
هاني عبد الله
وقائع إجهاض «حرب الغاز» فى شرق المتوسط
إن كانت السياسة فى أبسط تعريفاتها، هى «فن الممكن»؛ فإنّ العلاقات الاقتصادية، تُبنى - فى المقام الأول - على الاستغلال [الأمثل] للموارد المُمكنة (المُتاحة).. ومنذ اكتشاف «الهيدروكربونات» (المنتجات البترولية) فى شرق البحر المتوسط؛ جرت مياه كثيرة فوق شواطئ القارات الثلاث (إفريقيا/ آسيا/ أوروبا).. إلا أنَّ الصورة - فى كثير من الأحيان - كانت تحتاج لمزيد من الإيضاح، والتوضيح؛ إذ تتداخل خرائط «المياه الإقليمية» حَدَّ الالتصاق، وتتشابك «المصالح البترولية» داخل مساحات [ضيقة] من الخيارات.. وفوق قوس شرق المتوسط (نيقوسيا/ بيروت/ تل أبيب/ القاهرة) كانت تُدَق أجراس الابتهاج، إلى جوار طبول الحرب(!).. وتختلط «آمال المستقبل» بمخاوف [حذرة] من المستقبل ذاته(!).
لذلك.. كانت «القاهرة» هى الخيار الأمثل أمام الجميع؛ لضبط إيقاع الخطوات [المتسارعة] نحو أى صدام مُحتمل.. أمَّا كيف حدث هذا(؟!)؛ فهذا ما يحتاج - يقينًا - إلى إيضاح.
بحسب الخريطة [الحالية] لحقول الغاز فى شرق المتوسط؛ ثمة 5 حقول [أساسية] تحظى بالاهتمام الإقليمى، والدولي.. وهى وفقًا لترتيب الإنتاج [المتوقع]:
(1)- حقل ظُهر [المصرى] (يُقَدر احتياطى الغاز بالحقل بنحو 30 تريليون قدم مُكعب)، وهو حقل تم اكتشافه فى العام 2013م، ودخل أخيرًا فى مرحلة بدء الإنتاج الفعلى.. (كما يُعَد الحقل الأكبر على الإطلاق).
(2)- حقل ليفياثان [الإسرائيلى].. ويُقَدر احتياطى الغاز بالحقل بنحو 22 تريليون قدم مكعب (بحسب المُعلَن).. إلا أنه لم يدخل مرحلة بدء الإنتاج الفعلى بعد.. إذ يُقَدر دخول الحقل (المُكتشف فى العام 2010م) لتلك المرحلة بين العامين: (2019/ 2020م).
(3)- حقل تمار [الإسرائيلى].. ويُقَدر احتياطى الغاز بالحقل بنحو 11 تريليون قدم مكعب.. وهو حقل تم اكتشافه بالعام 2009م، ودخل مرحلة الإنتاج الفعلى بالعام 2013م.
(4)- حقل أفروديت [القُبرصى].. ويُقَدر احتياطى الغاز بالحقل بين 4.5 إلى 5 تريليونات قدم مكعب.. وهو حقل تم اكتشافه بالعام 2011م، ولايزال قيد التجهيز للدخول فى مرحلة الإنتاج الفعلى.
(5)- حقل كاريش/ تنين [الإسرائيلى].. ويُقَدر احتياطى الغاز بالحقل بنحو 2.4 تريليون قدم مكعب.. وهو عبارة عن مساحتين تم اكتشافهما بين العامين 2011، و2013م.. ومن المحتمل [بشكل تقديرى] دخولهما فى مرحلة الإنتاج الفعلى بالعام 2020م.
وفيما تُرشح «الخرائط الجيولوجية» المياه الإقليمية المصرية لمزيد من الاكتشافات [المُستقبلية]؛ كان ثمة تقديرات [مسحية] جديدة تُرشح بقوة المنطقة الواقعة بين [قبرص ولبنان] للانضمام إلى جوار نظيرتها المصرية.. إذ تُشير تقديرات «المسح الجيولوجى» (الخاصة بالولايات المتحدة الأمريكية) إلى أن المنطقة، بشكلٍ عام (أى: منطقة شرق المتوسط) يُمكن أن تحتفظ بأكثر من [340 تريليون قدم مكعب] من الغاز (أى: بما يفوق الاحتياطيات الأمريكية المؤكدة).
