
رشاد كامل
السادات.. وهيكل.. وأمير الجزيرة!
«الكتاب الذى أتمنى أن أكتبه هو قصة ناقصة بدأت كتابتها عام 1951 فى العريش ولم تتح لى الأحداث فرصة إتمامها رغم أنى كتبت الفصل الأول والثانى منها»!
هكذا اعترف الرئيس الراحل- البكباشى وقتها- أنور السادات على صفحات مجلة «الاثنين» التى تصدر عن دار الهلال فى 7 يونيو سنة 1954.
وتمر السنوات ويصبح رئيسا للجمهورية فى أكتوبر سنة 1970 وفى أحد لقاءاته مع الكاتب الكبير «موسى صبرى» الذى كان يعرفه من أيام المعتقل سنة 1943 يبوح لموسى صبرى قائلا:
«كم أتمنى أن أعيش لأكتب فقط، إنها أسمى مهنة فى الوجود، كتبت فى شبابى مسرحية لم أكملها.. لى ذكريات تملأ مجلدات.. يا بختكم يا من تتفرغون لمهنة القلم»!!
لقد كان «السادات» هو الوحيد من أعضاء مجلس قيادة الثورة الذى احترف الكتابة سواء قبل ثورة 23 يوليو 1952 بالعمل فى دار الهلال أو بعد قيام الثورة وتأسيسه لجريدة الجمهورية التى صدرت فى ديسمبر 1952 وكتابته المنتظمة بها حتى سنة 1959 ثم كتابته فى مجلة «التحرير» التى أنشأتها الثورة ومجلة «دنيا الفن» التى نشر بها بعض قصصه القصيرة ومنها «ليلة خسرها الشيطان» وأيضا ذكرياته أيام الفقر والسجن «فى حياتى قصة» ومقاله الشهير عن عشقه الشديد للفن والفنانين.. ومئات المقالات وفى مقدمتها مذكراته وذكرياته عن ثورة 23 يوليو 1952 ومنها «صفحات مجهولة» الذى كتب مقدمته الرئيس «جمال عبدالناصر» وقال فيها: «فرغت من تصفح كتاب القائمقام «أنور السادات» وساءلت نفسى عما دفعنى لهذا الإعجاب به، فجاءنى الرد المنطقى فورا إن مضمونه المتحلى بسلامة الأسلوب وقوة التعبير وطابع البساطة فى سرد الحوادث وعرض المواقف، فى الوقت الذى أرى فيه المؤلف قد تجنب الحديث عن نفسه.. فنجده لم يعمد لكتابة قصة حياته، ولم يقم بتحقيقات صحفية كبرى،بل قدم لنا سلسلة رائعة متصلة من المشاهدات التى مرت تحت بصره وسمعه فجاء كتابه مجموعة لصور حسية جمعتها ريشة رسام ماهر وصورتها فى صورة واحدة أبرزت من مجموعها حقائق وأسانيد تتيح لنا دراسة أحوال مصر المعاصرة عن كثب».
>>
ولم يذكر السادات أبدا قصة روايته «أمير الجزيرة» إلا فى حوار دار بينه وبين الأستاذ الكبير «محمد حسنين هيكل» وكان ذلك قبل قيام ثورة 23 يوليو 1952، وقد أعاد «هيكل» روايتها فى كتابه «خريف الغضب» حيث كتب يقول:
«وفى مقر الفرقة الأولى للمشاة فى رفح رأيت «أنور السادات» وقضيت يوما كاملا معه، كنت فى ذلك الوقت قد فرغت من تغطية حرب فلسطين كصحفى، وكنت دائم العودة إلى مسارح العمليات وكنت أحرص على زيارة قطاع غزة مرة كل سنة على الأقل مهما كانت شواغلى فى مهام أخرى،وكان أن التقيت بـ«أنور السادات» فى إحدى هذه المرات ولم تكن هذه أول مرة نلتقى فيها، فقد وجدته ذات مساء فى بيت «يوسف رشاد»- مؤسس تنظيم الحرس الحديدى- المطل على النيل فى الجيزة.
