السبت 18 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
«روزاليوسف» تخوض معركة اختيار النحاس باشا لزعامة الوفد!

«روزاليوسف» تخوض معركة اختيار النحاس باشا لزعامة الوفد!


كانت أم كلثوم تغنى فى ملهى البوسفور أمام محطة مصر وفوجئت بالمتفرجين يتسللون واحدًا وراء واحد، وتركوا الصالة خالية وتلفتت حولها فوجدت الموسيقيين توقفوا عن العزف، ولم يبق إلا الموسيقار «محمد القصبجى» بجوارها مستمرًا فى العزف، وتوقفت أم كلثوم عن الغناء وسألته: ماذا حدث؟! قال القصبجى: مات سعد!!.. وماتت بقية الأغنية على شفتى أم كلثوم وانهارت على مقعد جالسة!!.. كانت مصر كلها عبر جرائدها ومجلاتها تتابع أخبار مرض «سعد باشا» يومًا بيوم إلى أن توفى مساء الثلاثاء 23 أغسطس سنة 1927 قرابة الساعة العاشرة مساءً!
شاءت الصدفة أن يكون معظم رجال حزب الوفد، بل الملك فؤاد أيضًا خارج مصر، وشيعت مصر الجنازة المهيبة، وبعد انتهاء أيام المأتم أذاعت صفية زغلول نداء شكرت به الأمة على حسن عواطفها والتقدير لشعور المصريين وسمو عواطفهم ونبل أخلاقهم ومبادئهم.
ورغم الحزن والألم فقد كان السؤال الذى يشغل بال كل مصرى وقتها: من سيخلف «سعد زغلول»؟! كان السؤال حديث كل بيت وحزب بل سفراء الدول الأجنبية وكذلك جميع الصحف والمجلات!!
ولم تكن «روزاليوسف»- المجلة والسيدة- غائبة عن موضوع اختيار «مصطفى النحاس باشا» لخلافة «سعد زغلول باشا»، بل لعبت دورًا مهمًا ومؤثرًا فى انحيازها للنحاس باشا.
فى ذلك الوقت كانت السيدة «روزاليوسف» فى باريس تقضى إجازة قصيرة وتروى فى ذكرياتها ما جرى بقولها:
«فى صباح حزين من أيام أغسطس عام 1927 قرأت نبأ صغيرًا فى جريدة «بارى سوار» يقول إن «سعد زغلول» قد مات، وكان لهذا النبأ وقع أليم فى نفسى، فحزنت لذلك حزنًا شديدًا ولزمت غرفتى يومين لا أبرحها حاولت أثناءها أن أسجل دموع العين والقلب فى سطور فلم أستطع وهجس بخاطرى أن أهجر الصحافة، ولكن سرعان مازال هذا الهاجس، وعادت إلىّ ذكريات أيامه الحافلة، المظاهرات التى سرت فيها من أجله والساعات التى وقفتها استمع له والجهاد الكبير الذى كان يتزعمه وكان يضمنا جميعًا.
وحمل البريد إلىّ العدد 95 من روزاليوسف مجللاً بإطار أسود حزنًا على فقيد البلاد وباعث نهضتها، فكانت أول مرة نظهر فيها صورة رجل سياسى على غلاف المجلة.
وتضيف السيدة «روزاليوسف»: أعقبت وفاة «سعد» فترة من الاضطراب والحيرة، فالفراغ الذى تركه «سعد» كبير والموقف السياسى دقيق جدًا وبات متوقعًا أن ينتهز الإنجليز والسراى فرصة وفاة «سعد» لمحاولة العصف بالوفد مرة أخرى، وبدأت طلائع هذه المحاولة على صفحات الجرائد المعادية للوفد التى أخذت تخوض فى الحديث عمن سيخلف «سعدًا» فى رئاسة الوفد، محاولة أن توقع الشقاق بين أعضاء الوفد الكبار!
وحين أعود إلى أعداد روزاليوسف الصادرة فى ذلك الوقت، أجدها قد لعبت دورًا فى هذه المعركة الدقيقة لحساب الشعب الذى كان متجمعًا كله وراء الوفد!! ففى العدد الصادر يوم 22 سبتمبر عام 1927 هاجمت روزاليوسف الصحف المعادية للوفد التى بدأت ترشح المرحوم «فتح الله بركات» لرئاسة الوفد وتفضله على «مصطفى النحاس»! وكانت صحف حزب الاتحاد تقصد بهذه الترشيحات إيقاع الفرقة بين أعضاء الوفد!!
