
خيرى حسن
يونس شلبى.. التجارة مع الفن.. فن!
لىَّ مين غيرك يا بلدى.. لىَّ مين؟
إنت اللى أرضك طيبة
والغربة فيك قريبة/ يا حنينة
على قلبنا/ طول السنين!
( سيد مرسى ـ بليغ حمدى ـ 1979)
(الدقى ـ 2005)
الطريق إلى مستشفى العجوزة للعلاج الطبيعى والتأهيل، يسلكه المرء بسهولة، عن طريق شارع عبدالرحيم باشا صبري، من شارع التحرير. خرجت من محطة مترو الدقي، واتجهت إلى هذا الشارع فى ذلك المساء الهادئ من شتاء ذلك العام، أمشى تحت سماء القاهرة، الممتلئة بشبورة تنذز بسقوط أمطار خفيفة. الشارع هادئ جدًا؛ إلا من عدة أشخاص يعملون كحراس للبنايات الجميلة، التى تذكرك بزمن القصور والباشوات فى عصر مصر الخديوية.
فى منتصف الشارع، رأيت بوابا أكل الدهر على ظهره، وشرب، يجلس القرفصاء أمام حجرته الصغيرة الملحقة؛ بعمارة عتيقة، وأمامه جهاز تليفزيون صوته مرتفع بعض الشيء، نظراً لحالة الهدوء التى تطبق على المكان. يرتدى جلباباً قصيراً، وعلى رأسه عمامة كبيرة، ويدثر قدميه ببطانية رديئة المظهر من شدة البرد. اقتربت منه قليلاً أسأله عن المستشفى الذى أنا فى طريقى إليه. على الشاشة التى أمامه تتر فيلم «إحنا بتوع الأتوبيس» إنتاج عام 1979 إخراج الراحل حسين كمال. التتر تغنى فيه مجموعة من ألحان بليغ حمدى وكلمات سيد مرسي، لىًّ مين؟ لىًّ مين غيرك يا بلدي.. لىَّ مين؟ ياللى علمتينى إيه معنى الحنين؟ وقفت أنظر للبواب وهو يهز رأسه مع الألحان بتركيز شديد ولا ينتبه لوجودى بجواره.. ومع وصول التتر لنهايته، بدأت أحداث الفيلم. التفت لى قائلاً: خير يا أفندي؟ أى خدمة؟ قلت: كيف أصل إلى هذا العنوان؟ رد بعجلة فى كلامه قائلاً: أكمل هذا الشارع حتى نهايته. ثم انحرف جهة اليمين قليلاً. ثم انظر ناحيه الشمال. بعدها ستجد المستشفى الذى تريده.
ثم أدار وجهه ليتابع أحداث الفيلم، وهو مازال يردد بأسى: «لىًّ مين غيرك يا بلدي.. لىًّ مين؟ أنت اللى أرضك طيبة/ والغربة فيكى قريبة/ وحنينة/ على قلبنا/ طول السنين.. لىًّ مين.. غيرك يا بلدي؟ لىًّ مين؟ كان هو يغنى وكنت أنا استمع، وعينى على شاشة التليفزيون. فجأة التفت لى فوجدنى متصلباً وواجماً. نظر لى بعتاب قائلاً: خير يا أستاذ.. هل تنتظر أى شيء آخر؟ ثم أكمل متعجباً: الفيلم بدأ! قلت مازحاً بغرض استفزازه: ولكن هذا الفيلم عرض من قبل.. أليس كذلك؟ رد بغضب: نعم.. وشاهدته أكثر من مرة.. وسأشاهده كلما وجدته يعرض أمامي. قالها وهو يلاحظ حالة من الدهشة على ملامحي، لذلك قال: هذا الفيلم يلخص حال مصر، فى مرحلة من أصعب مراحل البلد التى مرت بنا بعد ثورة23 يوليو. ثم غابت من على وجهه حالة الغضب وحلت مكانه ابتسامة ساخرة وهو يقول: أنا أعمل- فى الواقع- بوابا من 50 عاماً، لكن فى نفس الوقت مثقف يا أستاذ؛ تعلمت الثقافة على يد كاتب كبير، كان يسكن فى العقار