كنت هناك ضيفا على العشاء مع آخرين، وذهبت مبكرا بعض الشىء حتى اسمع من «يوسف رشاد» بعض ما يجرى،وعندما دخلت وجدته جالسا مع شخص عرفت ملامحه على الفور من متابعة وقائع محاكمة قتلة «أمين عثمان» ومع ذلك فإن «يوسف رشاد» قدمه لى باسمه وتبادلنا حديثا عابرا، ثم استأذن هو وانصرف.
ربما من أثر هذا اللقاء العابر قبلها فى بيت «يوسف رشاد» فإن «أنور السادات» أقبل على بحرارة عندما لمحنى فى مقر قيادة الفرقة الأولى للمشاة برفح عائدا من قطاع غزة، لم يتركنى طوال اليوم وأصر على دعوتى للغذاء فى بيته! كان يعيش وحده بين رفح والعريش، فقد بقيت زوجته فى القاهرة، ثم اكتشفت أن الهدف من إلحاحه على صحبتى هو أنه أراد أن يعرض علىَّ كتاباته لأرى ماذا كان يمكن نشر بعضها فى مجلة آخر ساعة.. التى كنت أرأس تحريرها فى ذلك الوقت!!
ويمضى الأستاذ «هيكل» فى روايته وما جرى وقتها فيقول:
«كانت الكتابات التى قدمها إلىَّ فى ذلك اليوم مجموعة من القصص القصيرة تملأ دفترا كبيرا مكتوبة كلها بخطه، كذلك قدم لى رواية طويلة تملأ وحدها كراسة بأسرها عنوانها «أمير الجزيرة» وكانت- كما قال لى- تروى قصة أمير شاب يحيطه رجال تقدمت بهم السن وفقدوا صلتهم بالعصر، وكانوا يحاولون أن يحجبوا عنه شبابا يحلمون بأن يستطيع أميرهم أن يجد طريقة خارجا من حصارهم!!
وأخذت القصص معى إلى القاهرة وافترقنا، وإن أحسست على أى حال أن «أنور السادات» ليس سعيدا بهذا البعد على الحدود!! كانت تلك بالتأكيد فترة حيرة فى حياته وبدا لى أنه لم يكن يعرض إنتاجه الأدبى فقط على الآخرين وإنما كان يتحرق شوقا لكى يعرض نفسه كلها على من قد يهمه الأمر».
انتهى ما كتبه الأستاذ «هيكل» عن السادات وروايته «أمير الجزيرة»، ولم تكن هذه أول مرة يتناول فيها «هيكل» هذا الموضوع، فقد سبق أن تناوله بتفاصيل أكثر درامية فى مجلة آخر ساعة بتاريخ 27 أغسطس سنة 1952 وكان وقتها قد تولى رئاسة تحرير المجلة ابتداء من شهر يونيو من نفس العام.
كان عنوان التحقيق الصحفى المنشور على صفحتين هو «من هم ضباط قيادة محمد نجيب؟» وعنوان أصغر قليلا «الستار الحديدى الذى وضعوه حول أنفسهم»!! فى بداية التحقيق جاءت المقدمة لتشرح للقارئ دواعى كتابة هذا التحقيق قائلة:
«من هم الضباط الذين يحيطون باللواء محمد نجيب»، إن الدنيا كلها تتحدث عنهم، ولكن أحدا لا يعرف من هم؟! والذين يتحدثون عنهم يذكرونهم كما يذكرون ظواهر الطبيعة الخارقة الغامضة، إنها موجودة تفعل فعلها وتؤدى عملها وتؤثر فيما حولها، ولكن أحدا لا يعلم على وجه التحديد من أين جاءت ولا من أين تروح!
