السبت 18 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
«أديب» فى بوليس الآداب!

«أديب» فى بوليس الآداب!


كان آخر ما يخطر على بال الأديب الكبير الأستاذ «فتحى غانم» أن يتم تحويله إلى بوليس الآداب والتحقيق معه بسبب روايته «الساخن والبارد» التى كان ينشرها فى مجلة «صباح الخير» التى كان يرأس تحريرها فى ذلك الوقت!!
لقد وصف الأستاذ «فتحى غانم» هذه الواقعة بأنها أول احتكاك أو صدمة له مع السلطة وذلك فى زمن الرئيس «جمال عبدالناصر»!!
والأغرب من ذلك أن الرواية عندما كانت تنشر أسبوعيًا على صفحات «صباح الخير» لم تثر أى ضجة أو يهاجمها أحد، لكن الأزمة والصدمة حدثت بعد طبعها فى كتاب فقامت الدنيا ولم تقعد!!
والحكاية بكل تفاصيلها المثيرة التى تثير الدهشة رواها فيما بعد فى عدة مقالات الأستاذ «فتحى غانم» ولا بأس من إعادة قراءتها ثانية!
يقول الأستاذ «فتحى غانم»: أول احتكاك أو صدمة بينى وبين السلطة كان عندما نشرت رواية «الساخن والبارد» فى كتاب، وكنت رئيسًا لتحرير «مجلة صباح الخير» ولاقت الرواية نجاحًا لم أتوقعه!! وقال لى «كمال عزب» وكان مديرًا عامًا لروزاليوسف إن السعودية اشترت منها أربعة آلاف نسخة!! وقال لى المرحوم «إسماعيل الحبروك» وهو يضحك إنه ذهب إلى مدرسة ثانوية للبنات يحاضر فيها فسأل عن الروايات التى يتابعونها فسمع طالبة تقول له رواية «السخن والبارد» وقال لى ضاحكًا: السخن أفضل من البارد!!

أما الدكتور «عبدالقادر القط» فقد كتب عن الرواية وانتقد ما وصفه بالجانب السياحى، إذ تنتقل بين دول إسكندنافية والقطب الشمالي!!
وبينما أتابع بشيء من النشوة هذا الاهتمام فوجئت بالأستاذ «يوسف السباعى» وكان عضوًا منتدبًا لمؤسسة «روزاليوسف» يقول لى ضاحكًا:
- أنت مطلوب للتحقيق!!
ظننت أنه يداعبنى فسألته: ومن الذى سوف يحقق معي؟!
قال بسرعة والابتسامة تختفى من وجهه: المسألة جد!! أنت كتبت الساخن والبارد والحكومة حولتك إلى بوليس الآداب!!
ويمضى الأستاذ «فتحى غانم» قائلاً:
«عندما قال لى «يوسف السباعى» إن الحكومة عندما حولتنى إلى بوليس الآداب لأننى كتبت رواية «الساخن والبارد» بدا لى أنه يقول كلامًا غير مفهوم، وهو أمر لا أتوقعه من كاتب بالغ الرقة شديد الانضباط لا علاقة له بأدب اللامعقول»!!
ولا أذكر أنى قلت ليوسف شيئًا أرد به على ما يقوله، فمن عادتى أن أحتمى بالصمت عندما ينتابنى إحساس بغموض ما حولي!! ولعل «يوسف» لاحظ حيرتى وربما ضيقى الذى أعبر عنه عادة بابتسامة لا معنى لها فأسرع يقول:
- الحكاية أن «كمال الدين حسين» هو الذى أرسل خطابًا إلى بوليس الآداب يطلب التحقيق معك، وأرسل احتجاجًا إلى الرئاسة يحتج فيه على السماح بنشر هذه الرواية!!
ويكمل الأستاذ «فتحى غانم» متسائلاً:
- لماذا غضب «كمال الدين حسين» وأى سلطات يملكها لفرض رقابة ومنع نشر رواية والتحقيق مع مؤلفها ولماذا اختار بوليس الآداب؟!
قلت ليوسف السباعي: ما علاقة بوليس الآداب بالرواية أو بكمال الدين حسين؟!
قال ساخرًا: كلام فاضح منشور فى «روزاليوسف»!!
قلت له: منشور فى «صباح الخير»!!
قال «يوسف»: ألعن وأضل سبيلاً فهى مجلة تخاطب الشباب!!
قلت له: تخاطب العقول المتحررة والقلوب المتفتحة!!
قال ساخرًا: أنت مسئول عن إفساد العقول وغواية القلوب!
