
هاني عبد الله
100 سنة من الحب والحرية
[عندما توفى الأديب الفرنسى الكبير «فيكتور هوجو» قالوا: اليوم يدفن أكثر من قلم!.. فقد كان متعدد المواهب.. وكذلك كان «إحسان عبدالقدوس».. الصحفى والمفكر والسياسى والأديب].
والاقتباس (والعنوان أيضًا) للكاتب الراحل «أنيس منصور».. كتبهم يوم رحل إحسان.. لكن.. تظل تلك المساحة (وهذا العنوان) قابلين لأن يكتب تحتهما المزيد.
فعلى ضفاف نهر [الحب والحرية]، لم يكن هناك أقدر من «إحسان عبدالقدوس» على قيادة السفينة.. إذ كان قدره، وقدرنا أيضًا (نحن أبناء مهنة الصحافة) أن يُعلمنا (جيلاً بعد جيل) كيف لنا أن نضبط شراع الإبحار، وسط الأمواج المتلاطمة(!)
استقبل «إحسان» (ونحن– اليوم– نحتفل بمرور 100 عام على ميلاده) دنياه، والعالم [أجمع] يبتهج ببداية عامٍ جديد.. لكنها، أيضًا، كانت بداية لمرحلة [مختلفة] داخل بلاط صاحبة الجلالة.. إذ أصبح إحسان - فيما بعد - أميرًا متوجًا على عرش الرواية.. وفارسًا لكلمة الحرية.. ومُحللاً قادرًا على فك شفرات «السياسة»، مهما كانت عصية على الحل (!)
يقول «إحسان عبدالقدوس» عن نفسه: [السؤال الذى لا يتوقف عن مواجهتى منذ بدأت أكتب وإلى اليوم، هو: هل أنا كاتب سياسى أم كاتب قصص؟.. أم هل أنا سياسىٌ أم أديب؟].
كان «إحسان» فى تساؤلاته أريبًا.. لم يُرد أن يُجيب (!).. قال كلمته ثم مضى؛ لينشغل بالإجابة البعيد، والقريب (!).. لذلك كان أن تابع، بكل ثقة: [أترك هذا السؤال للناس ولا أسأله لنفسى.. ربما لأنى لم أتعمد يومًا الكتابة فى السياسة أو كتابة القصص.. أى أنى لم أضع نفسى أبدًا فى موضع الكاتب المحترف المتخصص فى الموضوعات السياسية أو الموضوعات الأدبية.. حتى فى دراساتى منذ كنت طالبًا، لم تنحصر هواياتى فى الأدب وحده، أو فى السياسة وحدها].
فى دراسته الجامعية (بكلية الحقوق)؛ انشغل «إحسان» كثيرًا بالحركة الوطنية.. كان يقضى يومه فى مظاهرات الطلبة، ثم يعود للبيت؛ ليقرأ قصصًا لا علاقة لها بالسياسة، ولا الحركة الوطنية، من حيث الأصل (!).. كان يقرأ كهاوٍ، لا كدارس (!).. قلّب عينيه بين آلاف «الأوراق السياسية»، ثم أردفها بآلاف أخرى من عالم الأدب (!)
فى مقدمة كتابه «خواطر سياسية»، يقول «إحسان»: [كان عدم قدرتى على استكمال شخصية المحترف، سواء كسياسى أو أديب هو الذى وضعنى دائمًا موضع المتفرج من بعيد.. فلم أنضم يومًا إلى حزبٍ، أو هيئة، أو تجمع سياسى.. بل وضعت نفسى خارج كل الأحزاب، وكل الهيئات.. وهو ما دفعنى إلى إطلاق تعبير «الشارع السياسى»، حيث أقف بعيدًا عن مسئولية الاحتراف .. أقف فى الشارع].
راج تعبير «الشارع السياسى» فيما بعد.. وبات متداولاً على صفحات الجرائد، والمطبوعات.. وتحول إلى «ماركة مُسجلة» فى عديدٍ من الكتابات السياسية اللاحقة.. لكن .. لم يتذكر كثيرون [ إلا قليلاً] أنّ «إحسان» هو من أحسن على الجميع بالمصطلح (!)
يقول «إحسان» عن مصطلح «الشارع السياسى»: [أصبح للتعبير أثره فى تقدير آراء وتصرفات محترفى السياسة.. كلٌ منهم يُريد أن يكسب «الشارع السياسى»].
ظل «إحسان» بعيدًا عن شخصية «المحترف» [بحسب تقديره] قدر الاستطاعة.. لذلك.. بقى بعيدًا – إلى اللحظة الأخيرة – عن التنظيمات، والتجمعات الأدبية كافة (!)
