السبت 4 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
حكـم قـراقـوش

حكـم قـراقـوش






 
 

 
 

 
 
 
ممنوع الكلام، ممنوع الكتابة،  ممنوع الابتسام، أما الضحك فهو جريمة لا تغتفر فى نظر كل مستبد وطاغية! الطغاة يظنون أن كل ابتسامة لمواطن هى معارضة مستترة، وأن كل ضحكة مجلجلة وراءها قلة مندسة تحاول قلب النظام! وكما يصادر الطغاة الصحف والمجلات والرسوم، فهم يطاردون كذلك الضحكات والابتسامات والنكات والقفشات.
ولعل الفنان الكبير «نجيب الريحاني» خير مثال لذلك، لقد روى «مصطفى النحاس باشا» فى مذكراته قصة رائعة كان بطلها «الريحانى»!
 
 
 
 
 
 
 
 
كان «النحاس باشا» وكبار رجالات حزب الوفد قد ذهبوا إلى «رأس البر» بعيداً عن ضجة الغارات وأصوات القنابل - زمن الحرب العالمية الثانية - وراح المصيفون يتوافدون للترحيب به وتحيته يقول «النحاس باشا»:
كنت كلما نزلت إلى الشاطئ أتمشى أو قصدت زيارة أحدهم ألقى الحفاوة وإقبال المصيفين والمستحمين يهرعون جميعاً لتحيتى والترحيب بى مما يبعث فى النفس السرور ويملأ القلب بالحبور!
ورأيت الأستاذ «نجيب الريحاني» وفرقته وسألت ما الذى جاء بكم؟! فقال «نجيب»: إننا هنا منذ أيام نعرض بعض الروايات، وسنقضى بقية هذا الشهر وأغسطس فى المصيف، وعسى أن يكون لنا حظ فى أن تتفضل فتحضر بعض حفلاتنا، فقبلت دعوتهم.
لبيت دعوة الأستاذ نجيب الريحانى لحضور حفلة تمثيلية وقد استقبلنا الحاضرون استقبالاً كريماً حتى ضاق بهم المسرح وما حوله، وبدأت الفرقة فى تمثيل رواية «حكم قراقوش» وهى تمثيلية فكاهية هادفة تصور كيف كان الحكام يستبدون بشعوبهم ويسومونهم العذاب، وقد أجاد «نجيب الريحانى وحسن فائق وبشارة واكيم وعبداللطيف جمجوم ومارى منيب وجميع أعضاء الفرقة، أجادوا أدوارهم وأدوها بدقة، وصفق لهم الجمهور تصفيقاً حاداً وأعلن إعجابه بهم أكثر من مرة، وشجعت من جانبى الفرقة كلها وشكرت «الريحاني» دعوته اللطيفة، وبعد أداء الفصل الأول وقبل رفع الستار عن الفصل الثانى تقدم «بديع خيري» وألقى زجلاً وطنياً حيا فيه الفن ونصراء الفن وعرج على تحيتى ولما وصل إلى قوله: «وكفى فخراً بأن بين الشهود رفعة رئيس الوفد سيد البلد» ضج الحاضرون بالتصفيق فى حماسة وأخذوا يهتفون بحياة الوفد ورئيسه وحياة مصر واستقلالها هتافات مدوية!».
وانتهت المسرحية بعد منتصف الليل وسارع الجمهور لتحية ومصافحة زعيم الأمة «النحاس باشا» الذى كرر إعجابه بالتمثيل والممثلين ثم صافح «بديع خيري» شاكراً ومعجباً ثم غادر المسرح ووصل إلى الفندق.
