السبت 4 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
حكومة جـــبانة

حكومة جـــبانة


كل ملوك ورؤساء مصر فشلوا فى اغتيال حرية الصحافة، وكلهم بدون استثناء - وبدرجات متفاوتة - كرهوا الصحافة الحرة التى تنحاز لأبناء الأمة لا حاكم الأمة.
وما أكثر المحاولات المستميتة التى قام بها الحكام وأصدروا عشرات القوانين لقتل الصحافة الحرة تحت عشرات الدعاوى والمسميات التافهة والكاذبة، من جرائم العيب فى الذات الملكية إلى جريمة إهانة الرئيس.. ومن تهمة إهانة الرموز إلى تهمة تشويه سمعة الوطن.
وفى كل هذه المحاولات المشبوهة لقمع الحرية وحرية الصحافة انتصرت الصحافة وأهل القلم وخسر أهل الحكم والعشيرة بكل ما يملكون من أدوات القمع والبطش والتلفيق والتزوير.
لا إغلاق الصحف ولا شطب المقالات، ولا اعتقال وحبس الكتاب والصحفيين جعل الحاكم يهنأ بكرسى الحكم ومقامه.
إن الأغبياء والحمقى وأعضاء حزب «الجهل» هم وحدهم الذين لا يعرفون، أو يعرفون وينكرون الدور العظيم الذى لعبته الصحافة المصرية فى التمهيد لقيام ثورة 23 يوليو ,1952 وكذلك ما قامت به الصحافة الخاصة وبعض الأقلام النزيهة فى الصحافة القومية فى التبشير والتمهيد لثورة يناير .2011
∎∎
نعم أن التاريخ لا يكرر نفسه أبداً، إلا فى مصر وحدها فهو يكرر نفسه وبسخافة مذهلة، ولا أحد يفهم أو يتعلم حتى يتجنب خطايا سياسية واجتماعية لا لزوم لها.
وما أشبه الليلة بالبارحة فى المؤامرة والتآمر على حرية الصحافة!
وقبل حوالى 62 سنة كان حكم الملك فاروق يترنح، وفساد النظام يزكم الأنوف، وراحت الصحافة الحرة تهاجم وتنتقد، حتى وصلت إلى أكبر رأس فى البلاد، ويتقدم خيرة أبناء مصر من أهل الصحافة ليكتبوا لوجه الله والوطن مقالات من نور ونار.
يكتب: «أحمد حسين» عن عصابة الرأسماليين ترفع رأسها و «رعاياك يامولاى».
ويكتب: «فتحى رضوان» عن «عهد الكلاب».
ويكتب: «خالد محمد خالد» مقاله الشهير «كان رئيس وزراء ورئيس عصابة».
ويكتب «حلمى سلام» هذا الفساد الأعظم متى تخلص مصر منه؟!.
ولم يعد السكوت ممكنا عن هذه الصحافة، وأخرجت الحكومة من درجها قوانين تقضى بتعديل المادة 15 من الدستور التى تنص على حرية الصحافة وإصدار تشريعات تعطى مجلس الوزراء حق مصادرة الصحف وتعطيلها بغير الرجوع إلى القضاء وهو نفس ما يريدونه الآن بالضبط.
وقامت الدنيا ولم تقعد صيف 1951 وتصدت الصحافة الحرة لهذه المؤامرة الدنيئة والمريبة لاغتيال «حرية الصحافة» وكانت «روزاليوسف» فى الطليعة ومعها صحف ومجلات اللواء الجديد والاشتراكية والدعوة والكاتب والملايين، وأخبار اليوم أيضاً وهى التى كانت محسوبة على السراى.
صدرت «روزاليوسف» بتاريخ 31 يونيو سنة 1951 - وغلافها يصور رسماً كاريكاتيرياً يمثل وزير الداخلية «فؤاد سراج الدين باشا» وهو يصوب مسدسة إلى «المصرى أفندى» وكتبت تحتها «الاغتيال السياسى الذى لا يعاقب عليه القانون».