فى سياق المشهد السابق.. يُمكننا أن نتوقف [إقليميًّا] أمام عدد من الحقائق.. أولها: إنَّ ثمة حقلين ينتجان بشكل فعلى، هما: حقل ظُهر [المصرى]، وحقل تمار [الإسرائيلى]، وإنَّ الحقل الثالث الذى يُمكن أن ينضم إليهما فى القريب، هو حقل «أفروديت» [القبرصى].. وثانيها: إن ثمة حقلين إسرائيليين آخرين (أحدهما حقل صغير) لم يدخلا مجال الإنتاج [الفعلى] بعد.. وثالثها: إنَّ المنطقة (عَبْر الدراسات المسحية) تُرشح دخول عددٍ من المناطق [الجديدة] لحيز الإنتاج مستقبلاً.. إلا أن التداعيات الإقليمية لاكتشاف حقول الغاز [المرشحة للتعاون مستقبلاً]، لا تكفى فى حد ذاتها لفهم أبعاد الموقف؛ إذ ثمة بُعد [دولى] يقتضى الانتباه إليه جيدًا.
ففى سياق المشهد السابق، أيضًا.. يُمكننا من الناحية [العالمية] أن ندرك أنَّ المنطقة كانت قاب قوسين أو أدنى فى مرمى نيران «دولية» تتصارع خلالها الأجندتان: (الأمريكية، والروسية) على السياسة والاقتصاد فى آنٍ.. إذ كان ثمة «مشروع روسى» (يعتمد على الشريك التركى)، يستهدف من بين ما يستهدفه إيصال الغاز الروسى إلى العمق الأوروبى، مرورًا بـ«أنقرة».. إلا أنَّ «الدبلوماسية الأمريكية» (التى تعانى من ضعف «حالى» بمنطقة الشرق الأوسط) وجدت فى «هيدروكربونات» شرق المتوسط نقطة انطلاق جديدة؛ لتحقيق هدفين متصلين.. أولهما: إنَّ التعاون بين «حلفاء واشنطن» الإقليميين، سينعكس بالفائدة على استعادة جزءٍ من الأرض [التى خسرتها الدبلوماسية الأمريكية] فى الوقت الراهن.. وثانيهما: تقويض الامتداد الروسى [الساعى نحو أوروبا، عَبر أنابيب الغاز].
ومن ثمَّ.. كانت سياسات «القاهرة» (التى تمتلك علاقات متوازنة مع الكتلتين: الروسية والأمريكية)، هى صمام الأمان فى تهدئة تقاطعات المشهدين: «الدولى»، و«الإقليمى» على السواء.. إذ إن إمكانيات القاهرة الاقتصادية فى التحوُّل إلى «مركز إقليمى» للطاقة، وإسالة الغاز، وتصديره (فضلاً عن علاقاتها السياسية المتوازنة، وموقعها الجغرافى) رشحتها بقوة لكى تكون نقطة الارتكاز المستقبلية فى «إنتاج الغاز» بالمنطقة، والحفاظ على المصالح الاقتصادية للأطراف كافة.
يقينًا.. كانت تدرك «القاهرة»، بشكلٍ قطعى، ما يُمكن أن يؤول إليه المشهد فى «شرق المتوسط» إذا لم تتدخل بقوة؛ لضبط إيقاع الأحداث.. وهو ما انعكس [بوضوح] فى لقاءاتها «المتعاقبة» مع شركاء الإنتاج فى كل من: قبرص، واليونان.. وما تبع تلك اللقاءات من دخول «بيروت» على خط عمليات التنقيب.. واتساع المحادثات «الأوروبية» لتشمل الجانب الإيطالى أيضًا.
وفى الوقت الذى انشغلت خلاله أطراف إقليمية متنوعة (خلال الأيام القليلة الماضية) بأنباء الاتفاق بين «شركة دولفينوس» المصرية (وهى شركة خاصة) مع شركتيّ: «نوبل إنرجى»، و«ديليك دريلينج» (صاحبتا الولاية على غاز تل أبيب) على تصدير الغاز المستخرج من المياه الإقليمية الإسرائيلية إلى مصر [على مدار 10 سنوات، بقيمة 15 مليار دولار].. كان أن تبعت «نيقوسيا» (قبرص) تلك الخطوة بالتأكيد على ثبات «الخطوات المصرية»، فى تحوُّل القاهرة إلى «مركز إقليمى» للطاقة.. إذ أعلنت «قبرص» (وفقًا لـ«بلومبرج») أنّ «نيقوسيا» ستعمل (هى الأخرى) على إمداد مصر بالغاز المكتشف من «حقل أفروديت» [الذى اكتشفته شركة «نوبل إنرجى» أيضًا، وتتراوح احتياطياته ما بين 4.5 ، و5 تريليونات قدم مكعب].
