
هاني عبد الله
30 يونيو.. وثائق "الخيانة الإخوانية" لمؤسسات الدولة المصرية
ربما يُمكنك فى «واشنطن» أن تتعامل مع التكنولوجيا، على طريقة «الشهيق والزفير».. وربما يُمكنك أن تتعلم «قواعد الإتيكيت» فى إحدى العواصم الأوروبية، وأنت ضيفًا بأحد المطاعم الفاخرة.. لكن.. عندما تتوقف فجأة «حركة التاريخ»؛ لتُعاد صياغة المُستقبل (من المُحيط إلى الخليج)، فأنت – يقينًا - فى مصر.
قبل 5 سنوات (هى عمر ثورة 30 يونيو)؛ كان أن تحقق [نسبيًا] السيناريو الذى صاغته «واشنطن» عبر تصعيد قوى الإسلام السياسى، على رأس السلطة بمنطقة الشرق الأوسط.. وداخل العديد من «العواصم الأوروبية»؛ كان أن تقاطعت أذرع «تنظيم الإخوان الدولى» ومخططات «أبناء العم سام».. أما فى «القاهرة»؛ فكانت تنقش على أغلفة «كتاب التاريخ» عبارة تقول: لا وجود لـ [من هم خارج التاريخ]، على هذه الأرض.
الأمر ليس نوعًا من أنواع المبالغة.. إذ تكمن عظمة 30 يونيو فى أنها أعادت – بالفعل – صياغة مستقبل منطقة الشرق الأوسط، على الطريقة المصرية.. ووقفت حائط صد [عصيّا على الاختراق] أمام سيناريو تحويل المنطقة إلى بؤرة جاذبة لعناصر التطرف.
أما كيف بدأ السيناريو؟ .. وماذا كان يُراد لمؤسسات الدولة المصرية؟ .. وكيف أجهضت القاهرة كل هذا؟.. فهذا ما سنعرضه [موثقًا] عبر السطور التالية...
01 التبعية لأمريكا
فى أعقاب الإطاحة [شعبيًّا] بـ«محمد مرسى»، وحكم جماعة «الإخوان» من مصر (على خلفية بركان الغضب الشعبى فى 30 يونيو 2013م)؛ كان أن ألقى هذا الأمر مزيدًا من «الضبابية» على المشهد أمام صانعى القرار بـ«البيت الأبيض».. إذ بدت الحسابات أمام من قرروا إعادة ترتيب «الشرق الأوسط»، مضطربة إلى حد الجنون.
حينها - وربما للمرّة الأولى - كشف «إيميل نخلة»، المدير السابق لبرنامج تحليل استراتيجيات الإسلام السياسى بـ«وكالة الاستخبارات المركزية» (وهو أمريكى من أصول فلسطينية) عن أنه قاد بنفسه الاتصالات مع قيادات الإخوان، بدءًا من تسعينيات القرن الماضى.. وهو اعتراف، ساقه الرجل بين ثنايا أحد مقالاته الّتِى كانت تنشرها له وكالة (IPS) الإخبارية.
لكن.. لم تكن - قطعًا - هذه هى المرّة الأولى، الّتِى يطل خلالها الرجل بوجهه، قبل أن تتحول أفكاره - الّتِى عمل عليها فى صمت داخل وكالة الاستخبارات المركزية - إلى واقع ملموس.
ففى أعقاب ترك «إيميل نخلة» للخدمة «رسميًّا» فى العام 2006م؛ كـان أن شــرع فـى تألـيف كتابـه المهـم: (a necessary engagement)، الّذِى روج خلاله لأفكاره الّتِى عمل عليها داخل الوكالة، حول ضرورة ارتباط الولايات المتحدة الأمريكية بقوى الإسلام السياسى فى الشرق الأوسط.. وهو ما تلاه عدد من اللقاءات كان الرجل «نجمها الأول» بلا منازع.. إلا أن هذه الإطلالات، بدت أكثر من المعتاد مع صعود الإخوان للحكم فى مصر.. خصوصًا مع تزايد اضطرابهم السياسى الّذِى أنذر، بدوره، بسقوط سياسى «وشيك» لحكم الجماعة.