لا يتذكر- كذلك- عديدٌ من المشتغلين بالأدب، والصحافة أن «إحسان» كان صاحب فكرة إنشاء «نادى القصة.. وصاحب فكرة تأسيس «المجلس الأعلى للفنون والآداب»، أيضًا (!)
يقول «إحسان» حافظًا حقوقه الأدبية: [كنت صاحب فكرة إنشاء «نادى القصة»، ثم صاحب فكرة إقامة «المجلس الأعلى للفنون والآداب».. ورغم ذلك فقد وجدت نفسى منعزلاً عن نادى القصة، وعن المجلس الأعلى؛ لمجرد أنى لا أستطيع بحث ومناقشة ما يخص الاحتراف الأدبى؛ لأنى لا أستطيع أن أعيش شخصية المُحترف.. ولذلك عشت واقفًا فى الشارع الأدبى،كما أنا واقف فى الشارع السياسى].
حيّر الجمع بين «السياسة»، و«الأدب» عديدًا ممن أرادوا فك طلاسم «شخصية إحسان».. لكن، فى الواقع.. بدأ صاحب الروايات، والخواطر (الأدبية، والفنية) حياته الصحفية ككاتب سياسى (!).. ومع ذلك.. كان إنتاجه الأدبى [فى كثير من الأحيان] يتزامن فى نشره مع ما يكتبه من آراء سياسية.
فعلى صفحات «مجلة روزاليوسف».. وعندما انشغل الرأى العام بما كان يكتبه «إحسان» حول قضية الأسلحة الفاسدة [فى حرب 1948م]؛ كان أن انشغل – كذلك – مجتمع الأدب بما كان ينشره من حلقات [فى الوقت نفسه] على صفحات المجلة، حول روايته «النظارة السوداء» (!)
يتذكر «إحسان» قائلاً: [ما قدمنى إلى القراء وقتها، هو أنّ الأقلام كانت تعيش فى جو واسع من الحرية السياسية، وهذه الحرية هى التى قدمتنى ككاتب سياسى قبل أن أُعرف ككاتب قصص.. ثم بدأت حرية الأقلام بعد ذلك تتقلص سياسيًا، حتى لم يعد هناك مجال للتعبير عن كل آرائى،فبدأ القراء يعرفوننى،ويكتفون بى ككاتب قصص].
يرفض «الأستاذ إحسان» أن يُقسم نفسه إلى «كاتب سياسى»، أو «كاتب قصصى».. ولا يعتبر- كذلك- أنّ «الفكر السياسى» يتطلب التخصص، أو هو فكر يقتصر على المتخصصين.. يرى أنّ «الفكر السياسى» مزيج من كل انطلاقات الفكر الآدمى.. أى أنّ الإنسان «كائنٌ سياسيٌّ» (مهما اختلفت المستويات).. فالفلاح (الأمى) عندما يناقش تصرفات «شيخ الخفر» – مثلاً – فهو فى الواقع، ومن دون تعمد أو وعى يدير «مناقشة سياسية» تقوم على المنطق الحوارى نفسه، الذى يتناقش به «رئيس وزراء مصر» مع «رئيس الولايات المتحدة» (!)
.. و«ست البيت» عندما تناقش الأسعار أو علاقاتها بالبقال، أو الخياطة، أو الغسالة؛ فهى فى الواقع تناقش «الوضع السياسى» المتحكم فى تنظيم الإدارة.. وهى مناقشة تنتهى – دائمًا – بلعن الحكومة، والوزير، ورئيس الوزراء.. وربما انتهت إلى ثورة (!)
ويرى أيضًا أن كل هذا، هو الذى يجعل «كاتب القصة» لا يستطيع أن يتحرر من «فكره السياسى».. وأنّ كل القصص (حتى «العاطفية»، بما فيها روميو وجوليت) تدور حول مجتمع سياسى (!)
لم يجمع «إحسان» آراءه السياسية فى كُتبٍ إلا نادرًا (كتاب: «خواطر سياسية»، نموذجًا).. لكنه.. فعل ذلك – بمنتهى التلقائية – مع حلقات رواياته (!)
يُفسر «إحسان» هذا الأمر قائلاً: [ أعتبر أنّ آرائى السياسية متعلقة– غالبًا – بالأحداث.. والأحداث تمر، وتنتهى،وينساها القارئ، وينسى معها التعليق عليها، أو الرأى فيها.. فإذا جمعت هذه الآراء فى كتاب؛ فإنى يجب أن أعد لكل رأى مقدمة طويلة تُسجل، وتُفسر الأحداث التى بنيت عليها هذا الرأى؛ حتى يستطيع القارئ أن يستوعبها.. أى أنى مضطر أن أسجل التاريخ المصرى الذى عشته.. وأنا لست من كُتّاب التاريخ].
لكن للتاريخ.. يبقى «إحسان» هو «الرقم الصعب» فى [معادلة: الحب والحرية].