وفيما قال وزير الطاقة القبرصى «يورجوس لاكوتريبيس»: إن قبرص على وشك بيع الغاز الطبيعى لمصانع تسييل الغاز فى مصر، ويمكننا التوصل إلى اتفاق خلال الأسابيع المقبلة.. قال «ريكاردو فابيانى» كبير محللى قطاع الطاقة لمنطقة الشرق الأوسط بمجموعة أوراسيا: «أخيرًا، جاءت اللحظة، التى يصبح فيها الحديث عن تحويل مصر إلى مركز إقليمى للطاقة حقيقة».
وبحسب بلومبرج، أيضًا. قالت كل من: شركة «نوبل إنيرجى»، وشركة «ديليك دريلينج» إنهما تخططان لتوفير نحو 64 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعى على مدى 10 سنوات لشركة دولفينوس القابضة المحدودة فى مصر من خزانات «تمار» و«ليفياثان».. بينما قال «تافى روسنر» المحلل فى «باركليز بلك» [الذى يتخذ من لندن مقرًّا له]: إنه يتوقع المزيد من الاتفاقات الأخرى (بما فى ذلك بيع الغاز الإسرائيلى لشركة رويال داتش شل بى إل سى، التى تدير محطة للغاز الطبيعى المسال فى شمال مصر).
أى أنَّ الأمر تحكمه (فى المقام الأول) علاقات تجارية بحتة بين «شركات خاصة».. لكن.. كيف كان يحسب «الكيان العبرى» الأمر خلال الأشهر الماضية؟!
وفقًا لمستوى «الاكتشافات الحالية فى إسرائيل»؛ فإنَّ تلك «الاكتشافات» تُعَد [بمقاييس عمليات التنقيب] كافية؛ لتلبية الطلب المحلى (داخل تل أبيب).. ومن ثمَّ.. كان أن أولَى «الكيان العبرى» أهمية قصوى لدراسة 6 احتمالات (مختلفة) للتعامل مع فائض إنتاج الغاز المستقبلى.. وكانت تلك الاحتمالات، بحسب تحليل سابق لـ«سيمون هندرسون» (بمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى) كالآتى:
الاحتمال الأول:
وهو احتمال التعاون مع «الأردن».. إذ توصلت شركة «نوبل» إلى اتفاق لمد شركة طاقة كهربائية أردنية بغاز «حقل ليفياثان».. لكن لم يكن من المتوقَّع تدفق أى غاز منه قبل مرور عامين على الأقل.. كما مَثَّل «الاتفاق» موضوعًا حساسًا للغاية فى الأردن، حيث تفاقمت التوترات التاريخية مع إسرائيل بسبب النزاعات الأخيرة بشأن القدس، وإغلاق السفارة الإسرائيلية بعد أن قَتَل أحد الحراس الإسرائيليين [أردنييْن] خلال جدال عنيف.. وقد تمَّ ذِكر خطط (رُغم تنافسيتها لكنها أقل واقعية)، من أجل استيراد الغاز من العراق أو محطات كهرباء نووية محلية.. ويُذكر أن واردات الأردن الحالية تحصل بواسطة ناقلات غاز طبيعى مسال تصل من الخليج العربى إلى ميناء العقبة على البحر الأحمر.. وسبق أن تمَّ تسليم واردات غاز «تمار» على نطاق صغير عَبر خط أنابيب من إسرائيل إلى مصانع على الجانب الأردنى من البحر الميت.
الاحتمال الثانى:
مصر عَبْر الأردن.. حيث يُمكن أن يصل غاز «ليفياثان» نظريًّا إلى مصر (عَبْر طريق غير مباشر) من خلال إسرائيل، ثم عَبر الأردن وصولاً إلى البحر الأحمر، حيث يُمكن ربطه بخط أنابيب مصرى قائم يمُر عَبر شبه جزيرة سيناء. غير أن الهجمات الإرهابية السابقة على هذا القِسم من خط الأنابيب لا تخدم هذا الخيار.