ويقول «النحاس باشا»: فوجئت بأن محافظ دمياط يطلب مقابلتى فى أمر عاجل، فوافقت واستقبلته فإذا به يطلب إليَّ أن أساعده على أن ترحل فرقة الريحانى من المصيف فى أقرب فرصة، ذلك أن السراى الملكية قائمة على قدم وساق وأن من فيها كلهم ثائرون لأن بديع خيرى قال فى زجله، «رفعة رئيس الوفد سيد البلد» وأن المسئولين رأوا فى هذا تعريضاً بجلالة الملك على حد تعبير المحافظ، وأنه أى المحافظ أراد أن ترحل الفرقة فى هدوء وسلام فأبى «الريحاني»، وقال إنه مرتبط بحفلات وقابص عربونها، وعلم المصيفون بهذا الخبر فاجتمعوا واحتجوا وأصروا على ألا تبرح الفرقة المصيف إلا فى الموعد الذى حددته من قبل».
تأثرت من قوله وقلت له: لنطلب الريحانى لنرى وجهة نظره، وطلبنا الريحانى فجاء ومعه بديع خيرى فاستقبلتهما مرحباً وسألت عن الموضوع، فقال نجيب إن سيادة المحافظ جاء يطلب أن أعود بفرقتى إلى القاهرة حالا ولكننى قلت له إننى لا أستطيع قبل أن أرتب أمورى وأقوم بالارتباطات التى ارتبطت بها وأمثل الروايات التى قبضت عرابينها، ولكنه أصر وهدد بأن يستعمل القوة، فلم أجد إلا أن أستعين بالمصيفين فهاجوا وماجوا وهددوا بأن يفعلوا ويفعلوا إذا أرغمتنى الحكومة على الرحيل، وأنا لا أريد أنا أخلق مشاكل أو أتعرض أنا وفرقتى لإهانات، ولكنى قبضت مبالغ من جهات مختلفة لأقيم عدة حفلات هنا تنتهى تقريبا فى الأسبوع الأول من سبتمبر فماذا أصنع؟!
■■
وعلى الفور قال النحاس باشا للمحافظ: إما أن تتركوا الرجل وفرقته يقيم الحفلات التى ارتبط بها أو تعوضوه عن الخسائر التى ستحل به وتردوا العرابين للذين دفعوها والأجور للممثلين الذين يعملون ليعيشوا، وما عليك إلا أن تعرض على رؤسائك أحد الحلين، وخرج المحافظ ضيق الصدر وقال سأتصل بالمسئولين!
أما نجيب فضحك وقال لزميله «بديع»: ما كنت أظن أن كلمة لا أقصد بها إلا تحية وتكريمًا تؤول هذا التأويل وتحدث هذه الضجة! فأجبت: لقد صدق عليهم المثل العربى كاد المريب أن يقول خذوني! وفيما نحن فى حديثنا حضر بعض أفراد الفرقة وقالوا إننا مصرون على أن نبقى هنا نؤدى أعمالنا، وإذا لم يعجبهم فليقبضوا علينا وليرّحلونا تحت قوة السلاح! وصاح أحدهم وقد انتحب صوته: إننى أفضل أن أعيش سجينًا من أن أستسلم لهؤلاء الطغاة الجبارين!
وقال النحاس له: إن المحافظ وهو صنيعة الحكومة استغاث بى لأنه لم يستطع أن يتغلب على قوة الرأى العام وقد اقترحت عليه أحد اقتراحين وكلاهما لا يمس واحدًا منكم فى رزقه، فإما أن تأخذوا أجوركم كاملة وإما أن تتركوا لتؤدوا مهمتكم!
واتصل المحافظ بالنحاس باشا وأخبره أنه تحدث مع وزير الداخلية فقال له: اتفق مع الفرقة على دفع الخسائر التى ستلحقها إذا  رحلت حالاً وألغت حفلاتها وأنه- أى الوزير- عرض على رئيس الوزراء- حسن باشا صبري- يستأذنه فى صرف التعويضات، وطلب إلى أن أخبر «الريحاني» بذلك حتى يطمئن ويعد العدة للسفر، واستدعيت الريحانى وأخبرته الخبر فقال:
- أنا لا أثق بوعود الحكومة، فليدفعوا التعويض قبل الرحيل!