وكتب: «الأستاذ الكبير إحسان عبدالقدوس» واحداً من أهم وأخطر مقالاته وكان بعنوان «هذه الحكومة تخاف أن تواجه القضاء» وكتب يقول: هذه الحكومة تخاف أن تواجه القضاء، هذه الحكومة رغم كل مافعلت ورغم كل ما أفسدت من ذمم، وما اشترت من ضمائر، وما زرعت من فساد، وما سنت من قوانين ظالمة، لا تزال ترتجف من أن تقف خصماً أمام القضاء العادل ولا تزال تخشى أن يكون بين القضاة المصريين قاض نزيه، حر الرأى سليم المنطق، نظيف الذمة، غيور على ضميره وغيور على العدل وعلى سمعة بلده.
إنها حكومة جبانة، فقدت الثقة بنفسها، وفقدت الثقة بمبادئها، وعجزت عن أن ترد على حجج خصومها، وعجزت عن أن تجد لها سنداً من الدستور أو من القانون أو من العدالة، ولم تجد ما تدافع به عن نفسها إلا أن تشرع القوانين التى تعفيها من الوقوف أمام القضاء، وتحصر سلطة الاتهام والحكم والتنفيذ فى يدها وحدها، لتظلم كيفما تشاء، وتبطش كيفما تشاء.
وهكذا بدأت تشرع القوانين الجديدة الخاصة بحرية الصحافة مدعية أنها بهذا التشريع إنما تفسر المادة 15 من الدستور.
∎∎
ومضى الأستاذ: إحسان عبد القدوس يقول:
وعندما أقول إن هذه الحكومة تخشى أن تواجه القضاء لا أبالغ، فقد أرادت أن توقف «أحمد حسن» عن الكتابة، فلما لم تستطع أن تواجه القضاء، سلطت عليه النيابة وهى جزء من السلطة التنفيذية لتحبسه حبساً احتياطياً فى غير حكمة قانونية، ومن غير داع يستدعيه التحقيق.
وعندما أرادت أن توقف «مصطفى مرعى» عن الكتابة، لم تقدمه إلى القضاء بل اكتفت بالتحقيق معه، ثم لجأت إلى نص القانون الذى يقضى بمصادرة الجريدة، إذا عادت إلى الكتابة فى موضوع محل تحقيق النيابة، ولكنها عندما تقدمت إلى القضاء لهذه المادة نفسها ليحكم بتعطيل جريدة «اللواء الجديد» خذلها القضاء، لأنه لم ير محلاً لتطبيقها، ولا عدلا فى التهديد بها.
ولقد حقق مع «روزاليوسف» أكثر من مرة وفى أغلب المرات أفرج عن رئيس التحرير بكفالة، ورغم ذلك فلم تقدم واقعة واحدة من الوقائع التى حقق فيها إلى المحاكمة، كما أن التحقيق لم يحفظ، إنما بقى سلاحاً مشرعاً فوق أقلامنا يهددنا بتطبيق المادة «199» التى تنص على مصادرة كل جريدة تتعرض لموضوع هو محل تحقيق بل إن الحكومة كانت تخشى مواجهة المحققين أنفسهم عندما ينزعون إلى حرية الرأى ويتمسكون بشخصياتهم.
لقد خشيت الحكومة أن تواجه القضاء أو إحدى هيئاته بهذه التشريعات فلم تتقدم بها بنفسها تهرباً من عرضها على «مجلس الدولة» أو «محكمة القانون الإدارى».
فأوعزت إلى أحد النواب بأن يتقدم بها- أى بهذه التشريعات- إلى البرلمان مباشرة، وقبل النائب بهذه المهمة التعسة ورضى أن يسجل اسمه فى مضابط مجلس النواب على أنه الرجل الذى قبل على نفسه أن يستخدم كمخلب قط لخنق حرية الرأى ووأد الوعى الجديد!
