الإثنين 7 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
البناءون العظام

البناءون العظام


على مدار تاريخها الممتد لآلاف السنين قيد الله لمصر مجموعة كبيرة من الحكام الأقوياء الذين استطاعوا إنهاء فترات الضعف والتقسيم وإقامة دولة قوية قادرة على توسيع مساحة الإقليم وقادوا الحملات العسكرية لتأمين الحدود، وكان لكل منهم إسهامه الحضارى والاقتصادى والعمرانى الذى خلده التاريخ باسمه، فى الحلقتين الماضيتين عرضنا بعضًا من سيرة هؤلاء الأجداد العظام، وفى السطور التالية نستعرض بعضًا من سير مجموعة أخرى من حكام مصر القديمة الذين صنعوا مجدها الخالد أبدًا، والذى لايزال العالم ينظر إليه بإعجاب ويشير إليه بالبنان.
سنوسرت الثالث


يُعتبر الفرعون سنوسرت الثالث أعظم وأقوى فراعنة الأسرة الثانية عشرة والدولة الوسطى المحاربين. وحقّق فى عهده مجد مصر العسكرى والقوة والرخاء كأقصى ما يكون.
أدت حروب سنوسرت الثالث العسكرية التى تُدرس فى الأكاديميات العسكرية إلى سيادة الاستقرار والسلام والرخاء الاقتصادى الوفير فى أرض مصر الطاهرة، وحطم أسطورة حكام الأقاليم التى لا تُقهر وحجّمهم لأقصى ما يكون التحجيم، وقام بنهضة كبيرة فى الأعمال المعمارية والفنية والملاحية والزراعية وأعمال الرى لم يسبق إليها أحد من قبل.
ازدهرت فى عهده التجارة ووصلت إلى أقصى بلاد الجنوب وإلى الشمال مع بلاد الشام. وازدهرت أعمال الملاحة فى عهده وقام بمد قناة تحمل اسمه تربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط عبر نهر النيل الخالد. وتوسع العمران فى عهده بشكل مذهل.. وقام الفرعون سنوسرت الثالث ببناء وتنظيف قنوات ملاحية عدة فى منطقة الجندل الأول جنوب مصر مثل قناة الفراعنة التى حاول بناءها. وفى فترة ثلاث سنوات، توسع بشكل منهجى وغير مسبوق فى بلاد النوبة، وأقام سلسلة من القلاع المصرية الضخمة على طول نهر النيل فى مناطق بوهن وسمنة وقمنة وتوشكى وغيرها.
وتعددت حملاته العسكرية فى بلاد النوبة، فنراه يقوم بما لا يقل عن أربع حملات فى هذه البلاد فى الأعوام الثامن والعاشر والسادس عشر والتاسع عشر من حكمه المديد. وتشير لوحة عظيمة من العام السادس عشر من حكمه من منطقة سمنة إلى أنشطته العسكرية فى النوبة وكنعان فى بلاد الشام. وفى هذه اللوحة يوصى خلفاءه من ملوك مصر اللاحقين بالحفاظ على حدود مصر الجديدة التى قام بتحديدها ومد ممتلكات مصر إليها. وفى هذا السياق يقول جلالة الفرعون: «جعلت حدودى الجنوبية أبعد مما جعله آبائى.. وبالنسبة لابنى الذى سوف يحافظ على هذه الحدود التى قام بها جلالتى، فهو ابنى الذى وُلد لجلالتى. والابن الحقيقى هو الذى يقوم بأعمال البطولة لأبيه، وهو الذى يحرس حدود الذى أنجبه. غير أن الذى يهملها، والذى يفشل فى الدفاع عنها، فإنه ليس ابنى، ولم يُولد لى».


أمنمحات الثالث


الملك أمنمحات الثالث هو واحد من أهم فراعنة عصر الدولة الوسطى والأسرة الثانية عشرة. وكان إداريّا حازمًا وسياسيّا حكيمًا وبناءً عظيمًا. وتعتبر فترة حكمه الفترة الذهبية لعصر الدولة الوسطى وعهد سلام واستقرار وتعمير بعد الحروب التى خاضها أبوه الملك سنوسرت الثالث الذى ربما أشركه معه فى حكم مصر لمدة عشرين عامًا.
وبنى هرمه الأول المعروف بالهرم الأسود فى منطقة دهشور فى الجيزة. وفى حدود العام الخامس عشر من حكمه بنى هرمه الجديد فى الفيوم. وربما كان المعبد الجنائزى الخاص بهذا الهرم الأخير هو ما أطلق عليه المؤرخ اليونانى الأشهر هيرودوت وغيره اسم «اللابيرنث» (أى قصر التيه أو المتاهة)، الذى اعتبره المؤرخ والإغريقى استرابون واحدًا من عجائب العالم القديم.
ومنحت الحروب العديدة التى قام بها والده العظيم الملك سنوسرت الثالث هذا الفرعون الجديد الوقت كى يتفرغ للبناء والعمران. وقام الفرعون أمنمحات الثالث بأنشطة عسكرية غير كثيرة فى فترة حكمه المديدة. فيوجد ذكر لقيام حملة عسكرية صغيرة فى العام التاسع من حكمه. وجاء الدليل على هذه الحملة العسكرية من منطقة بلاد النوبة على نقش صخرى بالقرب من قلعة سمنة الشهيرة.  وقاد هذه الحملة العسكرية أحد قواد الملك، الذى ذكر أنه عاد بسلام إلى الشمال مع فرقة عسكرية صغيرة، وأنه لم يمت أحد منها عندما ذهبوا فى مهمتهم إلى الجنوب.
غير أن أهم ما يميز عهد هذا الفرعون البناء هو اهتمامه الكبير بإرسال بعثات تعدينية عديدة لمناطق التعدين المختلفة فى الأرض المصرية وأهمها منطقة وادى الحودى على حدود مصر الجنوبية للحصول على حجر الجمشت أو الأماتيست أو حجر الأرجوان. ويرجع تاريخ تلك البعثات إلى الأعوام الحادى عشر والعشرين والثامن والعشرين من حكم هذا الملك.
كانت منطقة وادى الحمّامات من أهم المناطق التعدينية التى أرسل الملك أمنمحات الثالث البعثات إليها. وترجع بعثات وادى الحمامات إلى الأعوام الثانى والثالث والتاسع عشر والعشرين والثالث والثلاثين من حكم جلالته. وربما كان عمل البعثتين فى العامين التاسع عشر والعشرين فى وادى الحمّامات ينصب على بداية التحضير لبناء مجموعة الملك الهرمية فى منطقة هوارة. وكذلك قامت فرق العمل المَلكية بقطع الأحجار لنحت التماثيل المَلكية الجميلة الخاصة بالفرعون أمنمحات الثالث. وعلى شاطئ البحر الأحمر تم اكتشاف لوحة تذكر إرسال بعثة إلى بلاد بونت فى عهد أمنمحات الثالث.