لكن يوسف لم يواصل لعبة القط والفأر!! إنه طيب القلب بلا حدود وهو يفيض بمشاعر إنسانية جارفة، إذا كتب كلامًا عاطفيًا يبكى متأثرًا بما يكتبه!! من لا يعرف الرقة والمشاعر الإنسانية- وهم كثيرون- يتصور أنه ضابط ساذج تعود أن يطيع الأوامر ولا يناقش، وها هو يبتسم ابتسامة واسعة يضيء بها وجهه ويقول بسرعة:
- على أية حال أنا كلمت رئيس مكتب الآداب الذى عنده الخطاب!
سألته بجزع: وماذا قال لك؟!
قال وابتسامة ماكرة فى عينيه: لم يقل لى، أنا الذى قلت له ضع الخطاب فى درج مكتبك وتجاهل وجوده؟!
وتساءل «فتحى غانم» بدهشة: كيف؟!
ولم يتوقع أبدًا ما قاله «يوسف السباعى» ردًا على سؤاله، فقد قال شارحًا: رئيس مكتب الآداب أخى «محمود السباعى»!!
فسألته بلهفة: وهل وافق؟!
قال «يوسف»: عندما وصله الخطاب قرأه واحتار واتصل بى وسألنى ما العمل؟!
وأكمل يوسف السباعي: أظن أنه سينتهى إلى الأخذ برأيي؟!
ويكمل الأستاذ «فتحى غانم» باقى ما جرى قائلاً:
«انتظرت استدعائى والتحقيق معى والاتهام بأن ما أكتبه يدخل فى اختصاص شرطة آداب تطارد بيوت الدعارة وأوكار القمار، كيف وصل الأمر إلى هذا المستوي؟!»
وحاولت أن أستعيد فى ذاكرتى علاقتى بسعيد العريان الذى أدخلنى إلى مكتب «كمال الدين حسين» أحد كبار رجال الثورة ووزير التربية والتعليم، لقد عرفت «سعيد العريان» كأديب كبير يكتب قصصًا للأطفال، وله رواية رائعة لاقت رواجًا اسمها «على باب زويلة»!! وكنا نخرج معًا أنا و«أحمد بهاء الدين» ومدير تحقيقات وزارة التربية والتعليم ونأكل الكباب فى الحسين، وكان - سعيد العريان- تخرج فى دار العلوم، وكنت أذكره هو و«سيد قطب» من خريجى دار العلوم، واتجه العريان إلى كتابة النثر واتجه «قطب» إلى الشعر وكلاهما يتفوق بامتلاكه ناصية اللغة!!
ولقد غضب «سعيد العريان» منى غضبًا شديدًا عندما كتبت مقالات عن «طه حسين» كعقبة ضخمة فى طريق القصة لأنه يطارد كُتاب الروايات والقصص- ومن بينهم «توفيق الحكيم»- كمدرس للغة عربية يهتم بالفصحى حتى لو كانت على حساب التعبير الفنى المطلوب الذى يفرض على المؤلف كتابة كلمة عامية أو استخدام جملة دارجة!!
كان «سعيد العريان» يرى فى الدفاع عن الفصحى دفاعًا عن الدين والإسلام ويرى فى استخدام اللغة الدارجة تهاونًا واستسلامًا للثقافة الأجنبية، ولا شك أن كل هذا ينتهى إلى «فكر سياسى» يتبناه المحافظون على اللغة ويرتبط بالدعوة الدينية بدرجات قد تكون فى حدود الحرص على اللغة، والعمل مع «كمال الدين حسين» باتجاهاته الإخوانية كما هو الأمر فى حالة «سعيد العريان» أو الجهاد من أجل إعلاء كلمة الدين والاستيلاء على السلطة باسم الإسلام حتى تتبين معالم الطريق كما كان الحال مع «سيد قطب»!!
>>
ولا أعرف على وجه الدقة كيف غضب «كمال الدين حسين» ومن تشاور معه- ربما «سعيد العريان»- قبل أن يطالب بالتحقيق معى، وفى اللقاء الذى كان بيننا فى مكتبه كوزير للتربية والتعليم دار النقاش حول افتتاحية كتبتها فى «روزاليوسف» عن سياسة التعليم فى مصر، قلت فيها إن إقبال المصريين على معاهد التعليم يرتبط باللهفة على شهادة ووظيفة، فدخول المدرسة ليس للتعليم كهدف رئيسى!! إنما الهدف الرئيسى كسب الرزق!!
وكان «كمال حسين» يردد أنه معى فى تسعين فى المائة مما ورد فى المقال ويرفض عشرة فى المائة، واستمعت إليه وأنا لا أعرف كيف أحدد نسبة العشرة فى المائة، وكم منها يعود إلى كلامى عن البحث عن وظائف وكسب الرزق، وكم منها يعود إلى تفسير ظاهرة الغش فى الامتحانات كدليل على أن المطلوب هو الشهادة ولو بطريق الغش وبغير علم وليس المطلوب العلم فى حد ذاته!!