وكان الخلاف على اختيار الرئيس موجودًا فعلاً ولكنه مستور، ولم يكن من المصلحة أن يتسع وكان أغلب الأعضاء يميلون إلى اختيار «النحاس» لأنه أقرب إليهم من «فتح الله بركات» الذى كانوا يخافون من شخصيته القوية الطاغية!
واجتمع الوفد وقرر اختيار النحاس رئيسًا له!.
ومع أن روزاليوسف اشتركت فى تزكية النحاس والدفاع عنه، إلا أنها كتبت فى 29 سبتمبر عام 1927، كلمة لبقة عن مصطفى النحاس فيها تنبؤ غريب بمستقبله السياسى جاء فيها:
«ليس هناك بين الذين رشحوا أنفسهم أو رشحهم غيرهم من هو أنقى صفحة وأطهر ذيلاً من «مصطفى النحاس» فتاريخه معروف ومواقفه المشرفة مع «مصطفى كامل» أولاً ومع «سعد زغلول» ثانيًا معروفة للجميع، و«مصطفى» فوق هذا رجل نزيه جدًا، صعب جدًا فيما يراه حقًا، صريح جدًا، أو كما يقولون إن كلمته على طرف لسانه!
ولكنهم يقولون أيضًا إن «مصطفى النحاس» متسرع جدًا والكلمة التى تستعملها الدوائر السياسية للتعبير عن صفة التسرع هى كلمة «مدب» وهم من أجل ذلك يقولون إنه ليس من المستحيل أن يكثر وقوع التصادم بين «النحاس باشا» والحكومة وبينه وبين أعضاء الوفد نفسه! ولكننا نعتقد أن «مصطفى النحاس» غدًا سيكون غيره بالأمس، وأن ثقل واجبات الرئاسة التى ألقيت على عاتقه سوف يهدئ من حدة «تسرعه» وأن شعوره بضخامة المسئولية كفيل بحمله على التفكير مرتين قبل أن يتكلم!».

فى ذلك الوقت كان الأستاذ «محمد التابعى» يكتب أخطر أبواب مجلة «روزاليوسف» وهو باب «الأسبوع حوادث وخواطر» فيكتب عن وفاة «سعد» ثم يكتب أخطر مقالاته بعنوان «اعتزال المحاماة» بمثابة اقتراح موجّه للنحاس باشا قال فيه:
«لنا اقتراح ندلى به ولعله يقع عند رئيس الوفد موقع القبول، «مصطفى النحاس» باشا من أعلام المحاماة فى مصر، ومكتبه دائمًا غاص بالقضايا وأصحاب القضايا ولكفاية- كفاءة- النحاس ولذكائه وعلمه نصيب وافر فى نجاحه كمحامٍ، ولكن الذى لا يستطيع أحد أن ينكره أن اتصال النحاس باشا بالفقيد الأعظم «سعد زغلول باشا» وأن مركزه بالوفد وكونه وكيلاً لمجلس النواب، كلها أمور لها نصيبها فى نجاح «مصطفى النحاس» المحامى وازدحام القضايا على مكتبه، وتفضيلهم إياه فى بعض الظروف على سواه من المحامين الآخرين، فماذا يكون الأمر غدًا وقد أصبح النحاس باشا رئيسًا للوفد المصرى؟!
من الذى يستطيع أن ينكر أن لهذا اللقب ولهذه الصفة سحرًا وأى سحر فى نفوس الجماهير، وأنه من العبث أن نحاول إقناع «عم إبراهيم» أو الشيخ أحمد المزارع أن النحاس باشا المحامى شأنه أمام المحكمة شأن سائر المحامين، وأن صفة رئاسة الوفد لا تقدم ولا تؤخر فى نجاح القضية وليس لها أى تأثير فى عدل القضايا، هذه الحقيقة يجب التسليم بها!
وإذا كان لصفة وكالة مجلس النواب وعضوية الوفد المصرى نصيب فى رواج مكتب النحاس باشا، فأحرى بصفة الرئاسة أن تزيد فى هذا الرواج ولكننا على ثقة من أن «مصطفى النحاس» أسمى من أن يرضى لنفسه هذا الاستغلال!