أما قصة برنامج الارتباط وقوى الإسلام السياسى [وتصعيدهم لسدة الحكم] نفسها (وهو ما كشفنا عديدًا من تفاصيله بكتابنا: كعبة الجواسيس)؛ فقد بدأت فى أعقاب أحداث 11 سبتمبر مباشرة.. إذ تم حينها استدعاء ضابط الاستخبارات الأمريكى «إيميل نخلة»، من قبل «البيت الأبيض»؛ لمعرفة موقف العالم الإسلامى من الأحداث.
حينها.. كان أن جاء رد «نخلة»، كالآتى: «عن أى عالم إسلامى تريدوننى أن أتحدث يا سادة؟.. هل عن مصر أم السعودية أم إندونيسيا أم ماذا؟!.. فالواقع أنه ليس ثمة عالم إسلامى واحد.. هناك أكثر من عالم إسلامى.. وكل منهم يجب أن يتم التعامل معه باستراتيجية مختلفة.. ومن هنا أرى ضرورة الارتباط بالقوى الإسلامية الصاعدة فى هذه البلاد».
.. وكان السؤال الثانى: ولماذا ترى أن هذا الأمر ضرورى؟
فتابع نخلة: (أقول لكم يا سادة - ببساطة - لأن هذا يخدم اهتماماتنا القومية.. فنحن لا نرتبط بالعالم الإسلامى لأننا لطفاء، أو أننا نحب المسلمين.. نحن نرتبط بالعالم الإسلامى لأننا نحتاج هذا الارتباط.. فهناك قوى إسلامية صاعدة تؤثر فى مليار ونصف المليار مسلم.. والحقيقة، أننا مستعدون لهذا الارتباط فى الوقت الحالى «عسكريًّا - اقتصاديًا - ثقافيًا - تعليميًا - تجاريًا».. والواقع يقول إننا منغمسون فى هذه البلاد.. فنحن نحارب فى بلدين منها.. ولدينا قواتنا المنتشرة على حدود العشرات من هذه الدول.. ولدينا علاقاتنا الاقتصادية والتجارية معهم.. ومن ثم عليهم أن يدركوا أننا لا نحاربهم، بل نصنع لهم «مشروعًا للنهضة»).
وأردف: اهتمامنا بالعالم الإسلامى لا علاقة له بالإسلام، فلا علاقة لنا بكم هو عدد الصلوات الّتِى يؤديها المسلم فى اليوم.. ولا كم هو عدد المرات الّتِى يذهب خلالها للجامع.. نحن نهتم فى (C. I. A) بمن يستخدمون «الدين» لتحقيق أهداف سياسية.. سواء أكانوا أحزابًا أم جماعات أم تنظيمات.. وسواء أكان ما يفعلونه قانونيًّا أم «غير قانونى».. فكيف لنا أن نتحدث عن مصر على سبيل المثال، من دون أن نرتبط بالإخوان (؟!)
... وكان هذا اللقاء إيذانًا ببدء تنامى «البرنامج» الّذِى أداره «نخلة» داخل المخابرات الأمريكية.. وكان الهدف النهائى أن تتحول منطقة الشرق الأوسط إلى [منطقة جاذبة لعناصر التطرف من العمقين الأوروبى والأمريكى]، فى أعقاب وصول تيار الإسلام السياسى إلى الحكم(!)
وفى محاضرة له، ألقاها فى 28 سبتمبر من العام 2010م، بجامعة سانت جونز؛ أضاف «نخلة» مزيدًا من الشرح، إذ قال: إن أحد الدلائل المهمة الّتِى تضمنها خطاب «أوباما» فى جامعة القاهرة، هو اختياره لمكان الخطاب فى حد ذاته.. فالأجيال الصاعدة فى مصر هى الهدف.. وكانت رسالة البيت الأبيض - الّتِى لم يدركها الكثيرون - أن ثمة تغييرًا لا بد أن يحدث.. فالولايات المتحدة سترتبط فى المقام الأول بالمجتمعات الإسلامية، لا الأنظمة الحاكمة للمجتمعات الإسلامية.. وارتباطنا بهذه الأنظمة من أجل موضوعات تتعلق بالأمن القومى بالأساس.. وكأن أوباما أراد القول: «إننا تخلينا عن فكرة تصدير الديمقراطية للأنظمة الحاكمة، واستبدلناها ببرنامج الارتباط مع المجتمعات الإسلامية.. وبالتالى لا بد ألا يكون ارتباطنا بالنخبة ذات التعليم الغربى،أو الّتِى تجيد التحدث بالإنجليزية.. بل بالقطاع العريض غير جيد التعليم، الّذِى ربما لا يجيد الإنجليزية على الإطلاق.. وإن كان هناك قطاع داخل هذه المجتمعات، الّتِى تشهد نموًا لقوى الإسلام السياسى،لا يتفق وسياستنا الخارجية، فلا يعنى هذا ألا نتحدث معهم.