ويكمل الأستاذ «فتحى غانم» باقى ما جرى حول رواية «الساخن والبارد» فيقول:
«انقطعت أفكارى وجرس التليفون يدق وصوت «صبرى الخولى» مدير مكتب الرئيس «جمال عبدالناصر» لشئون الرقابة يطلبنى لمقابلته، وفى مكتبه ليلاً أخرج من أحد الأدراج رواية «الساخن والبارد»، وأطلعنى على صفحات جرى القلم الأحمر بخطوط عصبية تحت سطورها، (غضب كمال الدين حسين دينى ولكن لونه أحمر)!!
قال «صبرى الخولى» الذى أصبح فيما بعد الدكتور «صبرى الخولى» المندوب الشخصى للرئيس جمال عبدالناصر: هذا الوصف عن العلاقة بين رجل وامرأة متزوجة لم يحتمله «كمال الدين حسين»!!
قلت له: لو أخذنا بهذا المنطق لفرضنا الرقابة على القرآن الكريم ووضعنا خطوطًا حمراء تحت آيات من سورة «يوسف» وغيرها، ومنعنا تداول الكتب المقدسة ووضعنا الخطوط الحمراء تحت سطور نشيد الإنشاد!!
ابتسم وقال ناصحًا: أحسن لك أن تترك المسألة تهدأ فلا تكتب ما يثير غضب هذه التيارات!!
ويفسر فتحى غانم هذه النصيحة بقوله: «كان الذى يهمه هو التوازن بين تيارات متعارضة داخل السلطة، داخل مجلس الثورة، وكان واضحًا أنه يمثل الجانب الذى لا يرى فى الرواية عملاً فاضحًا، لكنه من ناحية أخرى لا يهمه إلا أمر واحد، وهو أن يتخلص من الحرج الذى يثيره أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة فى مناورات سياسية بين يمين ويسار واتجاه وآخر، أما الرواية وأما الكاتب بل الأعمال الأدبية كلها، فمن الممكن التضحية بها إذا أحرجت هذا التوازن الذى تطلبه القيادة السياسية! إذا ارتفع صوت غاضب جامح من تيار ما، فهناك استعداد لتقديم القربان لتهدئة الخواطر!!
>>
وقد خرجت من مكتب «صبرى الخولى» وقد بدأت بيننا مودة، استمرت بيننا وتبادلنا الكتب فقرأ كل رواياتى،  وقرأت رسالته الكبيرة عن فلسطين والتى حضرت مناقشتها فى قاعة الشيخ «محمد عبده» بالجامعة الأزهرية!
وعندما مضت الأيام ولم يصلنى استدعاء بوليس الآداب، تبينت عمق نظرة «يوسف السباعى» لما يدور فى كواليس السلطة، رأى أن احتجاج «كمال الدين حسين» كان مجرد استغلال للرواية للوصول إلى هدف سياسى فى صراع ما!! وتوقع أنه بمرور الوقت يمضى الصراع السياسى باحثًا عن مبررات جديدة ووسائل جديدة!! أما الرواية وأما الأدب فلا يوجد اهتمام حقيقى بهما، بل لا يوجد فهم لأهمية الثقافة، لأن مستوى الصراع السياسى ما زال دون مستوى الثقافة بل مستوى الحضارة!
ومن حسن حظى أن «يوسف السباعى» الروائى كان يدرك هذه الأمور ويسخر منها، ومن حسن حظى أن «محمود السباعى» كان رئيس مكتب الآداب، فلو صادف وكان من نوعية أخرى لانتهز فرصة الانقضاض على كاتب ورواية، ولما كانت هناك فرصة لأن تشغل إحدى خريجات كلية الآداب نفسها بإعداد رسالة عن العلاقة بين الشرق والغرب من خلال رواية «أديب» لطه حسين و«عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم و«قنديل أم هاشم» ليحيى حقى،  و«الساخن والبارد» وكانت السيدة «منى مشرط» صاحبة الرسالة تناقشنى فى العلاقة الحضارية والثقافية بين الشرق والغرب! ولم يخطر ببالها أن الرواية التى تتحدث عنها كانت معرضة للتحقيق أمام مكتب الآداب، وربما لو عرفت وهى سيدة محافظة لفزعت وألقت بالرواية كما لو كانت عقربًا»!
باختصار شديد وصراحة يعترف «فتحى غانم»: «لست من الذين أمسكوا القلم وكتبوا لأن لديهم رسالة سياسية يدعون إليها، كانت الكتابة بالنسبة لى أشبه بقضاء وقدر ومصير أندفع إليه برغبة غامضة أقوى منى،  وحدث ربما صدفة أن وجدت هذه الرغبة من ينتبه إليها».
انتهت حكاية «الساخن والبارد» لكن دلالاتها ومغزاها تبقى لغزًا حائرًا حول حدود العلاقة بين السلطة والأدب؟! أمس واليوم وغدًا!!>