ولكن ضباط «محمد نجيب» هم الذين فرضوا على أنفسهم هذا الغموض الذى يحيط بهم!
ولقد كان أول قرار اتخذوه بعد أن نجحت حركة القوات المسلحة، هو أن يمنعوا الصحف من ذكر أسمائهم، وكم من صحيفة حاولت وقاست الويل لتنشر اسم أحدهم ولكن دون جدوى،وكانت وجهة نظر ضباط «محمد نجيب» فى هذا صريحة وواضحة كطلقات الرصاص.
إن المسألة ليست مسألة دعاية شخصية تترك الصحف حرة لتخوض فيها وتنسج حولها الأخيلة التى تسىء للحركة وتضر بها، إنما المسألة مسألة عمل عام، فإذا كان هناك من يريد أن يكتب فليكتب عن العمل العام، فإذا صمم أحد على أن يكتب عن شخص معين، فهناك رجل واحد يمكن أن تتبلور حوله كل الكتابات وهو اللواء «محمد نجيب» هذا من ناحية.. ومن ناحية أخرى فإن الحركة لم يصنعها ضباط قيادة محمد نجيب وحدهم وليس من حقهم أن يحتكروا البطولة فيها على صفحات الجرايد- هكذا قالوا هم- بينما كل ضابط وكل جندى فى القوات المسلحة قد ساهم فيها بقسط ونصيب.. وهكذا كان.
الدنيا كلها تتحدث عن ضباط قيادة محمد نجيب ولكن من هم؟! هذا هو السؤال الذى لا يعرف الإجابة عليه إلا عدد قليل جدا من الناس! والسبب فى هذا هم أنفسهم.. ضباط قيادة «محمد نجيب»!
والمؤكد أن ضباط محمد نجيب على حق إزاء كل ما يبدونه من أسباب فى إخفاء أسمائهم ولكن المؤكد أيضا أن الناس على حق فى أن يعرفوا من هم وأى نوع من الشباب ضباط «محمد نجيب» الضباط إذن على حق، والناس أيضا على حق، ويبقى بين الحقين طريق ثالث وسط يستطيع منه الناس أن يعرفوا من هم ضباط «محمد نجيب» وفى نفس الوقت تبقى أسماؤهم طى الكتمان!!
والصورة التالية لضباط محمد نجيب كتبها «واحد» يعرفهم، إنها صورة سريعة لهم ومن هذه الصور سوف يعرفهم الناس وماذا يهم اسم الرجل إذا وضعت أمامنا صورة له، ولسوف يرمز ذلك الواحد الذى يعرفهم لكل منهم برقم، إن هذا الرقم لا يعنى ترتيبهم فى مراكز القيادة وإنما هو مجرد رمز لا أكثر ولا أقل.
بعد هذه المقدمة ينشر التحقيق صورة بالكلمات عن سبع شخصيات اختار لكل منها عنوانًا يناسبه أو يتفق مع شخصيته وهى على التوالي: 1- السكون الذى ترقد تحته العاصفة.. ومن التفاصيل تعرف أن المقصود هو «جمال عبدالناصر» ثم المدافع الثائر المنطلق.. ثم العملاق الأسمر ذا العينين الحمراوين.. ثم «الشعلة التى هربت من النار».. ثم «الشهاب المندفع وسط الظلمات».. و«وحده فى مواجهة العواصف».. أما الشخصية الخامسة فكان عنوانها.. الفصل الثانى فى قصة أمير الجزيرة.. وجاءت سطورها على النحو التالى:
قامة مشدودة فى كبرياء مهذبة.. وتقاسيم متناسقة لوحتها شمس رفح ومسحتها برجولة صارمة، وفى رفح التقيت به لأول مرة، وتلاقينا كان كل منا يعرف صاحبه من زمان طويل!
قلت له فى لهفة: كيف الحال هنا؟!