وعلى هذا.. كان أن كثّفت «إدارة أوباما» من اتصالاتها (قبل اشتعال موجات ما اصطلح على تسميته بـ«ثورات الربيع العربى») مع جماعة الإخوان فى مصر؛ لوضعها على خط تماس مباشر مع [الأجندة الأمريكية] الجديدة بمنطقة الشرق الأوسط.. وهو ما قبلته الجماعة، و«تنظيمها الدولى» دون مواربة (!)
إلا أن ممارسات الجماعة (على أرض الواقع) اصطدمت [فعليًا] بأطياف المجتمع المصرى كافة، وبكل قوة أيضًا، فى ظل أوهام و«أحلام التمكين» [وأخونة مؤسسات الدولة].. وكان من جراء هذا الأمر أن تحطمت العديد من «مخططات واشنطن» نفسها [وسيناريوهاتها للمنطقة] على صخرة ثورة الغضب الشعبى فى 30 يونيو.
02 الجيش والمؤسسات الأمنية
ماذا أرادت «جماعة الإخوان» (عندما كانت فى السلطة) من الجيش والأجهزة الأمنية، على وجه التحديد؟
تبدو الإجابة «متوقعة»، إلى حدٍّ بعيد: يريدون أخونتهما، باعتبار الجيش «العمود الفِقارى» للدولة.
الإجابة [المتوقعة] تلك، ينقصها (بعيدًا عن محاولات الأخونة الظاهرة، وقت وصول الإخوان للحكم) عديدٌ من الأبعاد.. إذ كان ثمة مخطط [كامل] وضعته الجماعة قبل وصولها للحكم بنحو 7 سنوات، حول آليات التعامل مع المؤسستين: «العسكرية»، و«الشرطية».
ووفقًا لما كشفنا عنه، أيضًا، فى كتابنا: (كعبة الجواسيس: الوثائق السرية لتنظيم الإخوان الدولى)؛ فإنّ المخطط السابق، تم تضمينه فى وثيقة تنظيمية جامعة، عُرفت باسم: (وثيقة الرؤية الشاملة).. وكان من بين ما تضمنته الوثيقة: «إن الجماعة ترى أنّ السياسات الدفاعية والأمنية يجب أن تقوم على عدة مرتكزات»، منها:
الأمن مفهوم واسع.. وهو [قرين الإيمان]، وشرط التنمية.
اعتماد الجيش الشعبى «الرديف»، وتعبئة القادرين فى وحدات جيش احتياطى توازى أعمالهم المدنية؛ ليكونوا احتياطًا فعليًا للجيش، ورديفًا منظمًا له، من خلال دورات استدعاء دورية لتحديث المعلومات والانضباط العسكرى.
(.. أى أنّ الجماعة كانت تريد جيشًا موازيًّا للجيش النظامى.. لا فى مصر فحسب؛ بل فى كل دولة تصل فيها الجماعة للحكم).. وكان من بين «السياسات» التى اعتمدتها الجماعة؛ للتعامل مع المؤسسات العسكرية «القائمة» ذاتها: (تمهيد التربة العسكرية لاستقبال عقيدة التنظيم، عبر تثقيف المقاتل ثقافة إسلامية [تجعل منه جندى العقيدة]).
وفى مجال الشرطة والأمن؛ كانت سياسات الجماعة كالآتي:
أن تكون الشرطة وجميع أجهزة الدولة الداخلية وظائف مدنية.
تمهيد الأرض أمام «جهاز الشرطة»؛ لاستقبال عقيدة التنظيم، وأن يكون السلوك القويم، أهم معايير القبول للالتحاق به.. وهو – أيضًا - أهم شروط البقاء والاستمرار فيه.
استصدار التشريعات الّتِى تضبط مهام «الأمن السياسى» وتنظيم عملية الرقابة عليه.
إنشاء أجهزة [شرطة حماية الآداب والأخلاق العامة].