المجاور هذا ـ وأشار بيده إليه ـ فى الستينيات. كنت أشترى له الصحف كل يوم، وهو مختبئ خوفاً من اعتقاله، فى شقة صديق له كان يعيش فى فرنسا بعد هروبه من مصر، وتركها له. وظل يعيش فيها لعدة سنوات، وذات يوم ذهبت إلى ميدان الدقى أشترى له الصحف المتفق عليها بيننا، كطقس يومى كنت أقوم به. عندما عدت وصعدت إليه لم أجده. مرت سنوات عرفت بعدها أنه تم القبض عليه، واعتقل فى سجن بعيد بالصحراء (يقصد سجن الواحات) ومنذ ذلك اليوم لم أعرف عنه شيئاً. قلت: هل كان يسارياً؟ نظر لى بدهشة وعيناه على أوراق الشجر المتساقط أمامنا وقال: ما أعرفه إنه كان مصرياً، يحب الخير للناس ويتكلم عن العدل والمساواة بين الناس. ويكره الأغنياء ويحب الفقراء. تعلمت منه أشياء كثيرة وجميلة، حيث كان التواضع سمة من سمات شخصيته. قلت: هل تذكر اسمه؟ رد: أظن اسمه لن يفيدك كثيراً. ثم أدار ظهره يتابع أحداث الفيلم باهتمام واضح. بعدها أدركت.. لماذا هو مهتم بمتابعة أحداث فيلم: «إحنا بتوع الأتوبيس»! فتركته وواصلت المشى فى الطريق الذى حدده لي، تحت زخات المطر الذى يتساقط بشدة، ولا أحد يستقبله فى الشارع سواى!
(مشتشفى العجوزة ـ 2005)
وصلت إلى المستشفى حيث كنت على موعد مع الفنان الكوميدى يونس شلبى (مايو 1941 ـ نوفمبر 2007) لإجراء حديث صحفى للصحيفة التى أعمل بها حينذاك، حيث كان يعالج من أمراض عظام هاجمت قدمه اليسرى التى كانت تحتاج لزراعة شرايين جديدة ـ إن لم تخنّى الذاكرة ـ بعد رحلة مرضه الأولى لعلاج القلب فى مستشفى بالسعودية، وتغيير ثلاثة شرايين فيه وتوسعة القفص الصدري، فى عملية أولى ناجحة. دلفت إلى حجرته، لا أحد بجواره، الإضاءة خافتة. وهو يرقد مرتدياً (طاقية) صوف يظهر من تحتها عيناه الزائغتان، المنتبهتان، الناظرتان للسقف بقلق. اعتدل قليلاً بصعوبة وهو يستقبلني. ثم قال: أهلاً وسهلاً اتفضل. جلست على مقربة منه، ودار بيننا حديث أردته قصيرا بعض الشيء، حتى لا أثقل عليه. وقتها شعرت من كلامه إنه حزين، بعدما غابت عنه النجومية، واختفت أيامًا ولياليَ الشهرة الزائفة ـ بنص كلامه ـ ولم يبق له إلا زجاجات الأدوية، والمحاليل، وتعليمات الأطباء، ولم يعد بجواره إلا اللون الأبيض. وغابت ـ تحت وطأة المرض ـ كل الألوان. وأنفق كل أمواله على رحلة علاجه، بعدما باع كل ما يملكه فى مدينته التى ولد فيها ـ المنصورة ـ بدلتا مصر. مرت ساعة تحدثنا فيها عن الثقافة والسياسة والفن، الذى كان يتحدث عنه بحزن شديد وهو يقول: تحولنا من التجارة مع الفن إلى التجارة بالفن. والاختلاف بينهما شديد جداً، فأنت عندما تتاجر مع الفن، فهذا معناه أنك تبحث عن رسالة هادفة للمجتمع. أما إذا أفلت الزمام من الفنان، وتحول للتجارة بالفن، فهذه طامة كبرى ستساهم فى هدم ثوابت القيم فى المجتمع. بعد دقائق سكت وهو يتناول جرعة دواء