وبعد فإن رئيس الوفد المصرى خليفة «سعد» يجب أن يظل فى مقام عالٍ يحوطه الإجلال والإكرام بعيدًا عن الاحتكاك والتصادم والاختلافات التافهة على الأتعاب ودفع الأتعاب ومقابلة كل من هب ودب من أصحاب قضايا الجنح والجنايات.
وينهى الأستاذ التابعى مقاله قائلاً:
«من أجل هذا كله نشير على النحاس باشا أن يعتزل المحاماة وأن يقفل مكتبه وله من معاشه ومن ثروته الخاصة ما يكفى ليعيش مستور الحال».
انتهى ما كتبه الأستاذ التابعى والذى أعاد نشره الأستاذ «صبرى أبو المجد» فى كتابه المهم والبديع «محمد التابعى»!!

وعلى صفحات مجلة روزاليوسف عدد 6 أكتوبر سنة 1927 تحقيق صحفى مهم كشفت فيه المجلة أكثر من سر عن «النحاسا باشا» وكان عنوان التحقيق «أنت كويس كتير يا مصطفى.. أنا أموت مطمئن!» ونُشر على ثلاث صفحات من المجلة وتضمن تسع حكايات، ومنها حكاية بعنوان «النحاس يرفض رئاسة الوفد» تقول سطورها:
«يجب أن يعلم الناس أن مصطفى النحاس كان زاهدًا فى رئاسة الوفد، معرضًا عنها، وأنه رفض بتاتًا فى أول الأمر أن يخلف سعدًا فى رئاسة الوفد رغم إلحاح أصدقائه عليه إلحاحًا شديدًا، وكان يقول لهم:
- هاتوا رئيسًا أيًا كان وأنا أخدم القضية إلى جانبه كما خدمت «سعدًا» من قبل ودعونى كما أنا سكرتير الوفد!».
وأخيرًا استدعته أم المصريين السيدة الجليلة «صفية هانم زغلول» وألحت عليه إلحاحًا شديدًا أن يقبل رئاسة الوفد وجاء فى سياق حديثها معه: هل تريد أن أرأس أنا الوفد؟!
ثم ذكرته بحب فقيدها العظيم له وثقته فيه، وبكت فبكى مصطفى وجدد لها عهد الولاء والإخلاص وقبل رئاسة الوفد!
فلولا إلحاح «أم المصريين» لما رضى «مصطفى النحاس» أن يكون رئيسًا للوفد المصرى، وهناك من يقول إنه لم ينزل على رأيها إلا بعد أن صرحت له بأن الفقيد العظيم كان أوصى باختياره خلفًاله فى عدة مناسبات خاصة!
«صفية هانم زغلول» هى إذن التى أقنعت النحاس بقبول الرئاسة بعد أن كانت أوصت الوفد بانتخاب النحاس رئيسًا وخلفًا لفقيدها العظيم.
وحكاية أخرى ترويها «روزاليوسف» فى نفس التحقيق بعنوان «مصطفى النحاس يرفض رئاسة الوزارة» قالت فيه:
«لسنا نذيع سرًا الآن إذا قلنا إن «مصطفى باشا النحاس» كان أول من اتجه إليه نظر المغفور له «سعد باشا زغلول» عقب استقالة الوزارة العدلية- عدلى يكن باشا- فى شهر أبريل الماضى، وعرض عليه سعد باشا رئاسة الوزارة فرفض وألح عليه الزعيم الراحل فازداد النحاس  رفضًا.
وقال له سعد باشا: هل تتهرب من المسئولية يا مصطفى؟
فأجابه النحاس على الفور: ودولتكم تهربون منها أيضًا؟! لماذا لا تقبلون رئاسة الوزارة؟! إقبلها يا دولة الرئيس وأنا أدخلها معكم؟!
فابتسم «سعد باشا» رحمه الله وقال: أنت كويس كتير يا مصطفى، أنا أموت مطمئن! وأضاف بالفرنسية قائلاً «Vour admirl» أى إننى أعجب بك!!
وتضيف «روزاليوسف»: والواقع أن مصطفى النحاس كان موضع ثقة خاصة وحب شديد من الفقيد العظيم، وكثيرا ما كان «سعد» يستبقيه فى حضرته بعد انصراف الآخرين ليتحادث معه ويستشيره فى كثير من الأمور.