(.. أى أنّ الجماعة كانت تخطط – بالفعل - لتأسيس نموذج شبيه بـ «هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر»!).
وإجمالاً.. يمكننا أن نفهم من مضمون رؤية التنظيم الدولى «الشاملة!»؛ أن الجماعة الّتِى عانت لأسباب أمنية، فى الماضى، من إلحاق أعضائها بصفوف الشرطة والجيش.. كانت تسعى سعيًّا دءوبًا؛ لإسناد قيادة هذه المؤسسات إلى أفراد «مدنيين»، ينتمون إليها تنظيميًّا، حال وصولها للحكم.
ولأن الجماعة تعلم - يقينًا - أن هذه المؤسسات لم تتم أخونتها من الداخل، بما يسمح لها ببسط نفوذها التنظيمى؛ كان أن صاغت فكرة [الجيش الشعبى «الرديف»].. وهى فكرة تسمح لها فى وقت «قصير» بتقنين وضع أى ميليشيات مسلحة، يمكن استخدامها، بعيدًا عن الاحتكاك بالمؤسسة العسكرية، حال فشل سيناريو الأخونة (!)
أما على المستوى الداخلى.. فلم تمانع الجماعة من الإبقاء على جهاز «الأمن السياسى».. وهو ما يعنى أن الجماعة التى لطالما اشتكت – فى الماضى – مما كانت تصفه بسيطرة «الأمن السياسى»؛ كانت تخطط – بالفعل – لتوجيه القطاع نفسه لحسابها التنظيمى،إذا ما نجحت فى الوصول إلى رأس السلطة السياسية بالبلاد (!)
وما غاب عن قيادات التنظيم – خلال وضع تلك التصورات كافة – أن طبيعة «تكوين»، و«عقيدة» القوات المسلحة المصرية، لا يُمكن أن تسمح بـ«سيناريو الأخونة»، الذى أرادته الجماعة.. وكثيرًا ما أتت إليها إشارات متعددة فى هذا السياق من قبل «قيادات الجيش» أنفسهم.. وخلال أكثر من مناسبة.
ففى اجتماع وزير الدفاع، وقتئذ (الفريق أول عبدالفتاح السيسي) مع عدد من قيادات، وضباط، و«ضباط صف» القوات المسلحة بنادى الجلاء فى 14 فبراير من العام 2013م؛ كان أن شدد «السيسى» على تكذيب «أخونة الجيش».. وهو ما أكد عليه، كذلك «رئيس الأركان» حينئذ (الفريق صدقى صبحى)، إذ أرسل رسالة واضحة خلال زيارته لمعرض الدفاع الدولى بـ«أبو ظبى» مفادها: «إنّ الجيش بعيد عن السياسة.. لكنه مُستعد للتواجد على الساحة [فى ثوانٍ]؛ لحماية أمن مصر، إذا ساءت الأوضاع».
ولم يُدرك «الإخوان» مضمون الرسائل الحاسمة، التى أرسلها قيادات الجيش المصرى، حول أن عودة الفوضى للبلاد «خط أحمر» لن يُسمح بتجاوزه.. خصوصًا مع تزايد حالات الغضب الشعبى،ضد أوهام الجماعة حول إمكانية أخونة مؤسسات الدولة كافة.
لكن.. قبل شهور قليلة من تصاعد حدة الغضب الشعبى، ضد «حكم الجماعة»؛ كانت نذر انتفاض القاهرة [من جديد]، تلوح فى الأفق أمام عدد من متابعى الشأن المصرى (محليًا، ودوليًا).. ووفقًا لتقارير دولية (تتابعت بانتظام ابتداءً من مارس حتى بداية يوليو من العام 2013م)؛ كان المشهد فى مصر يبدو شديد التعقيد.. إذ استقرت قراءة عدد محدود من المحللين (فى البداية) على أن «الجيش المصرى» فى ظل الإخفاقات المتكررة للإخوان [وعدم صلاحيتهم للاستمرار فى الحكم] سيضطر للتدخل؛ لإعادة ضبط «الإيقاع» بالقاهرة.. فالجيش (إذا تصاعدت موجة الاحتجاجات الداخلية) سيكون «مضطرًا» إلى أن يتصدر المشهد من جديد؛ لتمهيد الطريق أمام التحول الديمقراطى.
