لماذا لم يعلن عن حرب الاستنزاف الثانية؟
نعلم جميعًا حرب الاستنزاف الأولى والتى أعقبت حرب 5 يونيو 67.. ونحن بصدد تذكرها هذا الأسبوع.. إلا أن الحقيقة هناك حرب استنزاف ثانية لم يعلن عنها بعد أعقبت حرب رمضان 73.
- الاستنزاف الأولى قامت بعد الهزيمة بأيام قليلة وأطلق عليها (تصحيح وضع) وأيضا (استرداد كرامة).. ونتيجتها كانت مبادرة.. (روجرز) التى قبلتها القيادة السياسية المصرية وتم على إثرها وقف إطلاق النار بين مصر وإسرائيل.. وهى حرب أطلق عليها فى العلم العسكرى الحديث (أول نموذج لاستراتيجية حرب استنزاف نظامية) محددة سلفا، وعن عمد من قبل القيادتين السياسية والعسكرية.. وأهدافها كانت الاعتراف بخوض حرب عادلة ضد مغتصب الأرض؛ لأن حروب الاستنزاف ارتبطت دومًا بالمواجهات الثورية أو حروب العصابات المدنية وعندما تقوم بها الجيوش النظامية تكون متحركة.. وهو ما استخدمه الجيش المصرى وأضاف إليه لأول مرة حرب الميادين الثابتة (جنبا إلى جنب) كون العدو أمامى ومحتلًا أرضى.. ولذا كانت أول حرب من نوعها فى العصر الحديث.. وهذه الخبرة هى ما يستخدمها جيشنا الآن فى حربه ضد الإرهاب بسيناء.
أما حرب الاستنزاف الثانية فكانت عقب حرب أكتوبر أيضًا بأيام قليلة مثلها مثل سابقتها فى يونيو ولكن الفرق أنها كانت حرب جيش أحرز انتصارا وقد مارستها مصر عقب وقف إطلاق النار فى ٧٣، وأثناء الفصل بين القوات التى قام بها وزير الخارجية الأمريكى وقتذاك (هنرى كسينجر) وهو ما أطلق عليها (مفاوضات مسلحة) ووسيلة ضغط عسكرى تستهدف استنزاف العدو وإجباره على الاحتفاظ بقوات كبيرة فى وضع الاستنفار الأمر الذى يؤثر على اقتصاده وإصابته بخسائر كمية تتحول بعد تراكمها إلى حافز للضغط عليه خلال المفاوضات وهذه الحنكة للقيادة السياسية والدقة العسكرية للعمليات فى مسرح الميدان كان لا يعلمها إلا قلة من قادة الصف الأول فى حرب أكتوبر أما البقية فكانوا يؤدون هذه الحرب الاستنزافية من دون علم منهم بمغزاها، مما جعلهم يعتقدون أنها نقلة نوعية لعمليات المعركة ولكنها أدت الغرض السياسى الذى كان يأمله الرئيس السادات.. وربما هذا يوضح بعضًا من خفايا الاختلاف بين السادات والشاذلى.
ولكن لماذا لم يعلن عن حرب الاستنزاف الثانية.. ربما يرجع هذا الأمر لسريتها وأن عددا لا يتعدى العشر من القادة فقط كانوا يعلمون بها وبمغزاها ولأنها موجودة فقط فى التاريخ العسكرى عن هذه الحرب المجيدة، وتم تدوينها من خلال شهادات هؤلاء القادة العظام الذين آمنوا على تنفيذها وبما أن وزارة الدفاع لم تفرج عن هذا التاريخ بعد فهى مازالت فى أمانة خزانة وزارة الدفاع.
ولعل اكتساب جيشنا جل احترامه من شعبه العظيم إنما يتأتى من احترام قادته لبعضهم والإيثار الذى يتحكم فى علاقاتهم.
وأتذكر فى هذا ما قاله لى الفريق الشاذلى عن اللواء حسن البدرى الذى كلفه الرئيس عبدالناصر بترؤس لجنة تقصى حقائق هزيمة يونيو، عندما ذهب إليه عبدالقادر حاتم «وزير الإعلام» وقتذاك وقال له إن الرئيس عبدالناصر يريد منه أن يتولى رئاسة وزارة الحربية ولكن البدرى رفض وقال إن الوزارة من حق اللواء محمد فوزى الذى جمع شتات الجيش بعد النكسة ومن حقه أن يأخذ هذه الفرصة وعليه بدأ فوزى وضع خطة حرب (الاستنزاف) يشاركه كبار قادة الجيش أمثال الشاذلى، ومحمد على فهمى، والجمسى، والعرابى، ومحمد صادق، وغيرهم ليعلنوا مسئوليتهم عن الهزيمة وكان للإيثار الذى قام به اللواء البدرى كبير الأثر فى نفسية الرئيس عبدالناصر فقام بتعيينه مستشارًا عسكريًا له.
وهكذا بقدوم ٥ يونيو نتذكر حروب الاستنزاف المصرية ويقيم الشعب تجاربه منذ رفضه المعنوى للهزيمة العسكرية واعتبارها (نكسة مؤقتة).. وعليه خرجت الجماهير يومى ٩و١٠ يونيو لتعلن رفضها للهزيمة كواقع سياسى وتطالب بتطهير الجيش وإعادة تنظيمه وإعداد خطوط دفاع جديدة على الضفة الغربية للقناة؛ ليُعطى جيشه دفعة معنوية كبيرة جعلته يقدم على أول معركة بعد النكسة بأيام (رأس العش) بقوة من جنود الصاعقة المصرية.