الأحد 25 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد امبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد امبابي
مصر.. و«الأمن القومى العربى»!

مصر.. و«الأمن القومى العربى»!


بتبسيط «غير مُخل».. فإنّ [مفهوم الأمن] بالنسبة للدول، هو القدرة على مواجهة مصادر التهديد (الداخلية، والخارجية) أيًا كان مصدر تلك التهديدات: (عسكرية/ سياسية/ اقتصادية/ ثقافية... إلخ).
.. وبالتبسيط ذاته؛ فإنّ [مفهوم القومية]، يعنى توافر عناصر الارتباط بين «جماعة بشرية» ما، إما (إثنيًا/ أو لغويًا/ أو تاريخيًا/ أو ثقافيًا.. أو حتى فى وحدة المصير).

وعلى هذا.. يُمكننا فهم مصطلح [الأمن القومى العربى]، بشكلٍ عام، من منطلق أنه قدرة البلدان العربية (ذات «التاريخ»، و«الثقافة»، و«اللغة» المُشتركين) مُجتمعة، على مواجهة مصادر التهديد «الداخلية»، و«الخارجية» (عسكريًا/ وسياسيًا/ واقتصاديًا/ وثقافيًا... إلخ).. وفقًا لـ [رؤية مشتركة] لمصادر تلك التهديدات، وعبر [وسائل جماعية] مؤثرة.
المصطلح – إذًا – مُحدد الجوانب، وغير غامض.. لكن.. قطعًا اعتراه (على مدار سنوات مضت) نوعٌ من [التآكل].. إذ انشغل عديدٌ من البلدان العربية لسنوات بـ«الأمن الوطنى» (الداخلى)، على حساب «الأمن القومى» (العربى).. وبات كلُ بلدٍ مُنكفِئًا على ذاته، ومنشغلاً عن الآخر.. وأصبحت المنطقة [بأثرها] فى مهب رياح دولية، و«إقليمية» مزّقت – إلى حد بعيد – عناصر «التّوحد».. ثمّ تمددت على حسابها (!)

وفى سياق حالة «التشرذم» تلك.. كان أن غابت «الرؤية المشتركة»، وتصدرت نيابةً عنها حالات الاستقطاب (الدولية) لبلدان المنطقة العربية (سوريا نموذجًا).. وفى  خضم ما اصطُلح على تسميته بـ «ثورات الربيع العربى»  باتت مُهددات «الأمن الوطنى» [لا القومى!] لكل من «ليبيا»، و«اليمن» (على سبيل المثال) فى مرمى «نيران مُستعرة» تستهدف – فى المقام الأول – الإجهاز على مؤسسات «الدولة الوطنية».. ولا تزال المخاطر قائمة.
لذلك.. عبّرت كلمة الرئيس «عبدالفتاح السيسى» بقمة الظهران (بالمملكة العربية السعودية) عن تلك الحال بوضوح شديد.. إذ قال الرئيس: يأتى اجتماعنا اليوم، و«الأمن القومى العربى» يواجه تحديات غير مسبوقة.. فهناك دول عربية تواجه [لأول مرة منذ تاريخ تأسيسها] تهديدًا وجوديًا حقيقيًا، ومحاولات [مُمنهجة]؛ لإسقاط مؤسسة الدولة الوطنية، لصالح كيانات طائفية وتنظيمات إرهابية، يمثل مشروعها السياسى ارتدادًا حضاريًا كاملاً، عن كل ما أنجزته الدول العربية منذ مرحلة التحرر الوطنى، وعداءً شاملاً، لكل القيم الإنسانية المشتركة، التى بشّرت بها جميع الأديان والرسالات السماوية.
وكان من جراء تلك «التحديات» كافة؛ أن تمددت الأجندات (الإقليمية) على حساب «المصالح العربية» [المُشتركة].. فباتت «إيران» لاعبًا داخل الإقليم (الحالتان: السورية واليمنية نموذجان).. وتحينت «الأجندة التركية» (الأردوغانية) الفرصة؛ لتبسط نفوذها على أراضى الإقليم.. لذلك، تابع الرئيس قائلاً: وهناك دول إقليمية، تهدر حقوق الجوار، وتعمل بدأب على إنشاء مناطق نفوذ داخل الدول العربية، وعلى حساب مؤسسات الدولة الوطنية بها.. وأردف: إننا نجتمع اليوم، وجيش إحدى «الدول الإقليمية» متواجد على أرض دولتين عربيتين، فى حالة احتلال صريح لأراضى دولتين عربيتين شقيقتين.