وأشارت «التقارير» ذاتها إلى أن قيادات الجيش تبدو أكثر حرصًا على الاستقرار، من جماعة الإخوان.. إذ لا تريد قياداته القفز على السلطة بشكل مطلق.. بل ما يشغلها فى المقام الأول، هو الحفاظ على التماسك الداخلى للقوات المسلحة المصرية.. وهى رغبة كفيلة - فى حد ذاتها - بتأمين عمله على تسليم السلطة، عندما تتحسن الظروف لسلطة (مدنية)، تؤمن - فعليًّا لا شكليًّا - بالديمقراطية.
.. وتزامنًا مع المهلة الّتِى منحها الجيش المصرى لـ«مرسى»، عقب مظاهرات الغضب فى 30 يونيو 2013م، كتب الخبير العسكرى الأمريكى «جريجورى أفتاندليان» - محلل الشأن المصرى «السابق» بوزارة الخارجية الأمريكية - تقرير حالة لـ(مركز السياسات القومية)، ذكر خلاله: «إن الجيش المصرى يسعى للمصالحة الكبرى، إلا أن المسافة بين معسكرىّ «المعارضة والحكومة» ستبقى واسعة».
وأوضح «جريجورى» أن الجيش المصرى لا يسعى - فعليًّا - للعودة للحكم مرّة أخرى، خصوصًا بعد تجربته الّتِى امتدت لعام ونصف العام فى إدارة المرحلة الانتقالية - أثناء وجود المجلس العسكرى على رأس السلطة بالبلاد - عقب رحيل مبارك.. وتابع: لكن الجيش لا يريد - أيضًا - الفوضى.. ولهذا كان أن انتهى إلى ما وصفه بـ«خارطة الطريق» السياسية.
03 أخونة الداخلية
بحلول منتصف العام 2013م.. ورغم توافر العديد من المؤشرات «الأولية» أمام «صانعى السياسات الأمريكية»، حول أنَّ ثمة اضطرابات «محتملة» بسلطة «الإخوان» فى مصر (فيما قبل 30 يونيو، من العام 2013م)؛ فإن السقوط المُدوى لـ «الجماعة» بالقاهرة؛ أدى إلى ارتباك العديد من مُعادلات «البيت الأبيض» السياسية بمنطقتىّ: «الشرق الأوسط»، و«شمال إفريقيا».. إذ كانت «الولايات المتحدة الأمريكية» (خلال مرحلة «ما قبل السقوط»)، قد بنت العديد من تصوراتها، تأسيسًا على وجود «شريكها الإسلامى»، فوق قمة «هرم السلطة» بالمنطقة.
ومن ثمَّ.. كان أن اتّخذ «البيت الأبيض»، فور الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية بالقاهرة (أى انتخابات العام 2012م)، عددًا من الخطوات «الجادة»؛ لترسيخ نفوذ ذلك الشريك (تمكينه)، وتدعيم «أركان نظامه»، بشكلٍ متداخل، مع مؤسسات «الدولة المصرية» المركزية، ذاتها.. إذ كان أغلب تلك «المؤسسات»، يُعانى – وقتئذ – من بعض الاهتزازات «الداخلية»، فى أعقاب ما شهده الشارع العربى (بشكل عام) من اضطرابات، واحتجاجات، أدت إلى «تخلى»، أو «تنحى» عدد من رءوس أنظمته «السابقة» عن السلطة.
وكان من جراء تلك «الاستجابات السريعة»؛ حلول وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة «هيلارى كلينتون» على القاهرة فى منتصف يوليو من العام 2012م (لمدة يومين).. حاملة معها «حزمة» من العروض، و«المطالب» للرئيس الإخوانى الجديد، تتعلق بعدد من الأبعاد، منها: (السياسى،و«الأمنى»، والاقتصادى)؛ لدعم «سيطرة» نظامه على مقاليد «الدولة المصرية» بصورة أكبر (!).. وهو لقاء؛ تمخض عن وثيقة أمريكية «رسمية» (مُفرج عنها حديثًا) - فى نحو 9 صفحات كاملة - تتعرض بسرد، و«حصر» أغلب ما تم طرحه خلال اللقاء، وقتئذ.. إذ تم توصيف «الوثيقة» - فى حينه - بأنها من الوثائق «السرية» لوزارة الخارجية الأمريكية.