ولست فى حاجة إلى أن أعدد الشواهد على تهرب الحكومة من مواجهة القضاء، ولا أن أعدد المرات التى دفع فيها القضاء الحكومة بتهمة التعسف والاضطهاد، فهى كلها شواهد تنتهى إلى معنى واحد، وهو أن الحكومة بهذه التشريعات لم ترم إلى تقييد حرية الصحافة فحسب، بل إلى تقييد حرية القضاء العادل، ونزع اختصاصه حتى تتهرب من ضمير القاضى الحر وتتجنب حكم القاضى النزيه!
وحجة الحكومة فى إصدار هذه التشريعات أنها تكمل نقصا فى الدستور والقانون!
ولا شك أن فى الدستور والقانون نقصا كبيرا شعرت به الحكومة، فالدستور لم يتسع بعد لإطلاق يد الحكومة فى مصادرة الحريات!! والدستور لم يتسع بعد لحماية حق إحدى الطبقات فى استبعاد طبقة أخرى!! والدستور لم يتسع بعد ليقيم من إنسان ما «إلها مقدسا» لا يجوز أن تقربه الأقلام، ولا يرتفع إليه نقاش، ولا يلحقه حساب، ولا يرد عن جريمة!
والدستور لا يعتبر الحكومة هيئة سماوية ترتفع فوق الشك، ولا يعتبر وزراء الوفد أنبياء مرسلين يسير الحق بين أيديهم وفى ركابهم، وتظلل البركات أقرباءهم وأنسباءهم!
نعم إنه دستور ناقص وأن النقص كبير، وهذه الحكومة أول من شعر به، وأول من عمل- ويعمل- على تغطيته!
∎∎
ويختتم «إحسان عبدالقدوس» مقاله الخطير قائلا:
ولن يحدث شىء عندما تصدر هذه التشريعات التى تسد النقص فى الدستور والقانون، لن تثور مصر، ولن تمتنع صحافتها عن الصدور، كل ما هناك أن يتجرأ كاتب طويل اللسان ويكتب مقالا كهذا المقال يمر كما مر غيره من المقالات ويعوضه أن يجد أحد كتاب الوفد فى نفسه الجرأة ليؤيد التشريعات بحجة أن الحكومات السابقة كانت تضطهد الصحافة، وأن من المنطق أن نضع فى يد هذه الحكومة سلاحا جديدا لكى تضاعف الاضطهاد، ثم يقصر منطقه عن أن يرى أن الحكومات السابقة هى نفسها الحكومات اللاحقة، وأن السلاح الجديد الذى نضعه فى يد الحكومة الحاضرة اليوم، سينقل غدا إلى يد حكومة أخرى تطبقه على خصومها! ولن يحدث شىء بعد هذا!
لن تفقد «جريدة الأهرام» وقارها، ولن تعلن جريدة «المصرى» خروجها على سياسة الوفد، ولن تلجأ نقابة الصحفيين إلى هيئة الأمم لتعينها على حمامة حرية الصحافة ولن ينظم سكرتيرها الدائم مظاهرة احتجاج سيمر القانون فى هدوء وتختف الصحافة إلى الأبد!!
سيقال فى مضابط مجلس النواب أن حكومة الوفد هى التى أصدرت هذه القوانين وسيقال إن نواب الوفد الشبان الذين طالما أدعوا نصرة الحرية، هم الذين وافقوا على مصادرة الحرية، سيقال كل هذا، وسيبقى مسجلا فى التاريخ، ولن يستطيع «النحاس» باشا أن ينفيه إلا إذا أعلن أنه «عبدالمأمور»!! وإلا إذا أعلن نواب الوفد أنهم «مسيرون لا مخيرون»!
سيقال كل هذا ولكن ماذا يهم ما يقال.. وما أكثر ما قيل.. مادامت الأقلام ستسكت إلى الأبد، ومادام القضاء سيكبل إلى الأبد، ولتزهق أنفاس «مصر» بعد ذلك، فلن تقول شيئا.
انتهى المقال المنشور عام ,1951 فهل كان «إحسان عبدالقدوس يكتب عن أحوال الصحافة والسلطة الآن؟!∎