ومن الأمور المعروفة أن سعد باشا مع اعتداده برأيه لم يكن يبرم أمرا إلا بعد استشارة «مصطفى النحاس» وكان رأى «مصطفى» عند تعدد الآراء هو الغالب والمفضل عند الفقيد العظيم.
وعن تضحيات «مصطفى النحاس» تقول «روزاليوسف»: وفى قبول مصطفى النحاس لرئاسة الوفد تضحية عظمى رضا بها الرجل فى سبيل خدمة وطنه وأمته، مصطفى النحاس رجل فقير وهذا ما عرفناه من أوثق المصادر، لا يملك غير معاشه ومكتبه وليس له أى إيراد آخر.. و.. و.. و..
والآن وقد أصبح النحاس رئيسا للوفد، فقد تحتم عليه إغلاق مكتبه مصدر رزقه لأن المحاماة فى ذاتها خصومة، وهو الآن وكيل عن الأمة بأسرها!
وهكذا يضحى النحاس بأهم مصدر من مصادر رزقه ولا يبقى له سوى معاشه ومكافأته البرلمانية ومجموعهما كما علمنا من أقرب الناس إليه لا يكفى لسد نصف نفقاته».
وتختتم «روزاليوسف» تحقيقها بسطور لها أهميتها ودلالتها السياسية قائلة:
«هذا هو الرجل الذى يجلس الآن فى كرسى سعد العظيم، وهذه أخلاقه وصفاته، ويضيق المقام لو سردنا كل ما نعرفه عنه مما يشرفه ويعلى من قدره.
سدد الله خطاه وقواه وأعانه على حمل العبء الثقيل وتأدية الأمانة كاملة».
وتنشر «روزاليوسف» على غلاف العدد رقم 100 صورة كاريكاتيرية للنحاس وتكتب فوقها: هل أوصى سعد باشا بانتخاب النحاس رئيسا للوفد؟!
وأسفل الصورة عبارة تقول: صاحب السعادة مصطفى النحاس باشا رئيس الوفد المصرى!

فى ذلك الوقت لم تكن مجلة «روزاليوسف» تدرى أن كل ما تكتبه يجد طريقه إلى السفارة البريطانية، حيث يتولى «مستر نيفيل هندرسون» الوزير البريطانى المفوض بإرسال ما تكتبه «روزاليوسف» أولا بأول إلى وزارة الخارجية فى لندن، ولم تعرف هذه الحكاية إلا فى عام 1982 - أى بعد خمس وخمسين سنة - عندما صدر كتاب الأستاذ الكبير «محسن محمد» «الشيطان» عن المندوب السامى البريطانى فى مصر وقتها «جورج لويد» واعتمد فيه على الوثائق السرية البريطانية والأمريكية.
ويكتب «نيفيل هندرسون» إلى لندن نص مقال نشرته «روزاليوسف» يوم أول سبتمبر عام 1927 وقال إن موظفا حكوميا هو كاتب المقال - يقصد بذلك محمد التابعى فى سكرتارية مجلس النواب ويشتغل بالصحافة!
ولعل من أخطر التقارير التى كتبها «هندرسون» لوزارة الخارجية هو قوله:
«ليس هناك من يمكن أن يخلف سعد زغلول ويملأ مكانه فى زعامة حزب الوفد أو فى رئاسة مجلس النواب، وفيما عدا «فتح الله بركات» وكذلك عقيلة «سعد زغلول» فليس هناك من يدعى وراثة سلطان سعد زغلول!
وظهر كثير من الصحف مجللا بالسواد واحتجب بعضها عن الصدور.
وكان هناك أيضا «نورث وينشيب» القائم بالأعمال الأمريكى فى مصر وكان يتابع باهتمام كل ما يحدث فيكتب: لم يترك زغلول وصية سياسية إن من بين المرشحين لرئاسة الوفد الأمير عمر طوسون الديمقراطى والمثالى إلى أقصى حد إلا أن لقبه يبدو عائقا كبيرا فى الوقت الراهن»!