ورغم ما تم الإعلان عنه، آنئذ، من أن اللقاء يأتى فى سياق ما وصف بـ«دعم العملية الانتقالية الناجحة إلى الديمقراطية فى مصر».. وأنه من أولويات «الولايات المتحدة»، تقديم «مجموعة واسعة» من المبادرات الجديدة للعملية الانتقالية، تستهدف: «الأولويات المصرية»، كالتنمية الاقتصادية الشاملة، وخلق فرص العمل، والحقوق والمشاركة، وقيام حكومة فعالة تخضع للمساءلة، (بالإضافة إلى: مساعدات «واشنطن» الاقتصادية، و«الأمنية»، وتعزيز السلام والاستقرار الإقليمي)؛ فإن تفاصيل ما تضمنته «الوثيقة»؛ اقتربت بشدة من جدران «الدولة المصرية» نفسها، لصالح «الشريك الإسلامى» القادم حديثًا إلى السلطة (!)
ففيما، كانت تسعى «جماعة الإخوان»، منذ بداية وصولها للحكم، إلى خلق قطاعات تابعة لها، داخل مؤسسات الدولة المختلفة (ومنها: «وزارة الداخلية»، باعتبارها أحد خصوم «الجماعة» فى الداخل).. كان أن قدمت «واشنطن» عرضها الأول لمندوبى الجماعة بـ«قصر الاتحادية»؛ للاقتراب – بصورة أكبر – من هذا الهدف.. إذ تطرق النقاش (فى شقه الأمني) بين «هيلارى»، و«مرسى» (خلال لقاء يوليو) إلى ما يُمكن أن يقدمه «البيت الأبيض» لشركائه الإسلاميين، فى هذا السياق.
.. وتحت عنوان: «هيكلة قطاع الأمن»؛ ذكرت «الوثيقة» (المُفرج عنها أخيرًا): إن «الولايات المتحدة الأمريكية» تتفهم جيدًا حاجة الحكومة المصرية الجديدة إلى «إعادة توجيه» (reorient) قوات الشرطة المصرية، و«هيكلة» قطاع الأمن المدنى (وزارة الداخلية).. وإن كانت «الحكومة الجديدة» تهتم بهذا الأمر؛ فيُمكن لـ«واشنطن» أن ترسل فريقًا حكوميًّا إلى «القاهرة»؛ لمناقشة «الاتفاق الإطارى» الخاص بالتعاون، حول هذا الأمر، فى «وقت مناسب».. وهو ما يُمكن أن يحدث فى «سرية»، و«تكتم» شديدين (!).. إلى جانب عرض آخر، يتضمن استعداد «واشنطن» لإرسال «فريق أمريكى»؛ للعمل مع الخبراء المصريين، والأوروبيين، على تعريف «السلطات المصرية» الجديدة بقواعد «الأمم المتحدة» (!)
وفى تقديرنا «الشخصى».. فإن وجود «وثيقة» من هذا النوع (أى «وثيقة» تتحدث بشكل صريح، ومباشر، عن أن «واشنطن» كانت تسعى نحو إحكام قبضة «الجماعة» فوق «وزارة الداخلية»، بدعوى إعادة هيكلتها)؛ يتقاطع «بشكل كبير» مع ما وضعه أمامنا (فى وقتٍ سابق) عدد من المصادر «الرسمية» بالدولة المصرية.. إذ سبق أن أكدت لنا تلك المصادر (فى أعقاب 30 يونيو مباشرة)، أنّ ثمة دورًا مهمًا كانت تلعبه القنصل الأمريكى بالإسكندرية «كاندس بوتنام» (فى سياق المستهدفات الأمريكية العامة)؛ لتمكين الجماعة من مفاصل «وزارة الداخلية» على وجه التحديد (!).. إذ قدمت «بوتنام» إلى «العاصمة المصرية الثانية» (الإسكندرية)، مدعومة بخلفيات أمنية «متنوعة»، حصلت عليها داخل «وكالة الاستخبارات المركزية».. وأنها (أى: بوتنام)، سبق أن التقت - أكثر من مرّة - القيادى بالجماعة «عصام الحداد» للغرض نفسه (!)
كما يُمكننا – هنا – ملاحظة أن «الإسكندرية»، كانت هى «المحطة الثانية» لهيلارى كلينتون، بعد لقائها و«مرسى» بنحو 24 ساعة، فقط (!)
