجلس بالذات!
 
وهنا لم تجد بدا من التقدم إلى الجامعة لتعين معيدة فى كلية الحقوق، ولم تجد كلية الحقوق بدا من  إجابة طلبها حتى لا تذهب مرة أخرى وترفع دعوى جديدة أمام مجلس الدولة!
 
وتقول الآنسة عائشة راتب المعيدة بكلية الحقوق إنها ستعامل طلبتها كما  يعاملهم أى أستاذ، وأنها على يقين  من أن طلبتها سيفهمون الدرس منها أكثر مما يفهمونه  من أساتذتهم الرجال، لأن الرجل دائما يحب أن ينصت إلى ما تقوله المرأة ولو كان كلاما فارغا!!
 
 كما تقول - أى عائشة راتب - أنها لن تيأس أبدا بل إنها تنتظر اليوم الذى تصبح فيه عميدة بكلية الحقوق ومديرة للجامعة ورئيسة للوزراة!!
 
 أما الطلبة فآراؤهم مختلفة فى هذا الموضوع بخلاف الطالبات اللاتى أجمعن طبعا على تأييدها.
 
 وبالرغم من كل شىء فيبدو أن الآنسة على حق فى آمالها، لأن الطلبة - على اختلاف آرائهم - قد استقبلوها يوم  دخلت الكلية كمعيدة لأول مرة بعاصفة كبيرة من التصفيق والهتاف»!
 
انتهى ما نشرته «روزاليوسف» قبل حوالى 63 عاما - وهى ترصد انتصار الآنسة «عائشة راتب» فى أولى  معاركها ضد التخلف والرجعية!وتغيرت الدنيا ولم تتغير مبادئ وأفكار «عائشة راتب»، وكانت قد حصلت على درجة الدكتوراه فى القانون الدولى فى موضوع «الفرد والقانون الدولى» باللغة الفرنسية.

 
 وكان أول اختبار حقيقى لمبادئها التى آمنت بها ودافعت عنها، جاء فى أعقاب ضمها إلى لجنة المائة للمؤتمر القومى فى بدايات حكم الرئيس السادات وتم انتخابها فى اللجنة المركزية التى كانت تناقش مواد مشروع دستور سنة ,1971 وبينما كانت غالبية الأصوات تتجه وترحب بتوسيع وزيادة اختصاصات رئيس الجمهورية، اعترضت د. عائشة راتب على ذلك الأمر وفى حضور الرئيس أنور السادات نفسه!!
 
ورغم ذلك النقد من جانب د. عائشة لزيادة اختصاصات رئيس الجمهورية فقد اختارها السادات كوزيرة للشئون الاجتماعية عام 1971 فى حكومة د. محمد فوزى.
 
 ولم تغير الوزراة فى مبادئ ومعتقدات د. عائشة راتب، وعندما صدر قانون الانفتاح الاقتصادى عارضته وانتقدته بقسوة لأنه مخالف للدستور وتشوب مواده الكثير من العيوب الدستورية!
 
ثم اختلفت مع السادات فى رؤيته لمظاهرات الخبز فى يناير 1977  حيث رآها السادات «انتفاضة حرامية» ورأتها د. عائشة راتب بأنها انتفاضة مشروعية، وعلى الفور قدمت استقالتها من الحكومة!
 
وبعد عامين فوجئت بتعيين «السادات» لها كأول سفيرة مصرية فى الدنمارك لمدة عامين ثم انتقلت كسفيرة إلى ألمانيا الغربية.وفى حياة السادات عارضت السفيرة اتفاقية «كامب ديفيد» لكنها عادت لتشيد بها بعد سنوات، مؤكدة أن السادات كان له رؤية بعيدة النظر ويستحق أن نقول له: برافو عليك يا سادات!!
 
وفى عام 1995 حصلت د. عائشة راتب على جائزة الدول التقديرية وقيمتها خمسة آلاف جنيه، وبعد عامين أصبحت قيمة الجائزة مائتى ألف جنيه فأرسلت خطاباً إلى الرئيس مبارك مع أحد معاونيه تقول فيه إن عائشة راتب لها عندك 195 ألف جنيه ولم يرد عليها أحد!
 
أمثال د. عائشة راتب لا يرحلون، بل تبقى القامة والقيمة التى يمثلونها!!