فقلت له: اتفق مع المحافظ وإذا عرض لك شيئا فخاطبنى!!
ولعل أبلغ وصف لهذه الواقعة هو وصف النحاس لها بأنها «تصرف صبياني»! وما أكثر التصرفات الصبيانية التى تقوم بها الحكومات فى كل زمان ومكان!
■■
ويرحل «الريحاني» فى عام 9491 وقبل ثلاث سنوات من ثورة 32 يوليو 2591، ويظل كما كان ضميرًا حيًا لا يموت فى وجدان الأمة.
وفى ذكراه الخامسة تحتفل به ثورة يوليو اعترافًا وتقديرًا لدوره الوطنى الكبير، وفى هذا الاحتفال تحدث عنه بحب وامتنان «أنور السادات» وعلى مسرح الريحانى حيث أقيم الاحتفال قال السادات:
من فوق هذا المنبر الكريم الذى كان دائمًا وأبدًا نافذة للأحرار يستنشقون من خلالها عبير الحرية المنعش للأرواح فى أوقات عزت فيها الحرية واختنقت فيها الآراء فى صدور المفكرين، كان مسرح الريحانى دائما أبدا نافذة للأحرار، يستنشقون منها عبير الحرية المنعش لأرواحهم.
ومضى السادات فى كلمته التى نشرتها  وقتها مجلة «أهل الفن» يقول:
فى تلك الفترة الرهيبة من تاريخ الوطن التى كشف فيها الاستعمار عن حقيقته البغيضة والتى اعتقل فيها الأحرار وشرد الوطنيون، وكممت أفواه الخطباء وقصفت أفلام كبار كُتاب الصحف، كان الهتاف باسم مصر يتردد مدويًا عذبًا من بين جنبات مسرح فرقة نجيب الريحاني، فقد كانت روايات الريحانى حينذاك دروسًا فى الوطنية والثورة على الاحتلال.
كان أكثر الكُتاب يطبلون للعهد ويزمرون ويضللون الرأى العام المسكين، أما هذا المسرح فقد أصر على موقفه، ولم يتنازل عن مثله الأعلي، ظل كما كان جوقًا لهتاف الأحرار، ونافذة يستنشقون منها عبير الحرية، بل لقد جرؤ الريحانى على أن يعرض على مرأى ومسمع من «فاروق»- الملك- قصة فساده وفسقه وظلمه فى مسرحيته الخالدة «حكم قراقوش» وأن يعرض على مرأى ومسمع من كل الطغاة المفسدين من الحكام قصة فسادهم وانحلالهم وارتشائهم فى أكثر من مسرحية، فقدتحدث عن فضائح «الأوقاف» فى مسرحية، وتحدث عن مساوئ الإقطاع فى مسرحية أخري، وسخر من أبناء الذوات العاطلين المخنثين الذين لا عمل لهم فى كل مسرحية، وصّور نواب الأمة الذين يتاجرون بالنيابة، ولم يترك موبقة من الموبقات إلا أبدى رأيه الصريح فيها.
ويمضى «السادات» قائلا فى كلمته:
إننى أعترف أمامكم بأنى كثيرًا ما ضقت بالحياة وما أشهد فيها من مهازل ومخاذ، وكثيرًا ما شعرت بأنى أكاد أختنق فى ذلك الجو المشبع بدخان الرذائل والخبائث والمفاسد، فكنت لا أجد مهربًا ومنفسًا إلا فى هذا المكان، حيث أضحك ساخرًا من المفسدين، وحيث تنطلق روحى هازئة منهم، منفسة عن آلامها وغلها وحفيظتها.
واختتم السادات كلمته بقوله: سلام على ذكرى نجيب الريحانى المواطن الثائر، ونجيب الريحانى الفنان الساخر».
■■
عاشت الكوميديا، وسقط الاستبداد!!