وبحسب الوثيقة، أيضًا؛ فإن الموقف «الإخوانى» من «القضية السورية»، كان من النقاط المشتركة، التى لاقت استحسانًا من قبل «الإدارة الأمريكية»،، إذ كان موقفًا مناهضًا لنظام «بشار الأسد»، وداعمًا لاستقبال «معارضيه» بالقاهرة.. ومن ثمَّ؛ أبدت «هيلارى» ارتياحًا شديدًا لوجود وفد من «المعارضة السورية» بين أروقة «جامعة الدول العربية».. متابعة: أعتقد أنه حان الوقت، لأن يضغط «المجتمع الدولى» على جميع الأطراف فى سوريا؛ للقبول بخطة «كوفى عنان» السداسية.
.. ورغم أن العديد من تفاصيل ما دار خلال اللقاء، لم يكن معروفًا للعامة فى مصر، بشكلٍ تفصيلى؛ فإن «المثير»، هنا (وفقًا لما رصدته فى حينه، أيضًا، العديد من وسائل الإعلام الدولية)، كان فى رد فعل أغلب «الجماهير المصرية» خلال اليوم الثانى للزيارة .. إذ استُقبِلت «هيلارى« (بعد لقائها مع «مرسى») أثناء توجهها للإسكندرية بالعديد من المظاهرات، التى رُفعت خلالها «الأحذية» فى وجهها.. كما رُشق موكبها بـ«الطماطم»؛ احتجاجًا على تدخل «الإدارة الأمريكية» فى الشأن المصرى الداخلى (الانتخابات الرئاسية، نموذجًا)، فضلاً عن دعمها لعناصر «التطرف الإسلامى».. وإمعانًا فى مكايدتها؛ صرخ المتظاهرون: «مونيكا».. «مونيكا» (أى: العشيقة السابقة لزوجها «بيل»!).
كان من بين ما تعرضت له «الوثيقة»، أيضًا، هو المساعدات الاقتصادية، التى يُمكن أن تقدمها «إدارة أوباما» لنظام الجماعة.. إذ أوضحت «هيلارى» لمرسى أن «واشنطن» ترغب فى دعمه بما يحتاجه.. وأنه كما تحدث مع «بيرنز» (قبل أسبوع من لقائه معها)؛ فإن الطريق الوحيد لسد فجوة الـ«12 مليار دولار» بالميزانية، وتجنب أزمة اقتصادية حادة.. هو أن توحد «الحكومة الجديدة» جهودها مع «صندوق النقد الدولى».. وتتعاون مع شركاء مصر الإقليميين (خصوصًا جيرانها).
وأوضحت «كلينتون» أن هناك اهتمامًا فى واشنطن بدعم المشروعات (الأمريكية – المصرية)، فى سياق «مبادرة القطاع الخاص»؛ لدعم نمو «المشروعات الصغيرة»، وخلق «فرص عمل» فى مصر.. وأن هذا الدعم؛ سوف يكون فى صورة شراكة بين «الولايات المتحدة»، ورجال الأعمال المصريين (الصندوق المصرى الأمريكى للشركات)؛ لضخ رءوس الأموال الجديدة، إذ سيبدأ تمويل الصندوق بنحو 60 مليون دولار.. على أن تسعى «الإدارة الأمريكية»؛ لزيادة رأس مال الصندوق إلى 300 مليون دولار (بدعم من الكونجرس)، خلال خمس سنوات.
وأضافت «كلينتون»: إنَّ مجلس القطاع الخاص «المصرى- الأمريكى»، هو الذى سيقود عملية «تمويل الصندوق» المرتقبة، إذ وقع اختيارهم على «جيمس هارمون» (James Harmon)، الرئيس السابق لبنك التصدير والاستيراد الأمريكي؛ لقيادة هذا المجلس.
04 الأزهر والمؤسسات الدينية
تقتات «جماعة الإخوان» فى خطابها السياسى،على الدين.. لذلك كان أن تعاملت مع المؤسسة الدينية الأبرز فى العالم العربى (الأزهر) بالطريقة ذاتها التى حاولت أن تتعامل بها مع مؤسسات الدولة الأخرى.. إذ كان الهدف هو احتكار الخطاب الدينى،وتوجيهه – فى المقام الأول – لحساب التنظيم.. وبالتالى كان لا بُدَّ من إخراج المشهد بشكل مختلف(!)