بعد ذلك يشير «هندرسون» إلى رفض الوفد فكرة القيادة الجماعية ويقول: «كانت هناك وجهتا نظر واضحتان: الأولى خطر وجود حزب بدون زعيم، والثانية هى انسحاب «صفية زغلول» من العمل السياسى الفعال، وعندما سحبت اسمها أصيب الجميع بالدهشة عندما أعلنت أنها تقف ليس فقط ضد قيام هيئة تنفيذية لقيادة الحزب، بل إنها تفضل «مصطفى النحاس» زعيمًا للحزب!
وقبل ذلك بفترة قالت الصحف الإنجليزية: «ترغب حرم زغلول باشا فى أن يكون لها شأن سياسى وهذه الرغبة تحدث ارتباكا لأن بعض الوفديين الذين كانوا على أعظم اتصال بـ«زغلول» باشا فىحياته لا ينظرون إلى ذلك بارتياح»!
ويؤكد هذه الواقعة الأستاذ «مصطفى أمين» فى كتابه «من عشرة لعشرين» فيقول: كان من رأى بعض أعضاء الوفد أن تنتخب «صفية زغلول» رئيسة للوفد بعد زوجها وخاصة أنها قادت الثورة بعد نفى زوجها مرتين، وكانت أقوى من ألف رجل.
ولكن المحافظين من أعضاء الوفد اعترضوا على هذا الترشيح، وقالوا إن الفلاحين فى الصعيد سيقولون إن معنى هذا أنه ليس بين أعضاء الوفد رجل واحد، وذكروا أن ليس فى العالم كله أى حزب سياسى ترأسه سيدة»!

وتبقى شهادة ورواية خليفة «سعد زغلول» نفسه وهو «مصطفىالنحاس باشا» الذى كتب يصف تلك اللحظات عندما كان خارج مصر، ثم عاد وتوجه إلى بيت الأمة، ويروى: «عند دخولنا غرفة مكتب الزعيم الفقيد استولى علينا حزن شديد وبكينا طويلا وبكى معنا جميع الحاضرين، ثم كفكفنا دموعنا وصعدنا إلى الطابق العلوى، حيث قابلنا السيدة الجليلة أم المصريين، وكانت آثار الحزن بادية عليها، فقدمنا التعزية الخاصة ومكثنا عندها نحو الساعتين، ثم انصرفنا والحزن يملأ قلوبنا.. و.. و..».
«اجتمع الوفد بكامل هيئته وأخذنا نناقش فيما يكون عليه الحال وهل يعين رئيس للوفد أو تؤلف لجنة من عدد من الأعضاء لإدارة الأعمال، واستقر الرأى على أن يعين شخص واحد رئيسا، وعُرضت علىَّ رئاسة الوفد فاعتذرت عنها مفضلا أن أظل سكرتيرا عاما حتى يمكننى أن أزاول مهنة المحاماة التى أتعيش منها، وقلت إنكم تعلمون أنى لا أملك مالا ولا عقارا وأن فى عنقى أسرة كبيرة أتولى شئونها، ورياسة الوفد تحتاج إلى تفرغ تام وإلى حصر كل الجهد فى خدمة القضية، وأخذت أتكلم وقد بلغ بى التأثر مبلغه!»
وانبرى «مرقص حنا» باشا وقال: ما هذا الكلام الذى تقوله أنت الرجل الذى نفى إلى سيشل ورافق الزعيم فى كل مراحل جهاده تعتذر عن عمل وطنى بأنك فقير وتحتاج إلى أن تعمل لتعيش وتضن على الوطن بتضحية لا تقاس بما يقدمه الشباب من أرواح وما يتعرضون له من سجن وتشريد، لقد رشحناك رئيسا للوفد بإجماع آرائنا ولابد أن تنزل على إرادتنا وكل عذر لك أو احتجاج غير مقبول!
ووجمت وبلغ بى الألم مبلغًا كبيرًا حتى سالت الدموع من عينى ورضخت لحكم الحاضرين وصاغوا بيانا ضمنوه رأيهم بالإجماع، ولكن أُرجئ إعلانه أو نشره فى الصحف حتى يعرض على حرم الرئيس الجليل أم المصريين واتفق على أن يظل الاجتماع ممتدا إلى الغد».

وحتى ذلك الوقت لم تكن السيدة «روزاليوسف» قد التقت النحاس باشا أو تعرفت عليه، وتلك حكاية أخرى! 