
هاني عبد الله
رصاصة الرحمة علي "صفقة القرن"!
على المنصة الحوارية لموقع «فورين بوليسى» (Foreign Policy)، كان أن اشتعلت المناقشات لأكثر من 50 ساعة (أى: حتى مثول المجلة للطبع)، حول «خطة السلام»، التى تتبناها الإدارة الأمريكية (!).. لم يكن «النقاش الساخن» الذى شهدته المنصة الحوارية وليد الصدفة، بقدر ما كان يُعبر عن عديدٍ من توجهات «الدولة الأمريكية العميقة» ذاتها؛ إذ انصب النقاش حول ضرورة تراجع «ترامب» عن مقترحاته بشأن السلام فى منطقة الشرق الأوسط (!)
.. وما فجر الموقف (على هذا النحو)، هو المقال التحليلى الذى كتبه «روبرت ساتلوف» تحت عنوان: «يجب على ترامب ألا يدع خطة جاريد كوشنر للسلام ترى ضوء النهار» (Trump Must Not Let Jared Kushner’s Peace Plan See the Light of Day).
واقعيًّا.. لا يُمثل محتوى المقال الدائرة «الأكثر سخونة» فى الأمر.. إذ إن دائرة النشر نفسها، هى الأولى بالتدقيق (أولاً).. فـ«فورين بوليسى» صوت رئيسى لمؤسسات الدولة العميقة فى واشنطن، وكاتب المقال ذاته، هو المدير التنفيذى لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى (القريب من اللوبى الصهيونى).. أى أن «دائرة النشر» (فى حد ذاتها) تحمل الرسالة الأولى، فى سياق الحديث عن الخطة الأمريكية للسلام.. ثم تأتى بعد ذلك تفاصيل المحتوى (!)
والرسالة هنا.. ربما تكون – فى السياق الاحتمالى – هى انتهاء [صلاحية الحديث] عن خطة السلام مستقبلاً من وجهة نظر الدولة الأمريكية العميقة (رُغم إصرار إدارة ترامب على إعلان تفاصيلها فى القريب!).. وهو ما يدخل – بدوره – فى سياق ما التفت إليه عددٌ ممن متابعى الشأن الأمريكى بأنَّ ثمة محاولات [توظيفية] تقودها أجهزة الاستخبارات «ومؤسسات القلب الصلب» الأمريكية؛ لاستثمار السمات الشخصية للرئيس «ترامب» فى تمرير قرارات ما كان لها أن تمر فى السابق، مثل: نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والاعتراف بالمدينة المقدسة عاصمة موحدة لإسرائيل، والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان.. إلى آخر تلك القرارات التى لم تجرؤ أى إدارة أمريكية (سابقة) على اتخاذها فى أى وقت من الأوقات (!)
وفى الواقع كذلك.. لم تكن «الأجندة الصهيونية» أكثر انتعاشًا مما هى عليه فى عهد «دونالد ترامب».. إذ نجحت «الإدارة الأمريكية» فى أكثر من حلقة من حلقات [إدارة أزمات الشرق الأوسط] فى أن ترسخ جملة من المظلات الحمائية لإسرائيل، منها:
(أ)- فرض سياسة الأمر الواقع، فى إدارة النزاع على الحقوق، بشكل لا تُخفى خلاله الإدارة انحيازها المطلق لـ«إسرائيل».. إذ سبق وأن عبرت «إدارة ترامب» عن تلك الحالة بصيغة [المظلومية التاريخية] لليهود، أو صيغة [السيادة الإسرائيلية] فى مواضع أخرى.
(ب)- ترسيخ صورة أن «واشنطن» هى المدافع الأول و[الأقوى] عن تل أبيب.. حتى لو كانت ملاحظات المجتمع الدولى تنصب حول تجاوزات صريحة [ومنتهكة للإنسانية] تمارسها دولة الاحتلال «الإسرائيلية».
(ج)- وعود متتالية قطعتها الإدارة بالعمل على الدفاع عما وصفته بحقوق «السيادة الإسرائيلية» فى جميع المحافل الدولية (!)