الاحتمال الثالث:
مصر عَبْر خط أنابيب بحرى قديم.. فحتى العام 2012م، كان الغاز المصرى يتدفق إلى إسرائيل عَبر خط أنابيب بحرى من العريش إلى أشدود. ويمكن نظريًّا استخدام هذا الخط لإرسال الغاز الإسرائيلى فى الاتجاه المعاكس إلى محطات الغاز الطبيعى المسال [فى دلتا النِّيل]، وتصديره من هذه النقطة عَبر ناقلات النفط.. غير أن خط الأنابيب مُثقل بنزاعات قانونية متداخلة، بما فيها حُكم صادر عن محكمة سويسرية يمنح إسرائيل تعويضًا بقيمة 1.7 مليار دولار بسبب قرار مصر وقف تدفق الغاز بعد الإطاحة بمبارك.
وفى هذا السياق (والقول لنا)؛ يُمكننا أن نتفهم أبعاد التصريح الأخير لـ«وزارة البترول المصرية» حول أن استلام الغاز الإسرائيلى هو [حل محتمل] لنزاع التحكيم بين الشركات المصرية والإسرائيلية.. وأن «مصر» تتابع خطتها؛ لتحقيق الاكتفاء الذاتى من الغاز الطبيعى بحلول نهاية العام والفائض بالعام 2019م، والمُضى قُدُمًا فى استراتيجيتها؛ لتصبح مركزًا إقليميًّا للطاقة» من دول شرق المتوسط (بما فيها إسرائيل وقبرص).
الاحتمال الرابع:
مصر عَبر خط أنابيب تحت سطح البحر من قبرص.. وأشار «هندرسون» هنا إلى زيارة سابقة قام بها عددٌ من كبار المسئولين التنفيذيين لشركة «نوبل» إلى مصر؛ لإجراء محادثات مع وزير البترول والثروة المعدنية «طارق الملا»؛ لمناقشة احتمالات الاستثمار.. وكذلك إنشاء خط أنابيب فى قاع البحر يمتد من حقل «أفروديت» إلى مصر.
الاحتمال الخامس:
إيطاليا عَبر خط أنابيب تحت البحر يشمل قبرص واليونان.. وهو لايزال اقتراحًا طموحًا من أجل «مشروع خط أنابيب شرق البحر الأبيض المتوسط».. إلا أنه لايزال قيد الدراسة من قِبَل كل من: إسرائيل، وقبرص، واليونان، وإيطاليا، حيث التقى وزراء الطاقة من هذه الدول فى قبرص فى 5 ديسمبر (الماضى). وقد وُصِف المشروع بأنه ممكن، رُغم أن تكلفته تُقدَّر بنحو 7.36 مليار دولار، ويستغرق بناؤه من 6 إلى 7 سنوات، وينطوى على تحديات فنية كبيرة بسبب العُمق الهائل للمياه.. وقد يعتمد جدوَى المشروع على الغاز الذى لم يُكتشف بعد.
الاحتمال السادس:
عَبْر «تركيا». التى تقوّض خطط (إنشاء) خط أنابيب يمر عَبر قبرص أو فى قاع البحر من خلال منطقتها الاقتصادية الحصرية.. إلا أنَّ الإخفاقات المستمرة فى إيجاد حل لتقسيم الجزيرة [المتنازع عليها] منذ العام 1973م، حال دون ذلك.. كما أنَّ ثمة عدم ثقة كاملة فى «الشريك التركى» لإسرائيل، رُغم نجاحات تجارة العبور التركية عَبر إسرائيل من ميناء حيفا إلى الأردن وما بعدها إلى الخليج.
بحسابات السوق.. يُمكننا - ببساطة - أن نستشف كيف دارت حسابات «شركة نوبل إنرجى» (التى وقَّعت، أخيرًا، عَقدها مع شركة «دولفينوس» المصرية).. إذ إنَّ أزمات «الاحتمال التركى» أكثر من منافعها.. كما أنَّ تكاليف «الاحتمال الإيطالى» (بحسابات المكسب والخسارة) لا يُمكن أن يُثمر - فى الوقت الحالى - عن عوائد استثمارية قريبة.. وبِغَض النظر عن تصدير غاز «ليفياثان» إلى الأردن؛ كان أن تصدرت الاحتمالات المصرية [الثلاثة] قمة أولويات التفاوض مع القاهرة.
وبما أنَّ العِبرة – دائمًا – بالنتائج.. فإن «الهدف» الذى أحرزته «القاهرة» (على المستويين: السياسى، والاقتصادى) فى غاز المتوسط، لم يكن وليدًا للصدفة.. إذ كان نتاج «إدارة بترولية» أقل ما توصف به، هو «الإدارة الرشيدة»؛ من أجل أن تضع «مصر» قدمها على الطريق نحو التحوُّل إلى [مركز إقليمى للطاقة] فى منطقة شرق المتوسط.