د. مني حلمي
الدين.. كيف يتحول إلى طاقة تنويرية ثورية؟؟
نحن مجتمعات، نقف فى منتصف الطريق، ونرقص على السلالم.
لسنا كالمجتمعات الأوروبية، التى ثارت ضد سلطان، وتسلط الكنيسة فى العصور الوسطى. وقررت بعد كفاح دموى طويل، فصل الدين عن الدولة، وإقامة المجتمع المدنى، حيث الدين علاقة شخصية، وخاصة جدا، بين الإنسان، وربه. وليس لأحد، أن يسائله، أو يراقبه، أو يتهمه، بخصوص هذه العلاقة. وحيث تنظم المجتمع القوانين الوضعية، ومواثيق حقوق الانسان، وليس نصوص الكتب المقدسة. وحيث الإنسان سيد مصيره، وتغيير ظروفه، بعقله الناقد، الجسور، المفتوح على كل الاحتمالات، والأسئلة، دون أن يخشى الاتهامات بالكفر، وتضليل العقول، وإفساد الأخلاق، والتعدى على العادات والتقاليد. ونحن لسنا مجتمعات، أدخلت الدين بشكل أصيل، وحقيقى، وجوهرى، يتجدد مع تغير الحياة، ويتناغم، مع أهداف العدالة، والحرية، والإبداع، والسعادة.
المأساة عندنا، أن الدين، لا هو «منفصل»، عن الحياة، بالشكل الذى يحقق حرية الاعتقاد. ولا هو «متصل»، بالحياة، بالشكل الذى يجعله طاقة تنويرية، وشحنات ثورية، تحارب ضد القهر، والظلم.
تتناول المسلسلات الدينية، بلغة صعبة، رجالا بذقون طويلة، وعمامات، وملامح متجهمة، يطاردون «الكفار»، فى حروب دموية. هذا اغتراب، مفزع، عن المعاناة اليومية للملايين.
فى كل مكان، يتكلم خطيب المسجد، عبر ميكروفونات شرسة، عن عذاب القبر، ومفاسد النساء. أهذا يليق بالوطن فى الألفية الثالثة؟
وهل يُعقل أن مصر، بعد نضالها فى ثورة 1919، من أجل السفور، وخلع الحجاب، نجد أن غالبية فتياتها، ونسائها، محجبات؟. هذا غير، المنقبات؟، باسم التدين، والفضيلة؟
هناك شباب، يعيش مع القمامة، وطفح المجارى، والذباب والناموس، محروم من بديهيات الحياة الكريمة، وفى المسجد، يجد منْ يأمرهم بالاستغفار عن ذنوبهم، والزهد فى متاع الدنيا، التى لا تعرف إلا عنوان الأغنياء. أن التخلى عن متع الحياة، أسهل لمنْ لم يتذوقها أصلا. أن المحروم من مزايا الأغنياء، أما «يزهد»، أو «يتجنن».
أى «ذنوب»، يقترفها شاب عاطل، يعيش وسط القمامة، والحشرات، والأمراض؟. عما «تستغفر» فتاة، لا تجد وظيفة، تعيش فى حجرة واحدة، مع عشرة أفراد؟. ملايين تحت خط الفقر، يسمعون فتاوى الاستعداد للموت، وهم محرومون أصلًا من فرصة الحياة.
القضية ليست، هل يوجد دين، أو لا يوجد؟ القضية، هى كيف يتحول الدين، إلى دافع وجدانى، يوحد الناس، ويذيب فى ود خلافاتهم الشخصية، من أجل يقظة جماعية، ضد عدوهم الواحد المشترك، ألا وهو الظلم، والفقر، والقهر. هذا العدو، الذى يكسر عظام الناس، ويذلهم، ويجعلهم أمواتا، وهم أحياء.
ليست القضية، هل الناس تؤدى الطقوس، والعبادات، إما طمعًا فى الثواب، أو خوفا من العقاب الإلهى، أو رغبة فى الاستعراض أمام الناس. ولكن القضية، هى كيف تمهد الطقوس، والعبادات، إلى خلق شخصية حرة التفكير، قادرة على النقد المستنير للأزمات، ومؤهلة للتمييز العقلانى، بين الشكل والجوهر، بين الوسيلة والغاية، بين الثانوى والأساسى، بين التجارة بالدين، للتربح والسلطة، وبين استلهام الدين، للتمرد، والثورة.
التحدى الأكبر، هو كيف يتحول حب الله، داخل كل مواطن، ومواطنة، إلى نقد ذاتى مستمر لسلوكياتنا اليومية، وإلى يقظة فكرية مبدعة، ضد قهر الإنسان، وتدمير كرامته، ومحاصرته بالقبح، والكذب، والزيف.
إن الإنجاز الأكبر، أمامنا جميعا، بكل اختلافاتنا، أن نحرر الدين، من كونه
«تركة» مجمدة، منذ آلاف السنوات، فى كتب الفقه، والشريعة، والتفسير، إلى «كائن» حى، يتنفس متغيرات الحياة، ويحملها إلى آفاق الحرية، والعدل، حيث الحد الأدنى، من المستوى الكريم، للمعيشة، والحقوق الإنسانية، مكفول، وفى تزايد، وارتقاء.