سقنن رع تاعا الثانى


الملك سقنن رع تاعو أو الملك سقنن رع جحوتى عا هو أحد ملوك الأسرة السابعة عشرة التى كانت تحكم جنوب مصر فقط من منطقة طيبة (الأقصر الحالية). وفى الفترة العصيبة من حكم مصر، كانت البلاد تقع تحت احتلال الهكسوس البغيض. وكانت هذه هى المرة الأولى التى يتم فيها احتلال جزء كبير من الأرض المصرية لفترة زمنية تبلغ قرنا من الزمان.
كان الهكسوس يسيطرون على شمال مصر، وأعنى منطقة الدلتا المصرية العريقة، وكان نفوذهم يمتد إلى مصر أقاصى الوسطى. وبدأ حكام مصر فى الأسرة السابعة عشرة تحت قيادة الملك الجنوبى سقنن رع تاعا الثانى فى البدء فى مقاومة احتلال الهكسوس؛ خصوصًا أنه لم يبق من أرض مصر المستقلة سوى شريط ضيق فى صعيد مصر كان ينعم بنوع من الاستقلال الذاتى تحت سيطرة حكام مدينة طيبة العريقة، وكان يمتد من القوصية فى محافظة أسيوط (آخر حدود الهكسوس جنوبًا) وإلى منطقة إلفنتين فى أسوان. فبدأ حكّام طيبة يشعرون بالقوة، وأخذوا يتحالفون مع جيرانهم من أمراء مصر فى الشمال والجنوب، وكتبوا أسماءهم فى خراطيش تسبقها الألقاب المَلكية نكاية فى الهكسوس وللتعبير عن ذاتهم المصرية فى مواجهة المحتل الغاشم.
وتوضح لنا إحدى البرديات المصرية بداية الصراع والاحتكاك بين حكام طيبة والهكسوس. وهى قصة تميل إلى الأجواء الأسطورية وتوضح قصة الاشتباك بين حاكم طيبة سقنن رع تاعا الثانى وملك الهكسوس أبيبى أو أبوفيس فى أولى معارك وحروب تحرير مصر من محنة الاحتلال الهكسوسى البغيض. وتظهر هذه القصة ملك الهكسوس أبوفيس وهو يحاول البحث عن مبرر كى يشتبك مع حاكم طيبة سقنن رع فنراه يرسل إليه برسالة غريبة يشكو فيها من أصوات أفراس النهر التى تسبح فى البحيرة المقدسة بمعبد الإله آمون فى منطقة طيبة، التى تزعج ملك الهكسوس وتمنعه من النوم فى عاصمته البعيدة أواريس التى تقع فى دلتا النيل، وتبعد مئات الكليومترات عن طيبة! وفى ذلك إشارة رمزية إلى معرفة الهكسوس بالاستعدادات التى يقوم بها حاكم طيبة لطرد الهكسوس. ورد عليه الملك البطل سقنن رع ردًا ذكيًا يظهر رغبته فى السلام، كما أكرم وفادة الوفد الهكسوسى بعد أن أشار عليه رجال بلاطه بذلك.
سقط الملك سقنن رع تاعا الثانى شهيدًا فى معركة الشرف والكفاح كى يحرر مصر من محنة الاحتلال الهكسوسى البغيض. وتوضح مومياء الملك البطل الموجودة فى المتحف المصرى فى ميدان التحرير موته متأثرًا بجراحه فى معركة الشرف. وتم التأكد من هذا الأمر بعد أن تم تجريب بعض الأسلحة التى استخدمها الهكسوس وتطابقها مع معظم الجراح الموجودة بالجمجمة، فضلاً عن سوء التحنيط الذى تم لهذه المومياء نظرًا لسرعة تحنيطه فى ساحة المعركة.