وكان من بين ما يقصده الرئيس، هو التواجد التركى على أرض «الدولة السورية» فى الوقت الحالى.. وفيما يخص «القضية السورية» على وجه الخصوص؛ فإنّ مصر تنتهج نهجًا [واضحًا] منذ 4 سنوات.. وكان هذا النهج (فى حد ذاته)، كفيلاً - لو اتّحدت إرادة «الدول العربية» على نهج مُشترك – أن تتقلص من خلاله أجندات «التمدد الإقليمى».. إذ تتلخص «الرؤية المصرية»، فى الآتى:
(أ)- الحفاظ على وحدة الأراضى السورية، بعيدًا عن مخططات التقسيم [الدولية].
(ب)- الحفاظ على مؤسسات «الدولة السورية».. أى أنّ الرؤية المصرية أعمق فى مضمونها من الدعم الضيق لحكومة هنا، أو حكومة هناك.. إذ إنّ الحفاظ على «مؤسسات الدولة السورية» (فى حد ذاته) كفيل بتأمين بقاء الدولة نفسها مُستقبلاً.
(ج)- رفض أن تكون «سوريا» مركزًا لتصفية [صراعات القوى الدولية]، أو «الحروب بالوكالة».. إذ إنّ  الحلول  العسكرية لن تكون هى الفيصل فى الحل النهائى للأزمة السورية.
(د)- أن يكون [مسار التفاوض] بين الأطراف كافة، هو الحل «المناسب» لإدارة الأزمة.. وأن يتعاظم الدور «العربى/ العربى» فى إدارة الشأن العربى.. لا أن يترك الأمر لعواصف التدخلات الخارجية.
لذلك.. كانت النقطة الأخيرة تلك (على وجه التحديد)، من بين الالتفاتات [المهمة] التى توقف عندها الرئيس فى كلمته.. إذ قال: هناك اجتماعات تجرى لتقرير مصير التسوية (قاصدًا سوريا)، وإنهاء الحرب الأهلية الشرسة، التى أزهقت أرواح ما يزيد على نصف مليون سورى، من دون مشاركة لأى طرف عربى.. وكأن مصير الشعب السورى ومستقبله، بات رهنًا بـ [لعبة الأمم]، وتوازنات القوى (الإقليمية  والدولية).
.. وأضاف: فى الوقت نفسه، هناك طرف إقليمى آخر، زيّنت له حالة عدم الاستقرار التى عاشتها المنطقة  فى السنوات الأخيرة، أن يبنى  مناطق  نفوذ باستغلال قوى محلية تابعة  له، داخل أكثر من دولة  عربية.. وللأسف الشديد، فإن الصراحة  تقتضى القول، بأن هناك مِنَ الأشقاء مَن تورط فى التآمر مع هذه الأطراف الإقليمية، وفى دعم وتمويل التنظيمات الطائفية والإرهابية... لهذا، فإننى لا أبالغ، إن قلت أنّ بلادنا ومنطقتنا تواجه أخطر أزمة، منذ استقلالها وانتهاء حقبة التحرر الوطنى... وعلينا جميعًا تقع مسئولية كبرى فى وقف هذا التردى فى الأوضاع العربية، واستعادة الحد الأدنى من التنسيق المطلوب لإنقاذ الوضع العربى، والوقوف بحزم أمام واحدة من أخطر الهجمات التى عرفتها «الدولة الوطنية» فى المنطقة منذ تأسيسها.