وقال هو فى حزم: قل أنت كيف الحال فى القاهرة؟!
وركبنا سيارة جيب وانطلقنا نطوف شوارع رفح ونمضى إلى قرب خط الحدود القديم بين مصر وفلسطين، وبين الحين والآخر كان يبرز من ظلام الليل حارس يصرخ:
قف من أنت؟!
وكان هو يرد فى كبرياء آمرة: آمين.. آمين!
وطال الحديث وكان موضوعه واحدا هو مصر والظروف التى تجتازها واحتمالات المستقبل، وقال هو: اسمع أريدك أن ترى شيئا كتبته!
واستدار بالسيارة وأسرعنا إلى بيته ودخل فغاب دقيقتين أو ثلاثا وأنا جالس فى سيارة الجيب أنتظره تحت نجوم رفح اللامعة، ثم عاد وفى يده دفتر صغير وقال وهو يعطينى الدفتر: اقرأ هذا!!
وكان الدفتر يحوى قصة كتبها هو وأسماها «أمير الجزيرة» وكانت القصة رمزية تروى حياة جزيرة عاش فيها شعب طيب، مؤمن ثم تولى ملكها أمير شاب توسمت فيه الجزيرة كل الخير، ورجت أن يعم على يديه الرخاء، وكان أسلوب القصة أخاذا مليئا بالمعانى والآراء!
وفرغت من السطر الأخير فيها: لقد كتبتها منذ ثمانى سنوات!
وتنهد وهو يطلق أنوار السيارة القوية على قرية رفح ثم يدور إلى اتجاه المعسكر:
- لقد كان الأمل يملأ صدورنا فى أمير الجزيرة منذ ثمانى سنوات ولكنه فى إصرار وعناد خيب آمال كل الذين توسموا فيه الخير، لن يجىء من ورائه خير ولن يعم رخاء!
وقلت وأنا أتنهد أيضا: هذا صحيح إن قصتك ينقصها فصل ثان، فصل الفجيعة فى أمير الجزيرة!!
ودلفت السيارة داخل معسكر رفح وكان هو يقول فى حزم وقوة: نعم.. القصة يلزمها فصل ثان!! وقلت له: يجب أن تكتبه!
وكانت السيارة قد وصلت إلى مبنى القيادة الرئيسى وقفز هو من سيارة الجيب وهو يقول: من سوء الحظ أنه ليس عندى وقت لأكتب!
وأقول اليوم: بل من حسن الحظ، لقد كانوا فى تلك الأيام مشغولين بإعداد عملهم الكبير، ولقد شارك فى صنع الفصل الثانى من قصة أمير الجزيرة.. ووضع مع زملائه خاتمة للأمير الذى تعلقت به الآمال، فإذا هو يتحول إلى طاغية شرير ظالم جشع، فخلصوا الجزيرة من طغيانه وشروره وظلمه وجشعه.. لقد وضعوا الحالة العملية ولم يكتفوا بمجرد كتابتها.
انتهى بالنص ما كتبه الأستاذ «هيكل» فى أغسطس 1952 ورغم أنه لم يوقع باسمه على ما كتبه إلا أن مضمون الكتابة يؤكد ذلك، خاصة ما ذكره فيما يتعلق بحكاية رواية «أمير الجزيرة»!
لكن تبقى عدد من الملاحظات حول الروايتين سواء التى جاءت فى «خريف الغضب» سنة 1984 أو آخر ساعة أغسطس 1952.
فى خريف الغضب اكتفى هيكل بأن أخذ من السادات دفتر القصص القصيرة ورواية «أمير الجزيرة» ولم يعلق بحرف على تلك الكتابات!!
فى رواية آخر ساعة يصف أسلوب قصة السادات بأنه «أخاذ ملىء بالمعانى والآراء!! ويطالب السادات بكتابة الفصل الثانى من الرواية»!!
انتهت حكاية هيكل والسادات وأمير الجزيرة!!