كان المشهد «مُثيرًا» إلى حدٍّ بعيد (فى 29 يونيو من العام 2012م) داخل صحن [الجامع الأزهر].. وقتها؛ كانت «الكاميرات» تقترب من وجه المعزول «محمد مرسى».. وكانت بعض العبرات تنهمر من عينيه (!)
كان الوقت «صلاة جمعة».. وكان موضوع «خطبة الجمعة» التى ألقاها – فى حينه – وزير الأوقاف الأسبق «د. عبدالفضيل القوصى» يدور، فى أحد جوانبه، حول مشهد اقتحام خيول «بونابرت» للجامع (!)
حينها.. كان أن أبدى «مرسى» تأثره الشديد.. وقال – بحسب وسائل الإعلام، آنئذ – إنه يتعهد بالاقتداء بـ«عمر بن الخطاب» فى حكمه (!)
لكن.. لم يأت عمر.. ومن أتت هى «خيول الجماعة»، التى أرادت أن تُدنس صحن الجامع، من جديد(!).. ولأن «جماعة الإخوان»، كانت ترى – دائمًا – فى الأزهر خصمًا عتيدًا لها (لم تتمكن من أخونته، فى أى مرحلة سابقة)؛ فقد صبت جام غضبها على المؤسسة [وشيخها]، منذ اليوم الأول الذى وصل خلاله مرسى إلى السُلطة.
ومع بدايات يوليو من العام 2012م (أى فى أعقاب إعلان فوز مرسى)؛ كان المشهد داخل حفل تنصيبه رئيسًا للجمهورية مثيرًا للاستهجان، والاشمئزاز أيضًا.. إذ تم تهميش الإمام الأكبر (فى ترتيب الجلوس) لصالح أعضاء مكتب إرشاد الجماعة الإرهابية (!)
ثم تكررت مواقف مشابهة لهذا الأمر، طوال العام الذى قضاه «مُرسى» بقصر الاتحادية تقريبًا.. وكان الأمر فى حقيقته، محاولة لإجبار شيخ الأزهر على الرحيل من موقعه؛ لأخونة المؤسسة الدينية [الأعرق] فى العالم الإسلامى.. إلى جانب «احتكار الخطاب الدينى» تنظيميًا (!)
وبدأت خطة الأخونة، واحتكار الخطاب الدينى،من وزارة الأوقاف المصرية؛ إذ قرر التنظيم أن يضع على رأسها وزيرًا منه (طلعت عفيفى).. ثم المجلس الأعلى للشئون الإسلامية؛ إذ أسند التنظيم مهمته إلى عضو تنظيم الجماعة الدولى «صلاح سلطان» (وهو «دار عمى» بالمناسبة).. ثم دفعوا بصديق الجماعة «محمد عمارة» لتولى رئاسة تحرير مجلة الأزهر (كتفًا بكتف) مع كبار شيوخ المجلس (!)
وكانت الخطوة الأخيرة، هى الإطاحة بالإمام الأكبر (شيخ الجامع الأزهر)؛ ليصبح موقعه من نصيب مفتى الجماعة «عبد الرحمن البر» (!).. ورغم أنّ عديدًا من جوانب تلك الخطة تم تنفيذه بالفعل؛ فإن إخراج مشهد الإطاحة بـ«الإمام الطيب» كان مُختلفًا.. فإلى جانـب الدعايـة المنـاهضة لـ«الإمــام»، ووصفـه بمـا لا يليق ومكانته؛ كانت خطة «مكتب الإرشاد» أن يتـم تدبير واقعة [مُفتعلة]، تُمثل – فى مجملها - فضيحة وإهانة للإمام (!)
واستقر الأمر على تدبير واقعة «تسمم طلاب المدينة الجامعية».. وهى مسرحية [هزلية] تم تكرارها أكثر من مرة.. وما حسم الموقف – حينئذ – هو تولى القوات المسلحة المصرية أمر «التغذية» الخاصة بطلاب مدينة الأزهر الجامعية، حتى نهاية العام الدراسى.. مما أدى إلى إجهاض مخطط «أخونة الأزهر»، حتى تم إسقاط حكم الجماعة فى 30 يونيو من العام 2013م.
.. فتَحية للثائرين على «التطرف» انتصارًا لـ«الدولة الوطنية».