تُدرك أيضًا «السياسة  المصرية» على وجه اليقين (وتكرر – مرارًا - أمام الجميع) أنّ «الثغرة» الأبرز، التى تم  توظيفها - خلال الفترة الماضية - من قبل القوى الغربية، هى طبيعة «البيئة الثقافية»، و«السياسية»، التى تعمل من خلالها عناصر «النظام الإقليمى» [شبه المُفكك] بمنطقة الشرق الأوسط.. إذ - غالبًا - ما  تتدخل دول المنطقة فى شئون بعضها البعض [من دون احترام كامل لمبادئ السيادة الوطنية]، وترتكن (بدعم من القوى الخارجية، فى الأغلب)؛ للحيلولة دون ظهور أى «قوى إقليمية» فاعلة.. وهى حالة تُعرف - فى سياق «العلاقات الدولية» - بنظام الدولة «غير الويستفالى» (Non-Westphalian state system).. و«النظام الويستفالى» [الذى تقف - فعليًّا - العديد من دول المنطقة، على النقيض منه] له هو الآخر قصة ترتبط بنشأة «النظام العالمى» من حيث الأصل.. إذ نشأ «المصطلح» فى سياق «بيئة أوروبية» خالصة، منذ 370 عامًا تقريبًا [للتعبير عن أول اتفاق دبلوماسى بالعصور الحديثة]، حيث عُقد (بعد قرن، تقريبًا، من الاحتراب، وعدم الاستقرار الأوروبى)، مؤتمرٌ للسلام بمقاطعة «ويستفاليا» (Westphalia) الألمانية بالعام 1648م.. وانبثق عن هذا المؤتمر ما بات يُعرف لاحقًا بـ«النظام الويستفالى» (Westphalian System)؛ إذ دشّن «النظام الويستفالى»  لمبادئ استقلال وسيادة الدول الوطنية، بما يُحقق حرمة «الحدود الجغرافية» لهذه الدول (أحد المبادئ الأساسية فى القانون الدولى).. وفى مراحل تاريخية لاحقة، توسع العمل بهذا النظام، حتى تم تأسيس هيئة «الأمم المتحدة» كسلطة عليا لهذا النظام.
لكن.. على أرض الواقع السياسى [من الناحية الشرق أوسطية]، كان أن تغيبت الخطوط العامة للنظام «الويستفالى» عن عديدٍ من ممارسات دول المنطقة.. إذ باتت المنطقة (فى سياق سياسات «محدودة الرؤية»، ومصالح ضيقة) أشبه بـ«عالم من الظلال» تختفى خلاله الحدود الفاصلة بين «سيادة الدول»، وبعضها البعض.. وهو ما مثّل - فى حد ذاته - أحد «الثغرات» الأكثر خطورة، التى نفذت منها العديد من «الأجندات الخارجية» (فضلاً عن عمليات «التوظيف السياسى»، فى سياق تنفيذ تلك الأجندات).
لذلك.. كان أن  قال  الرئيس السيسى  (بوضوح شديد): إننا بحاجة اليوم إلى استراتيجية  شاملة  لـ«الأمن القومى العربى»؛ لمواجهة التهديدات الوجودية التى تواجهها «الدولة الوطنية»  فى المنطقة العربية.. وإعادة تأسيس العلاقة مع دول الجوار العربى على قواعد واضحة، جوهرها احترام استقلال وسيادة وعروبة الدول العربية، والامتناع تمامًا عن أى تدخل فى الشأن الداخلى للدول العربية.. لقد سبق وطرحت مصر عددًا من المبادرات لبناء استراتيجية فعالة وشاملة للأمن القومى العربى، وتوفير مقومات الدفاع الفعال ضد أى اعتداء أو محاولة للتدخل فى الدول العربية.. وإننى على ثقة من أنه بالإمكان التوصل لهذه الاستراتيجية الشاملة [إذا توافرت الإرادة السياسية الجماعية]، وصَدَقَ العزم على التعاون لاستعادة زمام المبادرة، بشكل يُفضى إلى وقف الانتهاك المتكرر لسيادة واستقلال بلادٍ عزيزة من دول أمتنا العربية.

وما بين الدعم المصرى للتوجه «الويستفالى» (الداعم لسيادة الدول)، والتأكيد على ضرورة ضبط منظومة «الأمن القومى العربى».. كان أن أعربت «مصر»، بشكل كامل، عن جوانب عدة من رؤيتها الخارجية، بما يدعم المنظومة المُقترحة.. وهو ما يُمكن تلخيصه فى الآتى:
(أ)- لا للتصعيد العسكرى على الساحة السورية، لما ينطوى عليه من إضرار بسلامة الشعب السورى.
(ب)- سوريا أرض عربية، ولا يجوز أن يتقرر مصيرها وتُعالج مُشكلاتها إلا وفقًا لإرادة الشعب السورى.
(ج)- الأمر نفسه ينطبق على ليبيا واليمن.. إذ إن الحفاظ على وحدة وسلامة وعروبة هذه الدول، وقطع الطريق على أية محاولة من التنظيمات الإرهابية [ورعاتها الإقليميين والدوليين]؛ لتمزيق أوصال هذه الأوطان العربية، هو مسئولية الدول العربية مُجتمعة.
(د)- التكامل العربى، هو الحل الوحيد أمام تحجيم أجندات التمدد الإقليمى، التى تنتهجها أطراف غير عربية.
.. وتبقى الأيام المُقبلة [وحدها] هى الكفيلة بالبرهان على واقعية ما تقدمه القاهرة، فى ظل إعادة ضبط منظومة «الأمن القومى العربى»، والخروج بها من حيز «الرؤى الضيقة»، التى حاصرتها خلال الأعوام الماضية.