حان موعدها، ثم قال: لقد تدخلت الدولة لعلاجى على نفقتها وهذا أمر أسعدنى كثيراً، وجعلنى أشعر بأن ما قدمته للجمهور على مدار مشوارى لم يذهب أدراج الرياح . وقبل أن أتركه عرفت منه أن الفنان سعيد صالح والدكتور أشرف زكى هما اللذان يسألان عنه باستمرار فى محنة مرضه القاسية التى بدأت منذ عامين. حاولت أن أخرجه من حالته السيئة، وبدأت أتذكر معه (الواد منصور) فى مسرحية مدرسة المشاغبين. و(الواد عاطف) فى مسرحية العيال كبرت. وبعض أدواره المتميزة التى قدمها ورسم من خلالها البسمة على الوجوه العابسة فى وطننا العربى الكبير، بعدما قدم ما يقرب من 77 فيلماً سينمائياً، بخلاف عمله الشهير للأطفال «بوجى وطمطم». تركنى أتذكر مسترجعا حكايات قديمة بعض الشئ حتى أخرجه من شعوره المؤلم بالمرض وهو ينظر لى ويبتسم. ثم قلت له: لماذا رفضت حضور الفنان سعيد صالح حفل زفافك؟ مد يده وأزاح الطاقية من على رأسه للخلف ثم قال: لأنه كان سيقلب الفرح إلى مسخرة! قالها وهو يضحك بشدة. ثم قال: ورغم رفضى حضوره هو وباقى الزملاء الفنانين وتحذيرى لهم؛ فقد فوجئت به جاء ومعه مجموعة كبيرة من الأصدقاء. يومها الحقيقة أسعدونى بحضورهم كثيراً. كان الوقت بنا يمر بسرعة مفرطة. هوـ كما بدا لى من ملامحه ـ يشعر بسعادة واضحة، خاصة وهو يتذكر زمنه الجميل. ومشوار حياته الطويل. وهذا شجعنى لأسأله عن دوره فى فيلم «إحنا بتوع الأتوبيس». ولماذا اختار المخرج العبقرى الراحل حسين كمال مجموعة من نجوم الكوميديا ليلعبوا بطولة هذا العمل الذى تدور أحداثه عن قصة حقيقية سجلها الكاتب الصحفى الراحل «جلال الحمامصي» فى كتاب عنوانه «حوار خلف الأسوار»، حيث تدور الأحداث حول التعذيب وراء الأسوار، خلال حقبة الستينيات.
يومها استمع لى جيدا، وكأنه يعيد ذكرياته مع الفيلم. ثم قال: هذه عبقرية حسين كمال، فهو مخرج مختلف، ويبحث دائماً عن المختلف. وأظنه كان يدرك أن الكوميديا بقدر ما تحمل بداخلها الكثير من البهجة، والضحك، والسعادة، هى أيضا تحمل بداخلها السخرية، والمرارة، والحزن. ويوم أن عرض عليّ الدور وافقت على الفور. بعدما رأيت فى دور الطالب «علي» ـ الذى اعتقلوه وهو يغنى للوطن داخل مسرح الجامعة:« لىًّ مين غيرك يا بلدي.. لىًّ مين»؟ ـ مستقبل سيئ للوطن، وللشباب إذا سجنت أحلامه. ثم سكت بعض الوقت ولم يكمل كلامه. وأنا مثله لا أتكلم، وأنظر إليه أنتظره يواصل حديثه. لكنه بهدوء أغمض عينيه قليلاً، ومدد جسده على المخدة التى خلف ظهره، ورفع قدمه المتعبة إلى أعلى، وبداخله صرخة يحاول كتمانها أمامي.
ثم ودعنى وأغمض عينيه، ووضع يده عليهما لينام بهدوء. بعدها خرجت أترجل فى شوارع العجوزة فى طريقى لمحطة مترو الدقى وسط بقايا أمطار مازالت تتساقط من على أوراق الشجر العابث، تحت إضاءة خافتة حولت الشوارع إلى دروب شبه مظلمة.