أما كيف اختارت «فورين بوليسى» أن تبدأ حربها على خطة (ترامب/ كوشنر)؟.. فهذا ما يُجيب عليه تحليل «ساتلوف».. إذ قال المدير التنفيذى لمعهد واشنطن:
سيكون من الخطأ الجسيم أن يأخذ الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» بالمقترحات التى وضعها صهره «جاريد كوشنر» وزملاؤه (والتى لاتزال سرية!)، ويصدرونها باسم الولايات المتحدة.. والمشكلة – ببساطة – ليست فى أنَّ الظروف مهيأة للفشل، بسبب الهوة السياسية العميقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين [إلى جانب عجز إدارة ترامب عن أن تكون صديقًا لإسرائيل ووسيطًا صادقًا للسلام بين الطرفين].. لكن.. لأن «خطة كوشنر» تتمتع أيضًا بفرصة جيدة لتخليص الولايات المتحدة فعليًا من ثلاثة مجالات أساسية: قد تؤدى إلى ضم الضفة الغربية، وقد تمنح الحكومة السعودية نفوذًا على الولايات المتحدة.. وأخيرًا سوف تصرف الانتباه عن إنجاز ترامب المميز (وهو ممارسة ضغط حقيقى على الحكومة الإيرانية).
وفيما يتعلق بالأوضاع داخل الأراضى المحتلة، قال «ساتلوف»: إنَّ تنفيذ «خطة كوشنر» من شأنه إثارة سلسلة من الأحداث (ستؤدى فى النهاية إلى قرار نتنياهو بضم أجزاء من الضفة الغربية المتنازع عليها!).. وهى خطوة رفضت الحكومات الإسرائيلية [الأكثر تشددًا] أن تتخذها خلال نصف قرن مضى.. فضم أجزاء من الضفة (أو كما يُفضل الكثير من الإسرائيليين أن يقولوا بلطف: «توسيع القانون المدنى الإسرائيلى ليشمل المناطق الخاضعة للحكم العسكرى»)، هو - بالفعل - برنامج الأحزاب الرئيسية التى يحتاجها نتنياهو؛ لتشكيل ائتلاف حاكم.. بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ أغلبية كبيرة من برلمانيى «حزب الليكود» يؤيدون الفكرة.
وتابع: فى الساعات الأخيرة من حملته الانتخابية، أيَّد «نتنياهو» نفسه فكرة ضم أجزاء من المناطق المحتلة (كمناورة)؛ للتأكد من أن الليكود لم يفقد ناخبى الأحزاب الأكثر يمينية.. ورُغم أن الخطوة الأخيرة كانت مثيرة للجدل، فإنَّ نجاح الليكود يُشير إلى أنها كانت ذكية.. ومع ذلك، فمن المرجح أن نتنياهو يفضل (فى الأغلب) إيجاد طريقة للحفاظ على الوضع الراهن [الغامض]، بما يحفظ لإسرائيل السيطرة الأمنية على الضفة الغربية بأكملها (!) ... كما أن الخطة إذا صادفها الفشل؛ فسوف يتمسك «اليمين الإسرائيلى» بأنه من دون وجود شريك، فينبغى على إسرائيل بسط سيادتها على أجزاء رئيسية من الضفة الغربية (أى ضمها)، تمامًا كما فعلت قبل 38 عامًا فى مرتفعات الجولان (!).. وسيشيرون إلى أنَّ قرار ترامب الأخير بالاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، بمثابة [إشارة قوية] إلى أنَّ «البيت الأبيض» سوف يُلقى الضوء على ضم الضفة الغربية أيضًا (!)
... وحتى لو كان «كوشنر» قد أخذ فى الحسبان كل هذه التداعيات السلبية لإقناع [والده] بإصدار خطة السلام، فإنه يمكن أن يربح الرهان فقط، عبر إدراك أن «التغيير الدراماتيكى» للوضع الراهن وحده، هو الذى يمكن أن يدفع الأطراف المختلفة؛ لإعادة التفكير فى أفكارهم التقليدية.
لكن.. أيًّا كانت الرؤية التى ستنتصر فى النهاية (الاستمرار أم الانحسار؟).. فإنَّ [تفاصيل] المشهد الحالى،تمتلئ بعديدٍ من الرسائل، التى تستحق – يقينًا – أن يديرها الجميع بعمق وهدوء.